قمة الفرانكوفونية في بيروت والدور الفرنسي الغائب ـ بقلم: د. محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 3 شعبان 1423 هـ الموافق 9 أكتوبر 2002 بعد ايام قلائل تنعقد في العاصمة اللبنانية بيروت قمة الفرانكوفونية بعد ان تأجلت لمدة سنة بسبب احداث الحادي عشر من سبتمبر في السنة الماضية. قمة بيروت لها اكثر من مغزى وأكثر من معنى، نظرا للظروف التي يمر بها العالم خاصة الشرق الاوسط مكان انعقاد القمة والذي ستمثله دول عديدة في القمة تعول عليها فرنسا كثيرا في الشأن الفرانكوفوني. تأتي القمة كذلك في ظروف يحتدم الصراع فيها بين الاتحاد الاوروبي بزعامة المانيا وفرنسا، والولايات المتحدة الاميركية. وتأتي هذه القمة في الوقت الذي تعارض فيه فرنسا ضرب العراق وتؤكد على استعمال الطرق السلمية لحل الازمة القائمة بين العراق والولايات المتحدة. من جهة اخرى تلاحظ فرنسا متحسرة تدهور نفوذها اللغوي والحضاري لصالح الولايات المتحدة الاميركية ولصالح اللغة الانجليزية. فبالنسبة لفرنسا تعتبر هذه القمة ردا للاعتبار ومحاولة فتح المنظمة على الجوانب السياسية والاقتصادية حتى تصبح اكثر فعالية وتستطيع ان تفرض نفسها على الصعيد الدولي. لقد حاصرت لغة شكسبير لغة فولتير في عقر دارها حيث اصبح العلماء والباحثون الفرنسيون ينشرون في مجالات علمية محكمة تصدر بالانجليزية، لا لشيء الا لان النشر في غير هذه المجالات الانجليزية لا يعني شيئا من الناحية العلمية حيث عدم الانتشار وعدم الاقبال على ما هو مكتوب بغير الانجليزي، الحاجز اللغوي. لقد عانت فرنسا الكثير مع حصار اللغة الانجليزية لها وبذل الوزير السابق للثقافة والسياسي المحنك جاك لانج قصارى جهوده لحماية اللغة الفرنسية باصدار قوانين وتشريعات تمنع منعا باتا استعمال الكلمات الانجليزية التي طغت على الشارع الفرنسي. كما قامت فرنسا في العديد من المرات باصدار قوانين وتشريعات للوسائل الاعلامية المختلفة وخاصة الالكترونية منها بالالتزام ببث ما لا تقل نسبته عن 60% من الانتاج الثقافي الفرنسي، سواء كان هذا الانتاج اغاني أم أفلاما ام دراما ام غير ذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تستطيع القوانين والتشريعات ان تقف امام العولمة والمد الثقافي الاميركي المستمر؟ الفرانكوفونية عالميا تشير الاحصائيات الاخيرة الى ان اللغة الفرنسية تحتل المرتبة التاسعة عالميا بـ 131 مليون شخص يتكلمونها وراء كل من اللغة الانجليزية التي تأتي في المرتبة الاولى بـ 594 مليون شخص، والاسبانية التي يتحدثها 311 مليون شخص، والعربية 211 مليون شخص في المرتبة الثالثة، ثم البرتغالية بـ 161 مليونا ممن يتكلمونها.. الخ. ومنذ ان فقدت الفرنسية مستعمراتها في الستينيات خاصة في افريقيا، لم تستطع ان توقف التراجع المذهل الذي منيت به خاصة وأنها على الصعيد التكنولوجي والعلمي لم تستطع ان تنافس المد الانجلوساكسوني بقيادة الولايات المتحدة الاميركية. فقوة اللغة يحددها عاملان اثنان: التفوق التنكولوجي (الجامعات، البحث العلمي، وانتشار وسائل الاعلام والوسائط المختلفة)، اما العامل الثاني فيتمثل في النفوذ الاقتصادي والسياسي. فكثير من المستعمرات الفرنسية توجهت نحو العالم الانجلوساكسوني ونحو المساعدات الاميركية للبحث عن التعاون التكنولوجي والعلمي، مهملة او متناسية فرنسا. وهكذا اخذت اميركا نصيبا لا يستهان به من النفوذ الفرنسي وبسطت ثقافتها وصناعاتها على الكثير من الدول النامية والحديثة الاستقلال. والعامل الثاني الذي ساعد الاميركان في الانتشار في المستعمرات الفرنسية السابقة وفي غيرها هو التبادل والتعاون في اطار التعليم العالي والبحث العلمي، حيث ان العدد الهائل للجامعات والمعاهد العليا الاميركية (اكثر من 3500) وكذلك مراكز البحوث والدراسات الاستشرافية والاستراتيجية استقطب الكثير من النخب المثقفة وغيرها من المفكرين والباحثين