قمة المأساة .. أن تغيب القمة ! ـ بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 29 رجب 1423 هـ الموافق 6 أكتوبر 2002 بالإجماع.. أطلق مجلس النواب الاميركي يد الرئيس بوش في استخدام القوة ضد العراق، وقرار مجلس الشيوخ قادم بعد أن حصل الكونجرس الاميركي على الثمن مقدما بتوقيع الرئيس بوش على قرار اعتماد القدس عاصمة موحدة لاسرائيل، وهو القرار الذي لم يجرؤ الرؤساء الامريكيون السابقون على اعتماده خوفا من رد الفعل لدى العرب والمسلمين يوم أن كانوا لايزالون محل حساب! صحيح أن الرئيس الاميركي نقلوا عنه - ولم يعلن ذلك بنفسه - إنه يتحفظ على بعض بنود القرار الذي وقعه، وانه لن ينفذ في الواقع هذا القرار لانه يضر بالمصالح الأمريكية، ولكن ذلك لا يعني شيئا حقيقيا.. فالقرار الذي لم يجرؤ رئيس أمريكي على اعتماده صدر على يد الرئيس الذي يقود حربه (الصليبية المقدسة) ضد العرب والمسلمين، ووضعه موضع التنفيذ ليس الا مسألة وقت وظروف، والحديث عن التحفظات الرئاسية لا يعني الا زيادة ايمان الإدارة الاميركية بنجاح منهج الهنود الحمر الذي اصبحت تستعمله مع العرب والذي تطلق فيه يدها (ويد اسرائيل بالطبع) في البطش بهم وإذلالهم ومحاولة ابادتهم باعتبارها الطريقة المثلى لخلق شرق أوسط جديد، كما كانت ابادة الهنود الحمر هي الطريق لبناء اميركا العظمى! قرار القدس الذي فتح به بوش قلب الكونجرس وأعطاه شيئا يقدمه النواب لاسرائيل واللوبي الصهيوني ويدخلون به الانتخابات القادمة، هو كارثة تمهد الطريق لكوارث أخرى قادمة.. لن يكون تدمير العراق واحتلاله الا بدايتها، ولن يكون ضياع القدس وفرض الحل الاسرائيلي على الفلسطينيين هو نهايتها. الثأر الاميركي فأميركا تبني امبراطوريتها، ومن سوء الحظ ان العرب في قلب هذه الامبراطورية، وليس هذا نتيجة أحداث 11 سبتمبر كما يزعمون، ولكنه قرار قديم عطلته الظروف العالمية وقاومته حركة القومية العربية أكثر من خمسين سنة، وقد جاء وقت الثأر الاميركي من كل هذا واحكام السيطرة على هذه المنطقة واعادة تشكيلها وفقا للمصالح الأميركية.. والمصالح الاميركية وحدها. وأوروبا تفهم جيدا أبعاد اللعبة، وروسيا والصين وغيرهما، والكل يتعامل من منطلق مصالحه، ومن هنا تأتي التحفظات على المخططات الأميركية، والبعض مازال يقاوم، والبعض يصر على المعارضة، والبعض يساوم من أجل الحصول على نصيبه من الصفقة.. ويبقى السؤال الكبير: أين العرب من كل مايجري؟وهل رضوا بدور الضحية التي تنتظر مصيرها؟ ضرب العراق وتدميره واحتلاله قرار أميركي نهائي والباقي تفاصيل، وهكذا تهويد القدس واخضاع الفلسطينيين وربما اجبار جزء منهم - خلال الحرب القادمة - على الهجرة، وقضية اللاجئين ستنتهي حين يتحول العرب جميعا الى لاجئين في أوطانهم، والكل يتحرك في الملعب المشتعل على الارض العربية الا العرب انفسهم.. فالشارع العربي صامت، والغضب الذي يملأ الصدور لا يعرف طريقه للتعبير والانطلاق، ولولا بعض اللقاءات الهامة المصرية - السعودية - السورية، لأحسسنا اننا نتعامل مع قضايا تحدث في بلاد (الواق الواق) ويكفيها بيان تأييد أو رسالة معونة غذائية! ويوما بعد يوم تزداد الغطرسة الاميركية والاستهانة الاسرائيلية بنا، وكيف لا يحدث ذلك والرهان الاميركي - الإسرائيلي على أن الشارع العربي لن يتحرك مهما حدث يتحقق، وردود الفعل على قرار الاعتراف الاميركي بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل يواجه بإزجاء الشكر العربي للرئيس الأميركي! ووزير إسرائيلي يطلب منع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى لأنهم (أفاعي) فنكتفي بأن نقول انه غير مسئول سياسيا أو