الاتصال والديمقراطية وتدفق المعلومات ـ بقلم: ياسر الفهد

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاثنين 1 شعبان 1423 هـ الموافق 7 أكتوبر 2002 لقد اصبح الاتصال سواء في استخداماته العسكرية او المدنية، يكتسب اهمية متزايدة في عالمنا المعاصر، فهو يصل الدول والمجتمعات والافراد بعضهم بعضا، ويقرب بينهم، ويجعل كل طرف على علم بما تمارسه الاطراف الاخرى. واذا كان ظهور اللغات وتعددها، ثم اختراع الكتابة وبعدها الطباعة، قد أدت جميعها الى حدوث طفرات كمية ونوعية في الاتصال، فإن التكنولوجيا الحديثة، فتحت امامه افاقاً جديدة واسعة لم تكن معهودة من قبل، وقد حمل هذا معه ايضا تطوراً هاماً يتمثل بسرعة انتشار الافكار السياسية من مجتمع الى آخر. وهذا يفسر لنا سبب تغلغل الديمقراطية في بلدان لم يكن احد يتوقع انتشارها فيها. ولعل اخطر مشكلة يواجهها الاتصال تتمثل بسلب حريته، ولاسيما في مجال الصحافة وحتى تأخذ فكرة وافية عن هذه المسألة دعنا نطلع على مضمون كتاب «الاتصال والمجتمع» الذي قام بتأليفه عدد كبير من الخبراء والمهندسين العاملين لدى اليونسكو. ويبين الكتاب في البداية اهمية المعلومات التي تشكل المادة الخام للاتصال فهي عماد البحث العلمي واساس التخطيط للمستقبل، وهناك قطاعات عديدة كالقوات المسلحة والاحزاب السياسية وشركات الطيران والجامعات لا تستطيع ان تعمل دون تبادل المعلومات يومياً، وبالنسبة للاتصال، فإن له تأثيراً كبيراً في مختلف مناحي الحياة ومناشط المجتمع، وهو قوة اقتصادية تؤثر في الانتاج والتوظيف وغيرهما، وقوة سياسية تظهر اكثر ما تظهر في دور وسائل الاعلام، وهو ايضا قوة تربوية، وهنا يقف معنا المؤلفون وقفة قصيرة لاستجلاء العلاقة بين التربية والاتصال، ففي الماضي، كان المعلم والمدرسة يشكلان اساس التربية، ثم جاءت وسائل الاتصال الحديثة لتكمل دور التربية، واهم الفروق التي يبرزها الكتاب بين النظام التربوي ونظام الاتصال، ان الاول يعتمد على قيم الجهد الشخصي والتركيز العقلي والمنافسة والنظام والتدرج، في حين يستند الثاني الى قيم المتعة والسعادة والترفيه ويتضمن موضوعات سهلة الفهم وسريعة الاستيعاب، ويحذر المؤلفون من اخطار التناقض والتنافس بين النظامين ويدعون الى العمل على تحقيق التوازن واعادة توزيع الادوار والوظائف بينهما. وفي فصل «العالم المتغير للاتصال» يزودنا الكتاب بصورة واضحة عن التغيرات الدراماتيكية التي طرأت على الاتصال خلال العقود الاخيرة، بما في ذلك توسع وسائل الاعلام والمنجزات والتكنولوجية المثيرة المتمثلة بالحاسبات الالكترونية والاقمار الصناعية، وعلى الرغم من كل ما احرز من تقدم فإن المؤلفين يبدون اسفهم لان اغلبية دول العالم مازالت عاجزة عن الافادة من المنجزات الحديثة للاتصال، بسبب عوائق كثيرة منها مثلا تعدد اللغات فهناك اليوم زهاء 3500 لغة منطوقة و500 لغة مكتوبة في العالم، وكثرة اللغات دليل على غنى الثقافات. ولكنها في الوقت نفسه عقبة كبيرة في وجه الاتصال، ومن جهة اخرى فإن الاقتصار على لغات قليلة، كالانجليزية مثلا، في الاتصال الدولي، يحرم معظم دول العالم من الافادة من الابحاث والتكنولوجيا الحديثة ويعد الكتاب الامية من اهم معوقات الاتصال، وتبلغ نسبتها التقريبية الوسطية 