والعلماء والطلاب الذين كانوا حتى وقت قريب يقدسون فرنسا والفرانكوفونية، لكنهم باكتشافهم العالم الجديد اكتشفوا قوة الانجليزية كلغة العصر ولغة البحث العلمي وأدركوا حدود اللغة الفرنسية، وهذا الجيل الجديد من الانجلوفون اصبح يروج لثقافة العم سام ولغته، وأصبح يتقرب اكثر فأكثر من الثقافة الاميركية والتفكير الاميركي والرؤية الاميركية خاصة جيل خريجي الجامعات الاميركية الذي قضى سنين طوالا في المجتمع الاميركي ينهل من العلم وخبايا الثقافة الاميركية. فالنفوذ الاميركي وعالمية الثقافة الاميركية (الاغاني، الافلام، المسلسلات، المنتجات الثقافية المختلفة، وسائل الاعلام، الانترنت، صناعة المعلومات) وانتشارها في العالم ادى الى تقلص الفرانكوفونية وفتح الباب على مصراعيه امام النفوذ الانجلوساكسوني. اضف الى ذلك ان بعض المستعمرات الفرنسية السابقة اخذت موقفا سلبيا من اللغة الفرنسية ومن الفرانكوفونية كمنظمة وكتجمع يلم عددا من الدول يكون قاسمها المشترك اللغة الفرنسية. وهكذا تراجعت اللغة الفرنسية داخل المستعمرات الفرنسية السابقة سواء لصالح اللغة الأم او لصالح اللغة الانجليزية. والغريب في الامر ان من بين الدول الـ 46 التي حضرت القمة التي انعقدت في هانوي العاصمة الفيتنامية نجد ان نسبة كبيرة من سكانها لا تتكلم الفرنسية على الاطلاق واذا اخذنا الفيتنام على وجه الخصوص نجد ان لكل طالب يدرس اللغة الفرنسية هنالك 30 طالبا يدرسون اللغة الانجليزية وهذا يعني ان المباراة بين الفرانكوفونية والانجلوفونية غير متكافئة وان فرنسا بعيدة كل البعد عن استرجاع المجد والفردوس المفقود. تراجع الفرانكوفونية على الصعيد العالمي يرجع الى عدة اسباب منها خروج فرنسا من مستعمراتها وعدم قدرتها على المحافظة على علاقات وطيدة معها، الاقتصاد العالمي اصبحت تسيطر عليه شركات متعددة الجنسيات وقوى فاعلة تتعامل باللغة الانجليزية في الاوساط التجارية العالمية وفي البورصات والمحافل الدولية. لغة الاقتصاد والسياسة في العالم اصبحت اللغة الانجليزية بدون منازع، ومن يملك التكنولوجيا والاقتصاد والنفوذ السياسي يملك اللغة التي تفرض نفسها على العالم. وهكذا وجدت فرنسا نفسها تتراجع لغويا سنة بعد سنة وأصبح رئيسها شيراك يحاور الصحفي الاميركي المشهور لاري كينغ في برنامجه «لاري كينغ لايف» باللغة الانجليزية بكل فخر واعتزاز، وهو لا يدري انه بهذا الموقف اكد انهزامه واستسلامه للغة شكسبير، الشيء الذي اثار استياء الفرنسيين المتمسكين بكبريائهم الفرانكوفوني وغضبهم على رئيسهم الذي فضل الكلام بالانجليزية على الفرنسية، وتساءلوا لو كان الامر يتعلق بحوار الصحافية آن سان كلار مع الرئيس بوش لاختلف الوضع تماما، حيث ان الرئيس الاميركي يتشبث بلغته وقد يلفظ بعض الكلمات بالفرنسية للتهكم والسخرية من الفرنسية لا غير. نشر الفرنسية تنفق فرنسا سنويا مليار دولار لنشر الفرنسية والفرانكوفونية في اكثر من 134 دولة عبر العالم، وهذا عملا بالقول الذي يرى ان «من يتكلم الفرنسية يفكر كفرنسي ويأكل كفرنسي ويلبس كفرنسي». وعبر المراكز الثقافية الفرنسية تحاول فرنسا ان تنشر الثقافة والقيم الفرنسية عن طريق توفير اخر الكتب والاعمال المنشورة لكبار المفكرين الفرنسيين، ناهيك عن الافلام والاشرطة والاغاني والجرائد والمجلات الفرنسية، وتنظيم المحاضرات وغير ذلك من النشاطات الثقافية. ولتدعيم دور هذه المراكز تحاول فرنسا كذلك او توطد علاقاتها مع دول المنظمة الفوانكوفونية لارساء بناء مؤسساتي قوي تعول عليه في بسط نفوذها وتقديم مساعداتها المختلفة ولعب دور رئيسي في تسوية النزاعات بين الاعضاء، وكذلك النشاط في اطار المنظمة الفرانكوفونية على مستوى المنظمات الاقليمية او منظمة الامم المتحدة. فإرساء قواعد الفرانكوفونية بزعامة فرنسا وعضوية 51 دولة يعتبر نجاحا على المستوى المؤسساتي والتنظيمي، لكن بالنسبة للمجال التكنولوجي