هواجس أميركا النفطية (1-2) ـ بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 11 شعبان 1423 هـ الموافق 17 أكتوبر 2002 ثلاث مناسبات أميركية حدثت في يوم واحد، هو بالتحديد الأربعاء، الثاني من أكتوبر الحالي. في الصباح نشرت «نيويورك تايمز» مقالا كتبه «أنتوني سوفورد» وهو عسكري أميركي شهد حرب الخليج في مفتتح التسعينيات لتحرير الكويت ضمن قوات مشاة الأسطول ـ المارينز وقد نشر مقاله توطئة لصدور وشيك لكتاب من تأليفه حول حروب المارينز وهم صفوة القوات المسلحة الأميركية، وقرب منتصف الليل من الأربعاء المذكور قدم برنامج «نايت لاين» السياسي الشهير الذي تبثه شبكة أي. بي. سي التلفزيونية في طول الولايات المتحدة وعرضها تحقيقا متلفزا حول حرب أميركا ضد العراق وعلاقتها بقضية البترول وأسعاره واحتكاراته ومستقبل امداداته واحتياطياته. تأملات جندي أميركي نفس الموضوع تطرق اليه مقال رجل المارينز المنشور في الصحيفة الأميركية الكبرى.. وبصرف النظر عن تفاصيل المواجهة التي عاشها العسكري الأميركي في صحراء الطرف الشرقي من شبه الجزيرة العربية ـ ولكنه اختتم سطور المقال بعبارات ذات دلالة خاصة قال فيها: - في آخر أيام حرب الخليج (الثانية).. وقفت أرقب الركام والرماد المتساقط من آبار البترول المحترقة وساعتها عرفت أنني كنت أتنفس ملء رئتي مادة النفط الخام الذي كنت أخوض الحرب من أجله. في نفس يوم الأربعاء إياه صدرت مجلة «ذي نيويوركر» تزف الى قارئيها نبأ الاحتمالات البترولية التي يمكن ـ كما قالت المجلة ـ أن تعوض أميركا عن بترول الشرق الأوسط ـ من الشقيقة السعودية بالذات ـ وعمدت المجلة الى تصدير هذا الموضوع الذي نشرته على طول 9 صفحات كاملة(!) يقول فيه كاتبه، جون لي أندرسون: إن ساو تومي، الدولة ـ الجزيرة الضئيلة الحجم الواقعة عند ساحل غرب أفريقيا ـ تجلس على مهاد قوامه بلايين من براميل النفط الذي لم يستخرج بعد.. وهي (فوق البيعة) تحب أميركا.. وبالتالي من ذا الذي يحتاج السعودية؟ هذا الهاجس النفطي أنت تتابع هذا وتقرأ السطور وتحاول أن تخترق وتتأمل ما بين السطور فإذا بك ـ ببساطة مباشرة ـ وقد صادفك منذ الانطباع الأول ذلك الهاجس النفطي الذي تلمحه مستبدا بالمنظومة السياسية الأميركية وإذا بك تدرك أو تكاد تدرك حقيقة أن السؤال الذي ينبغي طرحه عند هذا المنعطف الفاصل والحاكم لمجريات الأمور في الشرق الأوسط لا يتمثل في القول بتهديدات العراق وترساناته والى من تتوجه أميركا بجبروت قوتها وطاغوت أسلحتها الجبارة في البحر والجو والبر بل وعلى متن الأثير وأجواء الفضاء.. بل السؤال الأنسب والأقرب الى المنطق هو: - ما موقع البترول ـ ثروة العراق النفطية على أجندة المصالح الأميركية.. وما دور البترول بوصفه دافعا جوهريا لشن الحرب على العراق؟ ودع عنك ـ ولو لأغراض المناقشة حكاية القلب الأميركي الواجف حرصا على استمتاع شعبنا العراقي بثمرات الديمقراطية ـ مقرطة العراق كما يسمونها.. ولا عليك من حكاية التعددية المرتجاة على المسرح السياسي في بغداد، فكلها تعلات لا يصلح معها سوى تعبير تماحيك الساسة أو بالأدق الذرائع التي يسوقها من بنات أفكارهم كاتبو الخطب الرئاسية وصائغو البيانات التي تقصد أغراض الاستهلاك على الصعيدين المحلي والدولي على حد سواء. والهاجس البترولي ليس وليد اليوم، ولا هو يقتصر على قضايا الطاقة ـ بجوانبها الفنية أو التقنية.. إنه أدخل في باب السياسة وحلبة الاقتصاد السياسي.. وهو ليس مجرد دراسات ولا احصاءات أو بحوث أو تأملات، إنه معركة بكل معنى المعركة.. صراع يدور في السر والعلانية.. وتتراوح ايقاعاته بين مؤشرات المجامع الأكاديمية المعنية بالبترول وبين قرارات القصور الرئاسية أو الملكية أو الجمهورية وبين الترسانات التي يتحكم فيها الجنرالات. معركة الطاقة ببساطة أيضا هي معركة من أجل السيطرة على الطاقة. هذا هو بالحرف عنوان