النزعة «الشوفينية» تتخطى الحدود الأميركية إلى أصدقائها وأعدائها ! ـ بقلم: د. طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 5 شعبان 1423 هـ الموافق 11 أكتوبر 2002 يعتبر الكثير من المؤرخين أن «النزعة» الوطنية تزداد قوتها في ظل الأنظمة الدكتاتورية والفاشستية، ويدللون على ذلك بما حدث عبر التاريخ القديم والمعاصر من خلال التمددات الامبراطورية التي دفع ثمنها شعوب حكمها مهووسون بتلك النعرة، ودفعوا بهم الى دخول حروب مهولة ضد جيرانهم تحت شعار اعلاء الدكتاتور والفاشستي باسم الوطن والوطنية. في العصر الحديث كان هتلر وموسيليني زعماء تلك النعرة التي وان نتج عنها توسع جغرافي كبير لألمانيا النازية أو ايطاليا الفاشستية، الا انها انتهت بكوارث حقيقية على تلك الشعوب التي صدقت زعماءها وسارت خلفهم تحت زعم اعلاء الجنس أو العرق كما حدث في ألمانيا، أو اعلاء الوطنية كما حدث مع موسيليني في ايطاليا، أو تنفيذ العناية الالهية لانقاذ الوطن من خطر «الديمقراطية» كما حدث مع الجنرال فرانكو في اسبانيا الذي قتل نصف مواطنيه ليبقي على النصف الآخر مسجونا في نظامه باسم الوطن والنظام والدين. في معظم الحقب التي شهدت رفع شعار الوطن والوطنية دارت حروب طاحنة راح ضحيتها الملايين، واتت على كل ثروات الأوطان والمواطنين من اجل ارضاء تلك النزعة المدمرة في اعلاء الوطن والوطنية في بلاد على غيرها من أوطان ووطنية الشعوب الأخرى. النموذج الأسوأ رغم أن هناك الآلاف المؤلفة من الكتب التي تحلل وتنظر وتنبه الى خطر تلك النزعات التي يعتنقها بعض السياسيين، وتنبه الى الآثار المدمرة التي يمكن أن تجلبها مثل تلك النزعات، ليس على من يقع ضحية لهؤلاء المجانين بحب السلطة، بل على الشعوب التي يبرز من بينها أمثال هؤلاء السياسيين المجانين بالشهرة أو القوة، الا أننا نشهد من جديد احياء لتلك النزعة الكريهة التي كانت سببا في معاناة البشرية لحربين كونيتين ساخنتين أتتا على الأخضر واليابس في أوروبا خلال القرن العشرين، وتسببتا في مزيد من المعاناة للشعوب الآسيوية والأفريقية التي كانت خاضعة لتلك الأمم المتناحرة خلال تطاحنها في تلك الحرب استجابة لنزعات الوطنية المجنونة لزعمائها. ثم أضافت الى تلك المعاناة معاناة جديدة من خلال حرب طويلة أسموها «الحرب الباردة»، وان كانت باردة في عرفهم لأنها لم تجر فيها دماء أو اشتعلت خلالها النار في بلادهم، الا أنها كانت حربا ساخنة جدا، بل وشعواء على بقية شعوب العالم التي لم يكن لها في تلك الحرب لا ناقة ولا جمل، فان كانت أوروبا والولايات المتحدة تحدثتا عن حرب باردة، فان تلك الحرب الباردة كانت تتحول نيرانا مشتعلة في العديد من مناطق العالم التي لم تكن طرفا أصيلا في تلك الحرب: فيتنام ولاوس وفلسطين والهند وباكستان ومعظم دول أميركا اللاتينية التي كانت تتذوق نيران تلك الحرب في شكل انقلابات عسكرية وحروب أهلية لا تزال آثارها باقية حتى بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي الطرف الآخر في تلك الحرب «الباردة». وبما أن النزعة الوطنية الشوفينية تبرز عادة لتخفي سلبيات ما في شخصية من يرفع