عقليا! والناطق باسم الرئاسة الاميركية يدعو علنا لاغتيال رئيس دولة عربية لأن ثمن الرصاصة أقل بكثير من تكاليف الحرب، فنتظاهر بأننا لا نسمع! والسيدة كوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي وأقوى المسئولين في البيت الأبيض، تبشرنا بأن احتلال العراق ليس إلا الخطوة الأولى لتحرير العرب والمسلمين على يد اميركا راعية الديمقراطية ونصيرة الحريات.. فيكون الرد هو الحديث عن تعاون العرب وسماحة المسلمين وصداقتهم الأزلية مع الولايات المتحدة الاميركية التي لن تؤثر فيها محاولات الإفك وشرور المرجفين! ولا أحد يطالب أحدا بالانتحار، ولكن بالحد الأدنى من المقاومة المشروعة، وبالحد الأقصى من الرغبة في الحياة الكريمة والإرادة المستقلة والكرامة الوطنية. فكيف يمكن أن يمر قرار أميركي بتهويد القدس دون أن ينتفض العالم الإسلامي كله دفاعا عن مقدساته؟ وكيف لا تنعقد لجنة القدس العربية في نفس اليوم لتبحث (الكارثة) كما وصفها الرئيس عرفات؟ وكيف لا تدعى الدول الاسلامية لانعقاد عاجل في اطار المنظمة التي تجمعها، حتى ولو كانت رئاستها الحالية مشغولة هذه الأيام بتدبير لقاءات سرية بين رجال الموساد وبعض الطامعين لخلافة عرفات، او استخدام بعض اراضيها للهجوم على العراق في حرب تدمير واحتلال العراق؟ ثم كيف يكون الموقف العربي بهذا التخاذل بينما كل ظروف بناء موقف قوي تتوافر، فمن ناحية هناك هذا النجاح في اقناع النظام العراقي بالقبول الكامل وغير المشروط لتطبيق كل القرارات الدولية، وهو الأمر الذي فاجأ اميركا وأربك حساباتها، وأوضح للعالم أن كل مزاعمها حول أنها تتحرك من أجل نزع أسلحة الدمار الشامل التي تقول ان العراق يملكها ليست صحيحة، وان ما تقوله من ضرورة احترام قرارات الأمم المتحدة هو هزل في موقف جاد.. حيث أنها هي وحدها التي توفر الحماية لإسرائيل وهي تنتهك أكثر من 24 قرارا للأمم المتحدة وهي تبني ترسانتها النووية والبيولوجية والكيماوية بمعونة واشنطن ورعايتها. السيطرة الامبراطورية ومن ناحية ثانية هناك رأي عام عالمي يعارض التوجهات الاميركية ويدرك المخاطر التي تقود اميركا العالم إليها عبر استخدامها المشبوه للقوة في فرض سيطرتها وبناء امبراطوريتها، وتتصاعد موجات الاحتجاج في أوروبا التي عانت من حربين عالميتين دفعت ثمنهما غاليا، ويترجم ذلك نفسه في مواقف أوروبية رسمية متباينة.. بين رفض ألماني، ومعارضة فرنسية، وحتى بلير الحليف الاساسي لأميركا يجد نفسه معزولا أمام معارضة هائلة من الشعب البريطاني وأحزابه ونقاباته ضد الالتحاق الذليل لبلير بالحملة الصليبية الجديدة، التي يقودها بوش. ومن ناحية ثالثة، هناك هذا الإدراك العام بأن الخطر لن يتوقف عند العراق أو فلسطين، وأن العالم العربي كله مهدد بهذه الاستراتيجية (الصليبية) التي يقودها صقور الإدارة الاميركية للهيمنة على المنطقة والتي لن تستثني حتى أقرب الحلفاء العرب السابقين لواشنطن، ومن هنا كانت الحملة الاميركية على السعودية ومصر، وتوجية كل الاتهامات التي اكشتفتها الادارة الاميركية فجأة في الحليفين القديمين من العداء للديمقراطية، الى احتضان الارهاب، الى عدم احترام حرية الأديان، الى اضطهاد المرأة، ثم السماح بمقاطعة الهامبورجر والكوكاكولا، والاعتراض على ضرب العراق وإبادة الفلسطينيين!! هذا الوعي بالخطر الذي تمثله السياسة الاميركية العدوانية يقلب كل الموازين، ولعل التصريحات الأخيرة لوزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز تكشف عمق الأزمة التي تعانيها العلاقات الاميركية مع النظام العربي الرسمي، هذه التصريحات التي يؤكد فيها المسئول السعودي أن (اميركا تعادي