استراحة البيان ـ أكلما اتسع العيش ضاقت القلوب ؟ ! ـ يكتبها اليوم: علي عبيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 29 رجب 1423 هـ الموافق 6 أكتوبر 2002 يتساءل صديقي العائد لتوه من زيارة الحي القديم الذي نشأ فيه بعد ان تفقد بيت العائلة حيث ولد وتربى وشهدت زواياه سنوات الطفولة وأيام الصبا: ترى كيف كنا وكان أهلنا يعيشون في تلك البيوت الصغيرة التي أشبه ما تكون بعلب السردين، وكيف كانوا يتنقلون بين أزقتها التي بالكاد تسمح بمرور شخص واحد، حتى إذا ما التقى شخصان اضطر أحدهما الى تغيير وضعه والمرور بكتفه؟ ويمضي صديقنا في طرح اسئلته مستغرباً كيف كان مسجد الحي يستوعب جموع المصلين على صغر حجمه في وقت كان يعتقد فيه أن «فريجهم» من أكبر «الفرجان» في البلد ان لم يكن أكبرها؟! يطرح صديقنا أسئلته التي على هذه الشاكلة ويضع خلف علامات الاستفهام مزيداً من علامات التعجب وهو يشكو متذمراً من صغر قطعة الأرض التي أقام عليها بيته الجديد.. والتي استلمها على مضض رغم أن مساحتها أربعون ألف قدم مربع، ولا يجد مفراً من الاعتراف بأن هذه المساحة تبلغ خمسة أضعاف مساحة بيت العائلة القديم الذي كانت تسكنه ثلاث أسر هي أسرته وأسرتا عميه بالزوجات والأبناء! وصديقنا الذي يبدي الدهشة والاستغراب ويجأر بالشكوى هو نفسه الذي لا يخفي تبرمه بضيق الشوارع الحديثة ذات المسارات الثلاثة والأربعة رغم أنه لا ينكر انها تبلغ عشرة أضعاف مساحات تلك الأزقة الضيقة التي كان يجري في أنحائها صغيراً متنقلاً بين علب السردين تلك التي كانوا يقيمون فيها، وقد غادرني وهو يردد: يا أخي أرض الله واسعة فلماذا يضيقون على الناس ولا يوسعون عليهم بقطع أراض تجري فيها الخيل كما يقول المثل، ويمهدون لهم من الشوارع ما يستوعب عشر سيارات أو عشرين في وقت واحد؟! كنت أحسب هذه النظرة مقصورة على هؤلاء الكبار الذين تجاوزوا العقود الأربعة والخمسة عندما فاجأني الصغير ذو الاعوام الثلاثة عشر قائلاً ونحن ندخل محل الألعاب الكبير لشراء لعبة لأخيه الأصغر انه عندما كان صغيرا (ولم يوضح مفهوم الصغر هنا وتحت أي سن) كان يرى محل الألعاب الذي نحن فيه الآن كبيراً جداً بدرجة لا يمكن وصفها، أما اليوم وبعد أن كبر (والكبر في مفهومه هنا السن التي هو فيها الآن) فإنه يرى هذا المحل قد تضاءل حجمه ولم يعد ذلك المحل الكبير نفسه الذي كان يزوره قبل سنوات لم يحدد عددها. يمضي الفيلسوف الصغير (الذي يعتقد أنه كبر) مستشهداً بحالة أخرى هي ساحة الألعاب في مدرسته التي انتظم فيها من الصف الأول الابتدائي فيذكر أنه كان يراها كبيرة بحجم مدينة رياضية كاملة، ثم أخذ حجمها يتقلص ويصغر في نظره حتى لم يعد يراها اليوم أكبر من الصف الذي يتلقى فيه دروسه. مطلوب منك (وقد توسم فيك الصغار معرفة كل شيء وايجاد تفسير لكل حالة وحل لكل مشكلة) أن تبرر لهم وتكشف سر تقلص الأشياء الكبيرة وتناقص حجمها كلما زادت سنوات العمر. ولا تجد ما تقوله لهم سوى أنهم هم الذين يكبرون، اما هذه الأشياء فتظل على حالها لا تكبر ولكنها ايضا لا تصغر ولا يتناقص حجمها، خاصة وأن عوامل التعرية لا تعمل في المساحات وإنما في الأجسام. أما