شعارها، أو سلبيات في برامجه السياسية، أو قدرته على تسيير الأمور في البلاد، فان تلك النزعة عادت الينا من جديد مع وصول أقل رؤساء أميركا شعبية وهو جورج دبليو بوش الى البيت الأبيض في واشنطن، ويبدو أنها جاءت لتلقي ستارا من الدخان لاخفاء عجز هذا الرئيس عن مواجهة الاتهامات الخاصة بتزوير انتخابات بعض الولايات لتكون النتيجة لصالحه بفارق صوت واحد، لو تمسك منافسه باعادة عد الأصوات لكانت فضيحة أنقذه منها اتفاق الطبقة السياسية جميعها على تجنبها بالاعتراف بفوز بوش «المزيف» حتى لا تفقد تلك الطبقة مكانتها، فلا بأس من تقديم تضحية من وقت لآخر، اضافة الى أن أي من المرشحين في النهاية هو مرشح يخدم الطبقة نفسها. لذلك هناك من يؤكد وبأدلة قاطعة أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وجد في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضالته التي بحث عنها كثيرا لتنقذه من الهالة الرمادية التي أصبحت تحيط به من كل جانب منذ توليه مقاليد الحكم في البيت الأبيض، خاصة بعد ظهور أولى بشائر الفضائح المالية التي قال عنها أحد المحللين السياسيين الأميركيين، أنه بدلا من قيادة أميركا نحو حرب مدمرة لا يعرف أحد نتيجتها النهائية كان حريا بالشعب الأميركي أن يقود رئيسه ونائبه ديك تشيني الى السجون لمحاكمتهما على ما ارتكباه من جرائم اقتصادية تسببت في فقدان ثقة المواطن الأميركي في الشركات الوطنية، بل ما هو أخطر فقدان الثقة في الاقتصاد الأميركي كله، بعد أن تساقطت شركاته واحدة بعد الأخرى في شرك خداعها للمستثمرين، ولتصبح أسوأ نموذج يمكن استخدامه للدعاية لاقتصاد السوق المفتوحة في بقية دول الكرة الأرضية التي تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية عماد اقتصادها وتطالب العالم باستخدامه نموذجا للتنمية والتقدم. استلهام النعرات الخطير في الأمر الآن، ليس أن جورج دبليو بوش استولى على شعار «النزعة» الوطنية في بلاده، بل الأخطر أنه بدأ يرى أن هذه النزعة يجب أن تكون أميركية فقط، بمعنى أن على الآخرين قبول الهتاف بحياة أميركا، ليس في أميركا فقط بل في العالم كله، وتحريم الهتاف بأي «وطنية أخرى» في أي وطن آخر، ومن لا يقبل هذا الشعار الأميركي بلا مناقشة أو منافسة يصبح عدوا معلنا لأميركا وللرئيس جورج دبليو بوش نفسه. هذا التهديد والوعيد للآخرين بعدم الهتاف لوطنيتهم أوقع الرئيس جورج دبليو بوش في تناقض مع نفسه ومع أصدقائه عندما بدأ يبحث عن شركاء يتسترون على جرائمه السابقة والحالية في بلاده، وكذلك الجرائم التي يزمع ارتكابها ضد شعوب أخرى، ولم يعد له من خيار سوى الصمت وتولية وجهه وجهة أخرى حتى لا يغضب أولئك الذين يسيرون على دربه بشرط استخدام «نعرته» الوطنية لاقناع شعوبهم بقبول «النعرة» الوطنية الأميركية من خلال تقليدها. من هنا شهدنا أسوأ نموذج أوروبي يحتذي بما يسير عليه الرئيس جورج دبليو بوش وان كانت أسبابه مختلفة، وهو نموذج رئيس الوزراء الاسباني خوسيه ماريا أزنار الذي أستيقظ من نومه قبل أيام قليلة ليعلن على شعبه أن مشاكله قد تم حلها جميعا، وانه لم يعد هناك من طموح سوى اجبار جماهير