الاسلام وتساند إسرائيل في كل جرائمها ضد الفلسطينيين، وتكيل بمكيالين فتطالب العراق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن في الوقت الذي تؤيد اسرائيل وهي ترفض كل قرارات مجلس الأمن، وأنها ستشن حربا لقتل العراقيين مدعية أن صدام حسين يمتلك أسلحة الدمار الشامل بينما اسرائيل تملك كل أسلحة الدمار القاتل). ضرورات القمة انه موقف جديد يمكن البناء عليه ومن هنا نأتي الى النقطة المهمة في الأوضاع الصعبة التي نمر بها، فقد أعلن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى انه لا نية لعقد قمة عربية طارئة، ولا شك ان الأمين العام كان لديه من المعطيات ما يعزز ذلك الاتجاه.. فقد كان عائدا من نيويورك بعد جهود دبلوماسية عربية كان له شخصيا نصيب وافر منها، أدت الى قبول العراق لعودة المفتشين الدوليين، وكان المفترض أن تؤدي هذه الخطوة إلى كبح جماح الحركة الاميركية المسعورة نحو الحرب.. ولكن ذلك - للأسف الشديد - لم يحدث، بل أعلنت واشنطن أنها ستخوض الحرب وحدها، إذا عارضتها الدول الكبرى في مجلس الأمن، ورفضت الاتفاق بين العراق والأمم المتحدة ومنظمة الطاقة النووية على اعادة المفتشين وأعلنت أن ذلك لن يتم إلا بشروطها التي وضعتها في مشروعها الجديد الذي يستهدف ازالة السيادة العراقية، ونقل العلماء العراقيين الذين تحددهم لاستجوابهم في الخارج وربما بعد استمتاعهم بحقوق الإنسان والحريات التي تكفلها اميركا في معتقل غوانتانامو! ولقد تطورت الأمور بعد ذلك.. فالقرار الاميركي بتدمير واحتلال العراق يبدو قرارا بلا رجعة، وقرار القدس (الكارثة) لم تنجح محاولات تجميله، والأوضاع في فلسطين تنذر بكوارث أعظم، والتهديدات الاميركية عندما تصل الى مصر والسعودية فالاخطار هائلة، وسياسة (التوسل) لاميركا أو (التسول) منها وصلت بالنظام العربي الى الحضيض. وفي وجه هذا كله يبدو السؤال المنطقي هو: إذا لم تنعقد القمة العربية الآن، فمتى تنعقد؟.. وإذا لم تكن الأنظمة العربية قادرة على مجرد الاجتماع لمواجهة الأزمة، فما هو مبرر وجودها؟ أعرف أن العقبات كثيرة، والفيتو الاميركي موجود على هذا اللقاء، ومعظم الأنظمة ليس لديها ما تقوله أو تفعله، وبعضها يخشى من أسئلة مشروعة لابد أن تثار في هذا اللقاء حول القوات الاميركية المرابطة في أراضيها والقواعد الاميركية فيها التي تعد لقيادة الضربة ضد العراق! والبعض يقول لنا شيئا ويقول لواشنطن شيئا آخر! ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا: إذا لم تكن القمة اليوم.. فمتى تنعقد؟ ويبقى الأمل في أن تفتح المشاورات المصرية - السعودية - السورية الأبواب المغلقة، وان يكون التفاهم بين العواصم الثلاث بابا لقمة طارئة تضع الجميع أمام مسئولياتهم، وتعلن بوضوح الرفض القاطع لضرب العراق مادام ملتزما بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، والرفض القاطع للقانون الاميركي بتهويد القدس واعتبارها العاصمة الموحدة والأبدية لاسرائيل، وتحميل واشنطن المسئولية الكاملة عن تطبيق هذا القرار، والدعوة لفرض احترام قرارات الشرعية الدولية على اسرائيل كما يتم فرضها على العراق، والتمسك بتحويل المنطقة الى منطقة منزوعة من السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل، ثم تأكيد الالتزام بمواثيق الجامعة واتفاقيات الدفاع المشترك بكل أحكامها. مثل هذه القمة وحدها هي التي تعيد للأنظمة العربية شيئا من احترامها المفقود أمام النفس وأمام الآخرين، وتثبت للعالم ـ ولاميركا أساسا ـ أننا لسنا أمة من الهنود الحمر، وأن مصيرنا لن يكون في معسكرات اللاجئين! ـ نائب رئيس تحرير «اخبار اليوم» المصرية

Email