أفول التجارب الحزبية العربية ـ بقلم: ماجد كيالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 10 شعبان 1423 هـ الموافق 16 أكتوبر 2002 تؤكد الأحداث الجارية في المنطقة العربية، منذ عقدين على الأقل، مدى خواء السياسة العربية وبالأحرى عقمها، على مختلف المستويات. وإذا تجاوزنا التكلس الحاصل في النظام السياسي الرسمي للبحث في واقع الأحزاب السياسية فإن الوضع لا يدعو للتفاؤل، أيضا. فالأحزاب العربية، في غالبيتها، تخلو من أي حراك داخلي يجدد شبابها ويعزز مكانتها ويفعّل دورها، بمختلف المعاني، إن بسبب تحول القيادة فيها إلى سلطة، بالمعنى الحرفي للكلمة، أو بسبب ارتهانها لوصفة المركزية الديمقراطية التي هي بدورها وصفة لتكريس عبادة الفرد من الناحية التنظيمية، ولسيادة التبلد الذهني من الناحية الفكرية، ووسيلة لحجب الجمود والفشل في حيز الممارسة السياسية، وهذا كله يفسر الاخفاق المريع الذي منيت به هذه الأحزاب سواء في الحفاظ على مكانتها أو في القيام بالدور التاريخي الذي زعمته أو توهمت أنها تمثله، في المجتمعات التي تعمل بها. ومثلا، إذا استعرضنا التجربة الحزبية العربية، على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي، يمكن ملاحظة المصير البائس للشعارات والقضايا التي طرحتها هذه الأحزاب، من مثل قضايا التحرير والوحدة والتقدم الاجتماعي أو الاشتراكية. انتكاسة كبرى وفي الواقع فإن الأحزاب العربية، الثورية (بمختلف تياراتها) أرادت حرق المراحل عبر نقل النخب العربية من الانشغال بقضايا النهضة والحداثة ومسائل التعليم والتنوير وتحرر المرأة وبناء دولة المؤسسات والقانون والتحرر من الاستعمار (وهي قضايا النصف الأول من القرن العشرين)، إلى الانشغال بالقضايا الكبرى مباشرة وعن طريق الثورة. ولكن هذه الأحزاب، كما هو معروف، لم تنجح لا في إحداث الثورة (بمعنى الكلمة) ولا في الحفاظ على الأولويات التي طرحها الفكر النهضوي العربي، وإذ بنا نشهد انتكاسة كبيرة للقضايا والشعارات الكبرى. فالوحدة العربية باتت أبعد منالا بعد أن تحولت اتفاقيات سايكس ـ بيكو من مجرد تجزئة على الورق، إلى حدود وحواجز ومتاريس على الأرض، تفصل بين مواطني البلدان العربية من النواحي السياسية، وأيضا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية الثقافية، وحتى في مجالات الهوية، وحتى أن الحلم بمجرد إيجاد نظام تعليم مشترك أو قيام سوق عربية مشتركة بات ترفا يفوق الاحتمال. أما الاشتراكية فتحولت إلى وصفة للجمود والركود الاقتصادي وإلى مجرد شعارات خالية من المضمون كما تحول القطاع العام إلى مصدر من مصادر الإثراء غير المشروع والفساد وأداة للسيطرة، وبدوره فإن شعار التحرير، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، غدا مصدرا للخلافات العربية ولتعميق الهيمنة على المجتمع كما لحجب واقع التدهور الاقتصادي. برغم من كل ذلك فإن الأحزاب السائدة، على مختلف مشاربها الفكرية، ما زالت مصرة على القيام بدورها التاريخي على الرغم من أن التاريخ تجاوزها، بعد أن انصرفت عنها كوادرها وقواعدها وحتى جماهيرها، وتكلست بناها وأثبتت عجزا متأصلا عن ممارسة السياسة في الواقع الجديد. والمشكلة أن هذه الأحزاب وبرغم كل صروف الدهر لا تبدو على درجة من التواضع والإحساس بالمسئولية إلى درجة تجعلها مستعدة لمراجعة أوضاعها وتجديد بناها ووسائل عملها وشعاراتها وأولوياتها، لا بل إنها على عكس ذلك فهي تحيل أوجه قصورها إلى الظروف الموضوعية وتخلف الجماهير وضعف الإمكانيات(!). وهي في ذلك تتجاوز حقيقة أنها هي بالذات كانت تتجاهل هذه الظروف وتستهين بها بمبالغاتها بدور العامل الذاتي المفترض، كما أنها هي بالذات التي