صديقك الذي يقتضي رفع علامات استفهامه وتعجبه جهداً أكبر، فلا تستطيع ان تقول له إلا أن نفوسنا وقلوبنا هي التي ضاقت عن الرضا بالقليل، وأن عيوننا هي التي ما عاد يملؤها شيء، أما اولئك الطيبون أهلنا الذين تربينا في كنفهم فقد ملأت القناعة نفوسهم وكانت قلوبهم عامرة بالرضا وأعينهم مكتحلة بالطمأنينة، فلم يعرف التبرم طريقه الى نفوسهم إذ رضوا بأقل القليل شاكرين حامدين. ولذلك انتزع من قلوبهم التباغض، ولم يستوطنها الطمع فعاشوا في أمن وطمأنينة وراحة بال غدونا نحن اليوم نبحث عنها في عيادات الطب النفسي، وعلى موائد قارئي الكفوف وضاربي الودع. هل سألت نفسك يا صديقي كم مرة طرقت باب جارك (الذي ربما لا تعرف اسمه) متفقداً احواله أو زائراً في غير مناسبة عيد أو زواج أو عزاء؟ ودعك من جارك الذي لا تربطك به صلة قرابة.. هل سألت نفسك منذ كم شهر وربما عام لم تر أقرباء لك ربما كان منهم اخوتك؟ ستقول: إنها مشاغل الحياة التي لا تدع مجالاً للقاء أو سؤال. وستقول انها وتيرة العصر المتسارعة التي نجري معها محاولين حرق المراحل والوصول الى تحقيق غاياتنا في أقل عدد من السنين. وستقول: إنها ضريبة المدنية والتحضر التي فرقت شمل الأسر، وفككت العائلة الكبيرة إلى خلايا صغيرة، وعزلت كل عنصر من عناصر الخلية الصغيرة ملقية به في عزلة مع جهاز كمبيوتر، أو شاشة تلفاز، أو لعبة الكترونية لم يعد المهووسون بها من فئة الصغار وحدهم بعد أن أصبحت إدمانا أصاب الكبار ايضا. وستقول: إنها سنة الحياة التي تفرض التحول من المجتمعات الصغيرة الهادئة والكيانات المجهرية إلى المدن الكبيرة الهادرة والديناصورات العملاقة! عندها سأقول لك: لا تشتكي إذن من جفاف الحياة حولك، وموت المشاعر في الأجساد المتحركة عن يمينك وشمالك، وظهور المخالب في اطراف أصابع البشر بدلاً من الأظافر، وتطاير الشرر من العيون بدلاً من الرقة والحنان اللذين كانا يفيضان منها، وانتشار الغيوم السوداء حاجبة ضوء الشمس وزرقة السماء عن عيوننا، وهبوب الرياح الخبيثة مسممة الأجواء من حولنا، واصفرار الأوراق وذبول الورود على أغصان الشجر في حقول حياتنا. وسأقول لك يا صديقي: وفر على نفسك عناء زيارة تلك الحارات القديمة فلن يعود عليك أنت منها إلا المزيد من علامات الاستفهام والتعجب ومظاهر الدهشة، ولن يعود علينا نحن منها إلا المزيد من وجع القلب والبحث عن أجوبة لتلك الأسئلة الحائرة التي لن تجد إجابات لها إلا في تلك البيوت الصغيرة التي تسميها علب سردين، وبين أزقتها الضيقة.. هذا إن كان لا يزال في زماننا هذا بيوت وأزقة في جمال بيوت تلك الأيام وأزقتها، وأماكن في روعة تلك الاماكن التي نفتقدها اليوم ويشدنا إليها حنين هو أقرب ما يكون الى الأنين. وسأقول لك: لا تنكأ جراح القلوب التي تحاول أن تستعيد صفاءها لتعود نقية طاهرة كما كانت قلوب اولئك الذين عاشوا زمناً ضاق فيه العيش واتسعت القلوب، فامتدت أبصارهم الى خارج حدود المكان لتجد الفضاء أمامها رحبا. فليت أن البيوت بقيت على ضيقها لم تتسع وليت أن القلوب بقيت على رحباتها لم تضق.. وليت أن «ليت» نفسها لم تعد صرخة لا تجد حتى رجع الصدى في زمن الصخب هذا وضيق المدى

Email