بدون عنوان ـ تكتبها: مريم عبدالله النعيمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 5 شعبان 1423 هـ الموافق 11 أكتوبر 2002 تحدثنا عن البخلاء فضقنا بهم ذرعا، وأشرنا الى سلبيتهم، وتحيزهم الاعمى لمصالحهم الشخصية على حساب الآخرين، فتولد لدينا شعور بالاستياء من تلك التصرفات السقيمة، ولربما استدعى الخاطر بعضا من الذكريات السجينة في دائرة الماضي الذي يراد نسيانه وقفزت صور من تظهر عليهم اعراض شبيهة بتلك التي هجمت على من لديهم قابلية الاستعداد لتكريس مصلحة الذات على مصلحة الآخرين فتعكر المزاج، وانزعج الخاطر، وارتفعت الابصار الى السماء تطلب ممن بيده تصريف القدر، بأن يواتيهم الحظ فيبتعد مثل هؤلاء الاقزام عن طريقهم، كي يصبح للحياة لون غير ذلك اللون الباهت الذي يلون افعالهم، ويغلف الحياة من حولهم بغلاف الوهم والخيبة!! ولكن ما بالنا نتحدث عنهم، وهم الجانب الأسوأ من الحياة، ويسرح بنا الخيال الى درجة تحديد سماتهم، واطلاق العبارات التي تندد بهم في فضاء الفكر المفتوح، الذي يفتش صبيحة كل يوم عن فكرة تحيّي عقله المضيء وتستقر في حيز مناسب يراها جديرة به. فأهل العطاء اذن احق بأن نخصص لهم هذه المساحة وان نروي من اخبارهم ما يذكي لدينا الرغبة بالاقتباس من شمائلهم الفريدة، عسانا ان نغنم معهم، ويصدق فينا قول الشاعر الناصح: وتشبهوا ان لم تكونوا مثلهم ان التشبه بالكرام فلاح ذروة سعادة احدهم ان يبسط يده، او وجهه ليخفف من معاناة الاخرين. ايقنوا بأن العطاء في معناه الواسع هو ان يجمع المرء من بستان الفضائل ما يطيق، ليعطر الوجود من حوله، ويحقق انسانيته التي يخفف من خلالها وطأة استفحال الامراض النفسية التي اكلت روح الانسان، وأتت على عقله!! علموا ان العطاء دليل «الوفرة» وان الشح دليل «الندرة» فرفضوا الرضى بالقليل، واختاروا حياة الوفرة حين ضاعفوا رصيدهم من الافكار الايجابية، والسلوك المتميز الذي اثرى الحياة من حولهم، وضاعف احساسهم بالزمن الذي بدا واسعا فسيحا قادرا على استيعاب حاجتهم منه ليكون وعاءهم الذي يحتوي ذلك التدفق النفسي نحو اهدافهم الكبيرة. ولو اردت ان تقرأ اول سطر في ديوان العطاء، وتحدد قدرة المرء على التحرر من شح نفسه، فتأمل قاموس كلماته، واكتشف الايحاءات والظلال التي ترمز اليها تلك الكلمات. فكما ان للشخصية ظلا، فللكلمة ظل ايضا، ولربما كان ظل الكلمة اكثر قدرة على كشف النوايا والاعلام بالسرائر مما سواه من الرسائل غير اللفظية التي يتلقاها المستمع. وتقدم اجابة الخليفة عبدالملك بن مروان بيانا شافيا حول حقيقة الشخصية التي تقف وراء الكلمات، وتبعث بالرسائل اللفظية الى الآخرين وهي مدركة تماما خطورة الفشل في توصيل تلك الرسائل الى الاشخاص المعنيين. فقد اشفق عليه احد افراد رعيته يوما، وقال له: نراك شبت يا أمير المؤمنين! فأجابه بكلمات موجزة وصريحة: شيبني صعود المنابر وخوف اللحن. فكان جوابه تجسيدا لاحساسه المرهف بصعوبة المهمة التي وضعت بين يديه. فاختيار الفكرة الجيدة، والاجتهاد في البحث عن الكلمة المؤهلة للتعبير عنها، ومراجعتها مع الذات مرات ومرات للاطمئنان على صحة اختيارها بين اخواتها من المترادفات، هو روعة الشعور بالواجب تجاه جمهور المستمعين، الذين يثمن مثولهم بين يديه، ورغبتهم في الانصات اليه. شعر الخليفة بواجب الكلمة، وبدورها في التعبير عن خططه وبرامجه الاصلاحية فازداد مؤشر الرقابة الداخلية وتحفزت عوامل اليقظة الذاتية تحضه على تحسين اختياراته لألفاظه وكلماته. فشاب شعر امير المؤمنين قبل اوان المشيب!! وضاعف من شعوره بالواجب ما جاء على طرف لسانه حين قال لصاحبه السائل «وخوف اللحن» واللحن في اللغة هو الخطأ في اعراب الكلمة، والتلقظ بها على غير ما قالت به العرب. فأكد من جديد بأنه قادر على العطاء، ليس على تجويد افكاره التي يعرضها ليستثمر تجاوب الجمهور في اتجاه البناء والتطوير فحسب، وانما اضاف الى دوره الخطابي، واجبا خاصا تجاه اللغة العربية التي رأى ان الاخلال بها ـ مع كونها وعاء للفكر ـ سوف يتعداها الى الفكر نفسه، وباهتمامه باللغة يكون قد صان واجبه تجاه الوعاء والمحتوى في آن معا!! رحم الله الخليفة الكبير عبدالملك بن مروان فقد اعطانا درسا في تحمل الواجب، وعلمنا أن العطاء الحقيقي يبدأ بالالتزام وليس بغيره من المهام!!

Email