كانت تزعم تمثّل إرادة الجماهير وطموحاتها لتغطية روح الوصاية على الجماهير، وبالنسبة للإمكانيات فهذه الأحزاب طالما استهترت بموازين القوى باعتبار أن العملية التاريخية هي عملية انقلابية إرادة وانعكاس لرغبات السلطة الحزبية فطرحت مهمات وشعارات بدت دائما أكثر بكثير من قدراتها ومن إمكانياتها، فضلا عن أنها تنسمت طرح القضايا الكبرى مستهترة بجوهر عملية التغيير التي هي عملية تراكمية مركبة وتدريجية، تبدأ من القضايا «الصغرى» وصولا لتحقيق القضايا الكبرى. إخفاق تاريخي وباختصار فإنه يمكن القول ان الأحداث بينت إخفاق مقولة الدور التاريخي(الثوري أو الانقلابي) للحزب، وتآكل مفهوم الحزب ـ الطليعة الذي يفترض نفسه وكيلا عن الشعب ووصيا عليه، ونهاية للعقلية الثوروية التي تحرق المراحل، وكان انهيار الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي (السابق) وفي غيره من الدول دليلاً على ذلك، كما يمكن أن ندلل على ذلك، في تجربتنا العربية، مثلا، بانهيار تجربة الحزب الاشتراكي في اليمن الديمقراطي بالشكل المأساوي الذي انتهت إليه وفي عودة المجتمع اليمني إلى أوضاعه الطبيعية كمجتمع قبلي ما قبل رأسمالي، أما في لبنان فقد عبرت هذه الظاهرة عن نفسها بتآكل نفوذ الأحزاب السياسية لصالح الأحزاب الطائفية وبطارقة الطوائف وأصحاب رأس المال وذوي السلطات. وكما في الساحة العربية، ففي الساحة الفلسطينية، مازالت بعض الفصائل تتحدث عن دور الحزب الطليعي الذي يمثل الطبقة العاملة، في وقت تحدث فيه تغيرات هائلة في عالم العمل والعمال، إذ تتقلص الطبقة العاملة من الناحية العددية فالعاملون في مجالات الخدمات ومن ضمنها المعلوماتية باتوا أكثر فئات المجتمع(60-70%) سواء في الدول المتقدمة أو النامية. أما اعتبار الطبقة العاملة طليعة المجتمع، أو أكثره ثورية،فهي مسألة بحاجة لمراجعة، إذ من المشكوك فيه مثلا أن هذه الطبقة لها مصلحة بتطور وسائل الإنتاج، فالتطور التكنولوجي والعلمي بات يؤثر سلبا على هذه الطبقة ويصيبها بتشوهات عديدة، ومن ناحية أخرى لم يعد التراكم الرأسمالي يحصل بنتيجة استغلال قوة عمل العمال، والحصول على القيمة المضافة تغير بسبب التطورات العلمية والتكنولوجية. ويبدو من المستغرب أن يتجه الحزب الشيوعي الفرنسي لتغيير اسمه فيما لا تزال أحزاب عربية تتمسك بهذا الاسم وبهذه الصيغة التي تعزلها عن بيئتها المجتمعية. وفي الساحة الفلسطينية يبدو الوضع أكثر مفارقة بسبب فقدان الأرض ومكان العمل والسوق وتشوه البنى الاجتماعية والاقتصادية، وطابع مرحلة التحرر الوطني. كل التطورات والمؤشرات تشير إلى حقيقة تآكل الأشكال السياسية القائمة، مهما كانت تلاوينها، وهذا التآكل، وبكل أسف ليس نتاج فعل عوامل موضوعية ـ خارجية، فحسب، وإنما هو نتائج عوامل الجمود الذاتي أيضا. والمعنى أن المجتمع الذي يفتقد للحد اللازم من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لا يحتاج للطرق القسرية والفوقية والدعائية للتغيير، لأن النتائج ستكون عكسية وسلبية، وعلى شكل اخفاقات واحباطات، ما يفترض البحث الجاد بإعادة تجديد الحياة السياسية العربية على قاعدة نقد المرحلة السابقة ببناها ووسائلها ومفاهيمها والبناء على ما هو قائم والتجاوب مع حاجات التجديد، انطلاقا من أن عملية التغيير هي عملية تراكمية وتدريجية وطبيعية. ولعل انتشار المعلوماتية والانترنيت وهيئات المجتمع المدني، التي تهتم بالقضايا الصغيرة والجزئية، وتنامي القضايا الاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن تشكل حافزا للأحزاب لإعادة النظر بشكل عملها وقضاياها، كي تنجح في القضايا السياسية التي تأخذها على عاتقها؟ ـ كاتب فلسطيني

Email