وثائق اميركية عن النكسة ـ بقلم: معصوم مرزوق

الاحد 29 رجب 1423 هـ الموافق 6 أكتوبر 2002 في نهاية رحلة للغوص في أعماق بعض الوثائق السرية الاميركية التي أصبحت متاحة مؤخراً، تلك الرحلة التي بدأتها منذ قرابة ما يزيد على العام، حاولت ان أنتقي من بين صناديق سفينة النكسة الغارقة بعض المستندات التي قد تلقي الضوء على الكارثة، ورغم ان حجم الوثائق المتاحة التي تمت دراستها يتجاوز إمكانية التلخيص المفيد، إلا أنني في محاولة إنتقائية اجتهدت في إختيار بعض العلامات البارزة التي اصطدمت بها سفينتنا في تلك الرحلة المشؤومة، وعزاؤنا إذا كان هناك محل له، هو أنه طالما بقي في العمر بقية فقد يتاح ان نخرج الى القارئ العربي بدراستنا المتكاملة عن هذه الوثائق ذات يوم. وأهمية هذه الوثائق أنها تكشف بعض أسرار الذي كان، وتوضح بعض الغموض الذي أحاط بتحركات سياسية معينة، والأهم من كل هذا أنها تقدم دروساً مفيدة لمن أراد ان يتعظ بتجارب الماضي، خاصة وأن أولئك الذين لا يتعلمون من أخطائهم، سوف تحيق بهم مصيبة تكرارها .. وربما بثمن أشد فداحة! وبقدر متعة البحث التي تمتع بها كاتب هذه السطور، كانت مرارة الألم، وكأنها محاولة لدراسة أحوال مدينة ضربتها القنابل النووية فأصابت الدارس بعض اشعاعاتها، فهي مدينة أظن أنني وغيري نعرف الكثير من ملامحها قبل الكارثة، وعرفنا من بعيد بعض ما أصابها بعد الكارثة، وتجرأ البعض واقترب الى حدودها من بعيد كي يستطلع بعض آثار الدمار، ولكن الوثائق الاميركية كانت بمثابة اقتحام لأبعاد ظلت خافية مستترة، كانت تلك الأبواب التي ولجت منها، أصابتني بالدهشة في بعض ما وجدته خلفها، وبالألم في البعض الآخر، وبالسخرية والمرارة والأسف في أحيان اخرى، وجدت نفسي في دوامة ما أطلق عليه مايلز كوبلاند «لعبة الأمم» ولعلي أستطيع ان أقول باختصار أنه يمكن ان نضع أصابعنا على بعض العناصر السلبية في الإدارة العربية للصراع العربي الإسرائيلي خلال فترة الستينيات وحتى ضربة النكسة، هذا إذا افترضنا أنه كانت هناك ـ بالمفهوم العلمي ـ إدارة حقيقية للصراع! فمن ناحية تم السماح لإسرائيل بتنفيذ مخططها في توريط الولايات المتحدة الاميركية الى جانبها، بينما كان من الممكن، وبقراءة صحيحة وموضوعية لمعطيات الخريطة السياسية في تلك الأثناء، ان نفوت عليهم فرصة تحقيق هذا المخطط، ففي بداية الستينيات كانت أميركا كيندي تسعى حثيثاً لإكتساب المزيد من الحلفاء في الشرق الأوسط الى جانبها في حلبة الصراع ما بين الشرق والغرب، أو على الأقل ان تضمن عدم سقوطهم في المعسكر الآخر، وعلى هذا الأساس كانت ـ كما ثبت من الوثائق ـ تقاوم بشدة محاولات إسرائيل المتكررة كي تجعل من اميركا موردها الأول للسلاح، بما يؤدي في نفس الوقت الى قطيعة نهائية بين اميركا وبين العرب، ولقد كانت مصر تلعب دوراً محدوداً في مناورتها للإستفادة من معطيات القطبية الثنائية، وكانت اميركا على استعداد لابتلاع وهضم هذا القدر المحدود والمكشوف من المناورة، على ان تجد في المقابل تفهماً مصرياً للمصالح الاميركية الإستراتيجية في المنطقة، لذلك كان سعيها المبدئي الى تهدئة الصراع العربي/الإسرائيلي والمحاولة الدؤوبة لإيجاد صيغ للسلام، وعندما أدركت صعوبة بل واستحالة ذلك آنذاك، عمدت الى تقليص فرص المواجهة المسلحة الشاملة من خلال العمل على الحد من التسليح أو على الأقل الحيلولة دون اختلال التوازن العسكري ما بين اطراف الصراع، أو اقتحامهم لوسائل دمار عسكرية أكثر تعقيداً، وطرحت في هذا الصدد مبادرات عديدة، وبينما كانت إسرائيل على