استراحة البيان ـ عبدالحليم .. وهذا المطرب ! ـ يكتبها اليوم: محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 11 شعبان 1423 هـ الموافق 17 أكتوبر 2002 استيقظ المطرب الكبير جدا، الثري جدا من النوم وهو يحس بالصداع، بالتأكيد من سهرة الأمس. لقد غنى كما لم يغن من قبل، وبعدها دعاه (فلان) إلى الاحتفال بنجاحه الكبير، كان علية القوم هناك.. ودعاه (فلان) على كأس فلم يستطع أن يرفض. انه يريد الحفاظ على صحته، فالصحة مهمة جدا للمطرب. وهو حتى الآن لا يفهم لماذا كان عبد الحليم حافظ مطربا رغم إصابته بمرض مقرف امتد سنوات طويلة، لابد أن النظام الناصري هو الذي فرض على الناس صوت عبد الحليم، وإلا كيف غنى مطرب مريض. ما علينا، شرب صاحبنا كأسا ثم أخرى قبل أن يعلن (فلان) عن هويته التي أدارت رؤوس الجميع، ولم تكن الهدية خاتمة المطاف فعندما انصرف دس فلان في يده شيكا، تأدب فلم ينظر إليه، لكنه نظر إليه في السيارة فوجد أنه من خمسة أرقام أحس بسعادة شديدة، وحاول أن يتذكر آخر حساب له في البنوك، وكيف أن هذا الشيك سيقفز بالحساب قفزة لا بأس بها. ان الشيك وحده يمثل نسبة هائلة من الثروة التي تركها عبد الحليم. انه يتوقع أن يسهر ذات ليلة، ويغني، فينفحه فلان أو علان شيكا يمثل ثروة عبد الحليم التي تركها بالمليم. يقول له: يا مطرب أنت أفضل من عبد الحليم ألف مرة بدليل أنني أنفحك الآن في شيك واحد ما يساوي ما حصل عليه عبد الحليم في حياته كلها، أليس يعني هذا أنك أحسن من عبد الحليم ؟! مازال الصداع ينوش رأسه. وهو مازال في الفراش مد يده يعبث بمؤشر الراديو.. أم كلثوم، مازال العصر الحجري يسيطر على الدنيا، محمد عبد الوهاب ملعون أكثر منهم وافق على أن يلحن له، ثم ماطله حتى مات. شادية. فريد الأطرش. فايزة أحمد، ثم استقر المؤشر على أغنية له، ابتسم، وأخذ يسمع في نشوة. الآن يسمع الأغنية معه الملايين.لابد أن يركز على الإذاعة والتلفزيون بعض المسئولين والمخرجين أصدقاؤه سيقنعهم بإزالة أغاني الآخرين ونشر أغانيه، ومن يتقاعس سيبحث عن نقطة ضعفه، غالبا ستكون المال، لا بأس من أن يفك شيكا من فلان أو علان ليوزعه على هؤلاء المساكين.وإذا وجد من يقاوم أوامره بعد ذلك، فلا بأس من استخدام القوة، علقه ساخنة في «الضلمة» وهو عائد إلى بيته، أو حادث مفتعل لسيارته، وبعدها سيسلم. هذا هو الطريق الوحيد، ولابد أن عبد الحليم مازال يدفع للإذاعات والتلفزيونات وإلا فلماذا مازالت تذيع أغانيه؟! لقد عانى في بدء حياته من التجاهل. كان يصنع الأغنية فلا يسمعها أحد، ولا تذاع إلا مرة أو مرتين، حتى عرف الطريق، في الحقيقة لم يعرفه في البداية تولى أمره آنئذ صاحبه، صاحبه كان مقتنعا به أشد الاقتناع، وكان يمتلك المال، فجر أغانيه في جميع الوسائط قال صاحبه ذات مرة في سهرة. - زمن أم كلثوم وعبد الوهاب - وعبد الحليم انتهى. الآن عصر صناعة المطرب لا يهمني الصوت يهمني الصورة، لا يهمني الصوت لأن التقنية تستطيع أن تفعل في الصوت ما تريد والمطرب لن يغني والسلام كما كان يفعل هؤلاء، بل لابد من دراسة السوق، الناس يريدون النط أثناء الأغاني ؟ ليكن. ستكون الأغنية من بدايتها إلى نهايتها نطا، الملحن الذي نتعاون معه لابد أن يدرك كيف يعالج ضعف الحنجرة أنا مستعد لتسويق حمار- أو دجاجة ! وأحس صاحبنا بإهانة كبرى خاصة وأن بعض الجالسين من الخبثاء سرقوا نظرات إليه فأدرك أنهم يرونه حمارا أو دجاجة، وتمنى أن يرونه دجاجة حتى تكون الإهانة أقل . لكنه ابتلع الإهانة وروجه صاحبه حتى صار ملء الزمان والمكان، وتوقف المؤشر عند ضي القناديل يا لهذه الإذاعة التي تذيع هذه الأغنية الكئيبة في الصباح . إنها تسود أيام المستمعين، عندما يفيق من حالته هذه سيكتب شكوى ويرسلها إلى الإذاعة وإلى الصحف، وبالطبع ستكون من مجهول فلو عرفوا أنها منه لظنوا والعياذ بالله أنه يكره عبد الحليم، وانتهت الأغنية وقال المذيع : استمعنا إلى أغنية كذا من المطرب الراحل عبد الحليم حافظ . يا عالم ماذا تعني صفة الراحل ؟ ألا تعني أنه ذهب ولن يعود ؟ الراحل هذا رجل مات، أتى الطبيب وكشف عليه وقال انه مات ، فصوت أهله ، وبكوا، وقاموا بدفنه تحت التراب حيث لا عودة . في هذه الحالة الطبيب إنجليزي أي أنه لاشك في خبرته أو ذمته ، فالراحل مات ولا ريب في هذا وحتى إذا كان هناك شك، وجوده في تابوت خلال الرحلة كاف للقضاء عليه . فإذا كان قد رحل لماذا يكبس على أنفسنا حتى الآن ؟ وفوجئ المطرب أن الصراع قد انتهى، وتساءل هل لأغنية عبد الحليم علاقة بالأمر، واستبعد ذلك نهائيا. وبعد طقوسه المعتادة قالوا له ان الكابتن قد حضر . والكابتن هو مدرب الشيش، لبس بدلة التدريب، ووقف أمام الكابتن برشاقة ليتعلم دروس السلاح . الكابتن معجب به أشد الاعجاب لأنه يجد وقتا لهذه الرياضة وسط حياته المزدحمة، المطرب قال له ان الشيش مهم جدا لحياته ، فهو يحافظ على لياقته ، ثم انه يفكر في السينما ، ولنفرض أن أتى له دور يتطلب المبارزة ،ماذا يفعل؟ هل يرفض؟! وبعد أن أخذ حماما قابل زائره الثاني المثال . لقد أتى باسمه من إحدى المجلات وطلب من سكرتاريته الاتصال به لقد رأى صورا لبعض تماثيله واختاره من بين الجميع . - لا أكتمك أيها المثال البارع أنني معجب أشد الاعجاب بالمطرب الراحل عبد الحليم حافظ ، وتمنيت لو أنني حضرت أيامه ، أو أنه حضر أيامي فلاشك أنه كان سيكرمني أمام الجميع ، فهو فنان حقيقي وبالتأكيد كان سيدرك مواهبي أكثر من الجميع، لكن حظى السيئ أنه رحل قبل أن أحظى بهذا الشرف. وأنا أريد أن أقيم له تمثالاً أضعه في بيتي لأراه صباحا ومساء. ترقرقت الدموع في عيني المثال ، وكان قد سمع ذات مرة عن كراهية المطرب لعبد الحليم . وقال انه سيصنع أجمل تمثال ممكن صنعه . لكنني لا أريد تمثالا تقليديا فأنا عندي حساسية من الحديد ولا أطيق البرونز ، وأرى الخشب شيئا رخيصا لذلك أريده من القماش ! احتج المثال ، وحاول أن يشرح وجهة نظره لكن المطرب كان مصمما . طلب المطرب الثري جدا صديقه الصحفي انه الوحيد الباقي من صداقات الصبا ، وقال له : فهمني يا صحفي كيف يغني مطرب للحجارة كما غنى مطربك للسد العالي ؟ قال له الصحفي حديثه القديم. قصة السد العالي هذه يا صاحبي قصة أمة، لقد أرادت مصر بناء السد العالي لأسباب كثيرة منها ضمان توفير المياه ، وزيادة رقعة الأرض المزروعة ،والتمهيد لصناعة قديمة، ولكن البنك الدولي ومن ورائه اميركا، رفض التمويل ولأن المشروع كان حيويا قرر جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس واستخدام دخلها في بناء السد العالي. فقامت حرب هي العدوان الثلاثي من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ولكن مصر خرجت منتصرة ،وبنت السد العالي خلال سنوات من العمل الشاق ، واصبح بناء السد حلما لكل مصري ، فلما تحقق الحلم جن جنون الشعب المصري وبينه عبد الحليم فغنى للسد العالي ! نظر اليه المطرب الكبير وتساءل إلى أي وقت يتحمل حديثه الوحيد من أيام الصبا؟ وفكر في التخلص منه قريبا! وبعد فترة أتى له بتمثال عبد الحليم حافظ، يا إلهي يكاد ينطق من اتقانه منح المثال أجره ، فلما بدا غيرته زاده، وطلب من الخدم أمامه وضع التمثال في غرفة النوم. ألغى مواعيده كلها في هذا اليوم. ولبس ملابس الشيش، والتقط سيفه. وواجه تمثال عبد الحليم ، لم يحس له بالكراهية مثلما أحس في هذه اللحظة، وانهال عليه تمزيقا حتى تصبب العرق منه .وجلس مبتهجا وهو يراه ممزقا، لكن في تلك اللحظة تسلل من النافذة صوت عبد الحليم «في يوم في شهر في سنة .. تهدا الجراح وتنام ، عمري وجرحي أنا أطول من الأيام».

Email