والمعلوماتي تبدو الامور غير ذلك تماما حيث ان الفرنسية تبدو بعيدة كل البعد عن لعب الادوار الاولى والرئيسة على المستوى العالمي. ورغم الشبكة الكبيرة من المراكز الثقافية التي تتمتع بها فرنسا عبر 134 دولة في العالم فإن اللغة الفرنسية لم تستطع ان تفرض نفسها في الكثير من الدول التي تدعي انها فرانكوفونية وأصبحت النخب الثقافية في المستعمرات القديمة لفرنسا وفي باقي دول العالم الثالث تتسابق على تعلم اللغة الانجليزية، لغة الكمبيوتر والانترنت والمعلوماتية. وأصبحت النخب الثقافية تتسابق على الجامعات الاميركية لطلب العلم والمعرفة والاستفادة من مراكز الابحاث العديدة والمختلفة وكذلك استغلال امكانيات تمويل البحوث والدراسات، الامر الذي يتعذر الحصول عليه في دولة مثل فرنسا. لقد اصبحت لغة العلم والمعرفة ولغة البحث العلمي والدراسات الاستشرافية والاستراتيجية على المستوى العالمي هي اللغة الانجليزية، كما اصبحت لغة التجارة الدولية، ولغة الانترنت والمعلوماتية هي اللغة الانجليزية، ولهذا اصبحت المراكز الثقافية الفرنسية تحفا للتاريخ والمجد الغابر والتغني بالاشعار المختلفة مما جعلها مشلولة لا تستطيع ان توقف الانهيار البطيء والمستمر لمعاقل الفرانكوفونية عبر العالم فاللغة الفرنسية اليوم اصبحت محاصرة في افريقيا ونسبتها ضئيلة جدا على شبكة الانترنت وتصارع من اجل الحياة في الهند الصينية. وحتى الدول الاعضاء في منظمة الدول الناطقة بالفرنسية نجد ان نسبة كبيرة من سكانها لا تتكلم الفرنسية على الاطلاق ولا تستعمل اللغة الفرنسية كلغة رسمية في البلاد. باستثناء فرنسا والسنغال وساحل العاج والكونغو ـ الدول التي تتكلم اللغة الفرنسية وتعتمدها رسميا ـ فإن باقي دول المنظمة تعتبر علاقتها باللغة الفرنسية محدودة. في القمة السابعة للفرانكوفونية والتي انعقدت في هانوي بالفيتنام راهنت فرنسا على السياسي والدبلوماسي المصري المحنك الدكتور بطرس غالي رغم معارضة الدول الافريقية واصرارهم على انتخاب شخصية افريقية لمنصب الامين العام للمنظمة واختيار الفرنسيين لشخصية بطرس غالي له اكثر من مغزى: اولا ان فرنسا تحاول ان ترد الاعتبار للشخص الذي راهنت عليه في الأمم المتحدة، لكن التحدي الاميركي وقف حجرة عثرة امام انتخابه على رأس المنظمة العالمية للمرة الثانية فرهان فرنسا على بطرس غالي جاء ليؤكد ايمان الفرنسيين في محاولة انعاش المنظمة من جديد وتزويدها بدم جديد يحمله في جهازها الاداري الجديد الدكتور بطرس غالي صاحب الخبرة والتجربة والحنكة التي تحتاجها الفرانكوفونية لانطلاقة جديدة للبحث عن موقع في النظام الدولي الجديد، بطرس غالي يعول عليه لتفعيل المنظمة وتنسيق العمل بين المنظمات الفرانكوفونية المختلفة كاتحاد البرلمانات واتحاد الجامعات والمنظمة الاقتصادية.. الخ كما ستعول عليه فرنسا في مواجهة الاميركيين والوقوف امام هيمنتهم على العالم، وهذا كتحد وكرد اعتبار لتنحيته من قبل الاميركيين من على رأس المنظمة الدولية رغم ان باقي دول مجلس الامن 14 الدائمة والمنتخبة صونتت لصالح بطرس غالي لولاية ثانية على رأس المنظمة. الى اي مدى سينجح بطرس غالي في مهمته الجديدة والى اي مدى تستطيع الفرانكوفونية ان تتحدى الانترنت والثورة المعلوماتية والعولمة التي تراهن عليها اميركا وتبذل قصارى جهودها لاقصاء كل من يقف امامها؟ المهمة معقدة وصعبة ولا تقتصر على مسألة اللغة فقط وانما هنالك رهانات اخرى لا تقل اهمية، مثل الاقتصاد والسياسة وصناعة المعرفة والثقافة والمعلومات، المنافسة شديدة وحظوظ فرنسا في استرجاع امجادها وفردوسها المفقود محدودة، الا ان احداث 11 سبتمبر وموقف الشارع العربي من الصراع الاميركي الاوروبي (فرنسا ـ ألمانيا) يشكلان بصيص امل لصالح فرنسا، فهل ستستغل فرنسا الظروف التي يمر بها العالم وتمر بها منطقة الشرق الاوسط لصالحها؟ ـ كلية الاتصال ـ جامعة الشارقة

Email