الدوام تبدي استعدادها الكاذب للتعاون مع هذه المبادرات، فان الجانب العربي بدا مذبذباً غير واثق، وكان الأسوأ هو أنه ـ لأسباب سياسية داخلية وتاريخية وثقافية ـ لم يستطع التخلي عن خطاب التصعيد الذي لم يكن يملك سوى مفرداته اللفظية . ومن اللافت للنظر في هذا المجال المقارنة ما بين لقاءات السفير المصري د. مصطفى كامل في واشنطن مع المسئولين الاميركيين، وبين لقاءات المسئولين المصريين «وعلى رأسهم عبد الناصر» مع السفير الاميركي أو الزائرين الاميركيين في القاهرة، فكثيراً ما حملت الوثائق الاميركية تندراً من عبارة ترددت كثيراً على لسان سفيرنا في واشنطن، وهي ان موضوع إسرائيل في الثلاجة، وسبب التندر ان خطاب القاهرة لم يكن يعطي بأي شكل من الأشكال هذا المعنى الأدبي الذي استخدمه السفير تقريباً مع كل مستويات الإدارة الاميركية آنذاك، فقد كان السفير يذكر ذلك في الوقت الذي كانت مصر ترفض فيه أي حديث عن تجميد عدد صواريخها «القاهر والظافر» عند حد معين، على أساس استخدام هذه الحجة لعرقلة محاولات إسرائيل للحصول على مزيد من السلاح المتقدم، ومن ناحية اخرى يبدو ان السفير في واشنطن «طبقاً للوثائق الاميركية » قد تجاوز أو تخلى عن منطلقات حكومته، فقد كان يتحدث عن أهمية الدور الاميركي للحد من النفوذ السوفييتي في القاهرة، كما أعطى صورة كئيبة عن الإقتصاد المصري في محاولاته المتكررة للحصول على موافقة الإدارة الاميركية على المعونة ..إلخ . ومن ناحية اخرى، أفرزت المؤامرات العربية سموماً إضافية لإضعاف الموقف المصري، بل وأدت الى حصاره توطئة لإسقاطه، فقد كشفت الوثائق عن حكام عرب يستحثون واشنطن لترك القاهرة تترنح في فخ اليمن، أو التشديد على ضرورة قطع المعونة عن مصر، وكان ذلك يدفع القاهرة للمزيد من الإعتماد على موسكو، وبالتالى بالمزيد من الإبتعاد عن واشنطن، وفي المحصلة ضيق هامش المناورة أمام صانع القرار المصري . صفوة القول في النهاية هي ان العرب وعلى رأسهم مصر قد أخفقوا في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي خلال تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الصراع، ورغم ان عبد الناصر كان يردد دائماً: أننا لن ننساق الى معركة يحدد العدو زمانها، فان كل الشواهد تشير الى أننا كنا مشدودين الى زمن حدده العدو بدقة، وخطط للوصول اليه في صبر وأناة، بل وساعدناه في تنفيذ خططه في توقيتاتها المحددة . لذلك كله فمن الخطأ ان ننظر الى نكسة 67 بإعتبارها مجرد هزيمة عسكرية، بل ان جانب الإخفاق العسكري فيها هو نتيجة وليس سبباً في ذاته، وإنما كانت الهزيمة الحقيقية في الجانب السياسي التي هي جماع القرارات السياسية التي اتخذت خلال تلك الفترة الحاسمة . ومن العدل ان نستدرك هنا على الفور كي نتذكر ونذكر بأنه من الظلم ان نتبوأ مقاعد الحكمة بأثر رجعي، وأن الحكم على الأحداث التاريخية لا ينبغي ان يكون بمعزل عن الظروف السياسية والتاريخية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية المواكبة لتلك الأحداث، أو دون دراسة جادة لأسلوب صنع القرار والظروف التي أحاطت به آنذاك بما في ذلك الظروف الشخصية والنفسية لصانع القرار . فليس من شك لدينا في نبل ونزاهة المقاصد الوطنية لكل من ساهم بفكره في عملية الإدارة اليومية لذلك الصراع، كما أننا لا نتصور إحتمال الإهمال لديهم، ولكن الطريق الى النكسة كان مفروشاً بالنوايا الحسنة والثقة المفرطة بالنفس، حين كانت الأنظار معلقة فوق سحابات الأحلام بينما الأرض تحت الأقدام مفروشة بالألغام . ـ كاتب مصري

الأكثر مشاركة