الدراسة التي سبق نشرها في ربيع العام الحالي ـ وقبل أن يطلع سدنة السياسة في واشنطن بحكاية خطر أسلحة العراق ودور العراق في محور الشر ومن ثم ضرورة شن الحرب على العراق. الدراسة كتبها خبيران في شئون النفط وأسواقه العالمية هما إدوار مورس (كان وكيل الخارجية الأميركية المسئول عن سياسات الطاقة) وجيمس ريتشارد وهو من كبار الخبراء في مجالات الاستثمارات النفطية. الدراسة منشورة في عدد مارس وابريل 2002 من مجلة الشئون الخارجية (فورين أفيرز) ومرة أخرى يوجه صاحباها السهام الى المملكة السعودية ودورها في سوق النفط العالمية وهو دور طليعي في ضوء أحجام الانتاج والاحتياطيات التي تضطلع بها الدولة العربية الشقيقة. من روسيا الى ساوتومي واذا كان الغرض المستهدف من مثل هذه الكتابات هو محاولة زحزحة المملكة عن دورها الطليعي هذا ـ فمن عجب أن تبدأ المساعي في الربيع بمحاولة تنصيب روسيا في هذه المكانة لتصبح كما يقول كاتبا دراسة الفورين أفيرز هي مورد الطاقة الرئيسي للغرب، ثم تنتهي هذه المساعي في الخريف الحالي نهاية تنطوي على مفارقة أكثر من ساخرة حين تتواضع بل تتضاءل وتنكمش التوقعات فإذا بالرهان يتنازل عن حكاية روسيا الى حيث ينحط على حكاية ساوتومي ـ الجزيرة المصغرة الواقعة في حضن الساحل الغربي لقارة أفريقيا. في هذا المضمار بالذات يلاحظ أيضا نوع من التكريس والتضخيم لدور العراق النفطي وخاصة في حقبة ما بعد صدام وهي ـ كما لا يخفى على فطنتك ـ حقبة ما بعد الحرب حيث يبدأ الفرقاء في حصد الأسلاب وتعداد المغانم.. وكأن القوم يقولون للشعب الأميركي أن ثمة جائزة يفوح منها «عبير الجاز» تنتظر واشنطن.. فقط إذا ما وافقت قطاعات الرأي العام على تعبئة الجيوش وتسيير الأساطيل وارسال حاملات الطائرات لتخوض حربها المرتقبة في مسرح العراق. مكانة العراق النفطية ليست صدفة إذن أن تنشر كبريات الصحف الأميركية ـ في هذه الفترة بالذات ـ أحدث الاحصاءات عن جائزة العراق ـ النفطية.. وأن ترصع هذه الاحصاءات بجدول له عنوانان يقول أولهما: - العراق منتج رئيسي للبترول. ويقول ثانيهما في مواجهة العنوان الأول: - وأميركا هي أفضل زبون لهذا البترول. وتحت هذين العنوانين يطالع القارئ الأميركي قصائد التغزل الاحصائي المشبوب في «وعود» البترول العراقي وعلى رأسها حقيقة أن العراق يضم ثاني أكبر احتياطيات نفطية في دول الأوبك (1125 مليار برميل) بعد السعودية (2593 مليار برميل) ويليه الكويت (94 مليار) ثم الامارات (922 ملياراً) وبعدها ايران (897 ملياراً) وأخيرا تأتي في ذيل قائمة الشرف البترولية فنزويلا، الجارة المشاغبة لأميركا (779 مليار برميل). في جانب مستوردي النفط والمحتاجين اليه في إلحاح شديد تأتي أميركا في المقدمة وتليها أوروبا (الغربية) ثم كندا واليابان وأخيرا كوريا الجنوبية. والمعنى بغير مواربة أن الدول الصناعية الفاعلة في العالم تدور تروسها وتهدد ماكيناتها وتتواصل رفاهيتها بفضل تدفقات نفط الشرق الأوسط (وفنزويلا الى حد محدد) في شرايين تلك الأقطار. اهتمام أميركي مزدوج ونحسب أن اهتمام أميركا بموارد وامكانات العراق النفطية هو اهتمام مزدوج: بمعنى أنه ينصب من جهة أولى على جانب الامدادات اللازمة للصناعة والانتاج بل ولصيانة إدامة الاحتياطي الاستراتيجي المخزون في مستودعات الطاقة الأميركية.. فيما ينصب من جهة ثانية في جانب اقتصاديات البترول.. من حيث النقل عبر الأنابيب وعلى متن أساطيل الناقلات ومن حيث معدلات الأسعار ومن ثم احجام الأرباح والاستثمارات الطائلة ـ المليارية إن شئت ـ التي تجنيها كبرى الشركات الأميركية العاملة في مجالات الاستكشاف والتنقيب والاستخراج والنقل والتكرير وعمليات التجهيز لمشتقات البترول ومن ثم توزيعه عبر المنافذ المختلفة الى أن يصل الى مستودعات المستهلكين. دراسة مهمة من هنا تكتمل الصورة بالدراسة التي نشرتها في الأيام القليلة