الشعب الاسباني جميعا: يمينا ووسطا ويسارا على الهتاف بحياة الوطن، لذلك تقرر أن يقف الشعب كله مرة في الأسبوع ليشهد رفع علم اسبانيا الوطني المكون من ثلاثمائة متر مربع تسد عين الشمس في ميدان كولومبس على صاري أعد خصيصا بارتفاع خمسين متراً (!). حتى يمتثل الشعب كله لهذا الأمر الغريب على شعب يكاد يحاول تناسي ما عاشه من مآس في زمن الجنرال فرانكو صاحب شعار «النعرة» الوطنية في مواجهة أوروبا والعالم، أصدر رئيس الوزراء توجيهاته الى أعضاء حزبه بالتحرك في مواقعهم للوشاية بكل من يبدي رأيا مخالفا، واعتبر أن هذا العمل مهمة وطنية عليا، لأن عدم اجلال علم البلاد يعتبر خيانة وطنية. خوسيه ماريا أزنار رئيس وزراء اسبانيا يعرف تماما أن أغلبية شعبه لا تزال تذكر معاناتها من تلك النزعات الوطنية التي طحنت البلاد في حرب أهلية دامت ثلاث سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليوني قتيل، وما يقرب من عشرة ملايين هجروا الوطن خوفا من سجون الجنرال المنتصر، لذلك كان تأييده للمغامرات العسكرية التي ينوي الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مجرد نكتة سيئة السمعة، من هنا قرر أن يحتذي بتوجهات صديقه الأميركي الجديد، خاصة أن صديقه الأوروبي الوحيد توني بلير رئيس وزراء بريطانيا يسير على الدرب نفسه، وحتى يتجنب التعرض لأي انتقاد من جانب جورج دبليو بوش قرر أن يكون العلم الوطني الاسباني ضخما تشبها بالعلم الأميركي الذي ترفعه الأمة الأميركية خلال احتفالاتها الوطنية. ربما يشعر الرئيس الأميركي بالسعادة من الخطوة التي اتخذها رئيس الوزراء الاسباني، باعتبارها تسير على الدرب نفسه وترسي تقليدا أميركيا، لكنه بلا شك سيندم كثيرا اذا نجح المرشح اليساري البرازيلي «لويس انازيو لوولا دا سيلفا» في الوصول الى كرسي الرئاسة في بلاده خلال الجولة الثانية من الانتخابات بعد فوزه في الجولة الأولى بالمركز الأول بفارق كبير عن منافسه الثاني، لأن مرشح الرئاسة البرازيلي قرر أيضا انه في حالة فوزه سيستخدم «النزعة» الوطنية شعارا له، بل أكثر من هذا أنه أعلن أمام قادة وضباط الجيش البرازيلي خلال الحملة الانتخابية أنه يرغب في تحويل البلاد الى قوة «نووية» (!)، لأن البرازيل ليست أقل من الأرجنتين في هذا الشأن، الا أن هذه النزعة الوطنية البرازيلية التي يبحث عنها رئيس البرازيل المستقبلي ستصب في طرف العداء للولايات المتحدة، لأنه يعتبرها مصدر كل الأمراض الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعيشها البرازيل، وحتى يمكن الخروج من الأزمات الطاحنة التي تعيشها بلاده لا بد من بناء برازيل وطنية مستقلة بعيدة عن الهيمنة الأميركية. الشعار واحد، واستخدامه يكاد يكون واحدا، فاذا كان جورج بوش وخوسيه ماريا أزنار قررا استخدامه للتمويه على اخفاقهما في قيادة بلادهما السياسية، فان مرشح الرئاسة البرازيلي قرر استخدامه للوصول الى كرسي الرئاسة من خلال جذب أصوات الناخبين الذين يعانون من سلبيات وجنون النزعة الوطنية الأميركية المتمثلة في الشركات التي تمتص عرقهم ودماءهم بلا مقابل. ـ كاتب مصري مقيم في أسبانيا

Email