60% بين النساء و40% بين الرجال. وعلى الرغم من كل العوائق التي تنشب اظفارها في جسد الاتصال، فإنه الآن يزدهر ويتقدم بخطى حثيثة، ولاسيما العالم المتقدم، فنظم التلفون والبريد تتطور باضطراد والمطبوعات تزداد باستمرار، وقد بلغ معدل زيادة الكتب في العقود الاخيرة 60% ويقابل ذلك بالنسبة للصحف 45% ولاجهزة التلفزيون 155% ولاجهزة الراديو 265% واذا علمنا ان معدل نمو السكان للفترة ذاتها قارب 33% فإن معنى ذلك ان وسائل الاعلام تسبق الانفجار السكاني في النمو، وبالتالي فإن مزيداً من الناس يحصلون على تسهيلات اعلامية ويقدر المؤلفون بأنه، خلال العقود القادمة لن يكون هناك انسان محروماً من فرص امتلاك واحدة او اخرى من وسائل الاعلام، وقد حققت وكالات الانباء ايضا توسعاً ملحوظاً، فهناك اليوم اكثر من مئة قطر تملك وكالات انبائها الخاصة، اما بالنسبة للسينما، ففي الوقت الذي يتوقع فيه الكثيرون ان تكون للولايات المتحدة الاميركية الريادة في مجال انتاج الافلام السينمائية، فإن الكتاب يفاجئنا بأن الهند، لا الولايات المتحدة هي صاحبة الاولوية في هذا المضمار، فهي تنتج اكثر من 900 فيلم كل عام. وتليها في الترتيب اليابان، ففرنسا ثم ايطاليا وبعدها تأتي الولايات المتحدة، وتعد السينما، ولا سيما الافلام الوثائقية والتعليمية والتدريبية، كما هو معلوم وسيلة مهمة لنقل المعلومات، ومن الطبيعي ان يشمل التغيير كذلك الاقمار الاصطناعية، ولكن حقل الاتصال الذي حقق التطور الاكبر هو حقل الالات الالكترونية، وللدلالة على ذلك يبين المؤلفون ان هناك اليوم آلات قادرة على القيام ببليون عملية كل ثانية، اي اكثر مما كانت حاسبات عام 1944 تفعل بمليون مرة كما انخفضت اسعار الحاسبات الالكترونية بدرجة هائلة ولا ننسى الدور العظيم الذي تؤديه النظم المركزية للمعلومات والتي غدت قادرة على تزويد المستفيد، من بعيد بالمعلومات والبيانات المصنفة والمختزنة سواء في حقل العلوم او الادارة او الاقتصاد او الشئون الاجتماعية او غيرها، وتستعمل هذه النظم الآن في التنبؤ بالطقس والتشخيص الطبي والحجز في الطيران وفي اعمال اخرى كثيرة، إلا ان اخطر استعمال حديث لها هو الاستشعار عن بعد وهذه التقنية تشكل مصدر خطر كبيراً بالنسبة لنا بوصفنا دولاً نامية فهي تتيح للدول المتقدمة ان تهتك اسرارنا وتكشف دخائلنا وتعرف كل شيء عنا بما في ذلك ادق التفاصيل التي نجهلها حتى نحن عن انفسنا، انها تجعل بلادنا بمثابة صفحة مكشوفة امامها تقرأ فيها كل ما يساعدها على تحقيق مآربها ويفيدها في التخطيط لاستغلالنا. ويتناول المؤلفون في فصل «قضايا ذات اهتمام مشترك» بعض مشكلات الاتصال ومنها العقبات التي تحول دون التدفق الحر للمعلومات ومنها ايضا احتكار المعلومات بواسطة الآلات الالكترونية والتوزيع غير المتكافيء لبنوك المعلومات مما يحرم الدول النامية من كثير من البيانات الحيوية، وهناك ايضا مشكلة تدفق المعلومات باتجاه واحد. وهذا يعني تدفقها من الدول الاكبر الى الدول الاصغر، ومن الدول الاغنى الى الدول الافقر، ومن الدول المتقدمة تكنولوجيا الى الدول المتخلفة ومن السلطة الى الجماهير.. اي تدفقها من اعلى الى اسفل. ومثل هذا التدفق العامودي يضر بمصالح دول العالم الثالث الاعلامية ويضعها تحت رحمة الدول