الماضية الكاتبة الأميركية «نيلا بانريجي» وحذرت فيها أساسا من خطر حرب أميركا «العراقية» حرب الخليج الثالثة على اقتصاديات البترول ومن ثم حملت هذه الدراسة العنوان التالي: - الخبراء يقولون: ان استقرار أسعار النفط العالمية من المرجح أن يكون أول من يسقط صريعا من ضحايا الحرب المقبلة. تؤكد الدراسة في مستهلها أن حملة بوش ضد صدام حسين تحفل بعدد من الألغاز أو المجاهيل، كما تسميها الدراسة التي ما زالت محجوبة أو لم تجد طريقها الى التفسير بعد. لكن ثمة عنصرا متوقعا ومعروفا بشكل مسبق وهو أن حملة بوش على العراق كفيلة بأن تهز أسواق النفط العالمية من أساسها. والخشية هنا أمر طبيعي حيث يتوقع الخبراء أن تتعطل حركة الامدادات مما ينخفض معه العرض السوقي وترتفع الأسعار ربما الى مستويات لا تطيقها ولا تحتملها أسواق الاستهلاك. مع ذلك ينقسم خبراء البترول الى متشائم خوفا على وحدة العراق وخشية اندلاع صراعات أهلية ـ داخلية في ساحاته مما يؤدي الى تعطل الامداد النفطي، وبين متفائل بأن البترول سوف يكتسب مكانة أهم وأرفع في عراق المستقبل أو على حد تعبير جريج سوليفان خبير شئون النفط في الخارجية الأميركية: سيكون البترول هو عصب الحركة ودينامو دورانها في جهود اعادة إعمار العراق. وبالمناسبة ـ تشير الكاتبة الأميركية التي نحيل اليها ـ الى أن الخارجية الأميركية تضم حاليا عدة مجموعات عمل عاكفة منذ فترة على تجهيز خطط لعراق ما بعد صدام حسين، وإن كان سوليفان يقول مؤكدا: - لن يحتاج إعمار العراق أي مشروع مارشال (على غرار مشروع تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية) لأن بترول العراق سوف يتولى هذه المسألة دون حاجة لمساعدات أخرى. نتائج مخيفة من ناحية أخرى، هناك من الخبراء من تساورهم الخشية من أن تؤدي الحملة العسكرية الأميركية الى نتائج لا تحمد عقباها ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بعواقبها.. منهم من يخشى من اضطرابات في مناطق الجوار بشبه الجزيرة العربية بسبب المشاعر المعادية للعمليات العسكرية الأميركية، ومنهم من يخشى ردودا انتقامية من جانب النظام العراقي أو بعض فعالياته أو عناصره وقد تتخذ هذه الردود شكل أعمال تخريبية واسعة النطاق، خطيرة الآثار وقد تمتد لتلحق أفدح الأخطار بآبار البترول على امتداد مناطق الاستخراج أو الانتاج أو التصدير. هذه المعطيات كلها دفعت لفيفا من المراقبين والمحللين الى رصد البعد البترولي في كل ما يدور في العاصمة الأميركية ـ الادارة في واشنطن والأمم المتحدة وفي نيويورك ومراكز الانتاج الصناعي ومواقع النشاط المصرفي، ناهيك بدوائر الانتخابات التي ينشط في محيطها اعضاء مجلسي الكونغرس. وقد يبدو هذا البعد النفطي مستترا وقد يبدو متواريا في سلم الأولويات المطروح ـ دعائيا على الأقل ـ وقد تغطي عليه دعايات الميديا الرهيبة بشأن تحولات الديمقراطية واسقاط الديكتاتورية وتكسير محور الشر.. الخ.. لكن محور البترول يظل موجودا وفاعلا ومؤثرا ولو من وراء حجاب.. وكم هو دقيق ذلك التوصيف الذي ورد على لسان لورنس جولدشتاين رئيس مؤسسة بحوث البترول في الولايات المتحدة حين قال: - المسألة ليست حول البترول.. عظيم لكنها لاتلبث أن تتحول لتصبح.. حول البترول..! حكاية ساوتومي ومرة أخرى.. فهواجس الادارة الأميركية عديدة والكوابيس السياسية التي تنتابها كثيرة ومتنوعة ومنها ما يتلخص ـ كما نلمح من متابعة الأدبيات المنشورة ـ في محاولة الضغط على السعودية وبالتحديد محاولة ازاحتها أو زحزحتها عن عرش أكبر منتجي النفط في عالم اليوم، وكم هو طريف حقا أن تشمل هذه المحاولات الأميركية التلويح بمنافس مستجد اسمه ساوتومي على حد ما نشرته مجلة «ذي نيويوركر» بالأمس القريب. لكن.. ما هي بالضبط حكاية ساوتومي وبشائرها النفطية الطائلة؟ الى الجزء المتمم لهذا الحديث إن شاء الله. ـ كاتب سياسي من مصر

Email