الاقوى، ومن المشكلات الاخرى التي تؤدي الى نتائج مشابهة مشكلة التدفق غير المتكافيء للأخبار، مما يجعل تغطيتها تشمل اوضاع الدول المتقدمة اكثر مما تشمل الدول المتأخرة ولكن من المؤكد ان اهم مشكلات الاتصال التي اشار اليها الكتاب مشكلة غياب حرية الاتصال ولاسيما في مجال الصحافة. ويتخذ قمع حرية الصحافة صوراً عديدة، ويتراوح بين درجات متفاوتة، فبعض الحكومات تقرر من يحق له العمل في السلك الصحفي ومن لا يحق له ذلك، وحكومات اخرى تفرض غرامات على الصحف المعارضة للدولة او تمنع صدورها منعاً كاملاً، وفي بعض الاماكن تقع اعتداءات ضد الصحفيين بسبب مواقف معينة، لهم، وكثيراً ما يجري تقييد حركة الصحفيين بحيث يمنعون، مثلا من الوصول الى مصادر المعلومات سواء أكانت اناسا ام اماكن ام وثائق ام بلدانا وعلينا ان نلاحظ ان اسوأ الامور تحدث حتما في البلدان النامية، ونحن جزء منها، فهناك دائما صدام بين الصحفيين الشرفاء واعداء الكلمة الحرة، وكثيراً ما يضطر الصحفي المستقيم الى هجر الصحافة والتخلي عن الكتابة، وهذا ليس غريبا فالصحافة ليست مهنة وحسب، وانما رسالة ايضا وصاحب الرسالة لا يستطيع السكوت على الباطل وهو يفضل الانزواء والانكفاء بدلاً من التصفيق مع المصفقين ونعود الآن الى الكتاب الذي يتناول بالاضافة الى ما سبق ان عرضناه سابقا مشكلة «تخمة المعلومات» اي تدفقها الغزير من جهات متعددة مما يجعل المتلقي عاجزاً عن استيعابها والربط بينها فيقع في حالة من الضياع، ومن المشكلات الاخرى التي يتعرض لها المؤلفون مشكلة ارتباط بعض اجهزة الاعلام بالاعتبارات التجارية. و اخيراً، يلقى الكتاب نظرة على مستقبل الاتصال متوقعا توسعاً دراماتيكيا وتحسنا نوعياً هائلاً في مختلف قطاعات وداعياً الى الغاء التفاوت في بنى الاتصال ولاسيما في مجال انسياب المعلومات، والى تخفيض الاجور المفروضة على البرقيات والفاكسات والبريد ونقل الكتب والدوريات، ويوصي المؤلفون بمحاربة آفة الامية وتشجيع الترجمة وزيادة اعداد وكالات الانباء وتخفيف اسعار الورق. وبعد، فإننا نستبشر خيراً بظهور مثل هذا الكتاب في الغرب لانه يبدي تعاطفا واضحا مع الدول النامية وينعي على الدول المتقدمة احتكارها المعلومات وهيمنتها على الاخبار، كما يدين استغلالها تكنولوجيا الاستشعار عن بعد، ويدعو الى اقامة نظام عالمي جديد للاتصال والمعلومات يتم بموجبه انصاف الدول الفقيرة وتحريرها من تحكم الدول المتطورة، ولاشك ان اهم فكرة يوردها الكتاب حول الاتصال هي ان افضل طريقة لرسم مستقبل مشرق له تتجلى في اشاعة الديمقراطية وللاسف البالغ فاذا كان هذا ممكنا في الدول الراقية، كيف يمكن تحقيقه في دول العالم الثالث التي تتعرض فيها قضية الديمقراطية لأشد الضربات؟ كيف نتمكن من اشاعتها في امكنة تجري فيها مصادر الكلمة الشريفة ومطاردة اصحابها وحيث تشتد الرقابة، ليس على الصحافة وحسب، وانما ايضا على مختلف الاتصالات الهاتفية والبريدية والبرقية والفاكسية والالكترونية. كيف ندخلها الى بلدان يتم فيها وضع الاعلام برمته في خدمة اهداف النخب الحاكمة، بعيداً عن المقاصد الحقيقية السامية للرسالة الاعلامية؟ كيف يمكن للاتصال ان ينمو، وللاعلام ان يزدهر، اذا استمرت هذه الاوضاع المسمومة في دولنا النامية. ـ كاتب سوري

Email