استراحة البيان ـ قاضيان في النار .. ـ يكتبها اليوم: سعيد حمدان

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 27 رجب 1423 هـ الموافق 4 أكتوبر 2002 تظل وظيفة القاضي في الاسلام مهنة من اصعب الوظائف التي يمكن ان يمتهنها الانسان. ذلك لانها عظيمة جداً، وانها تعني العدل الذي هو من صفات الخالق، وايضاً انها تتطلب مواصفات خاصة اهمها: ان يكون صاحبها يختلف عن كل البشر في اشياء عديدة، منها طبيعته ومشاعره ومصالحه، لا يسكن الى قلبه ولا تغريه الحياة وملذاتها وان يشبع حاجاته بعيداً عن كل ما يثير الشبهة او يقترب من قدسية مكانته، عليه ان ينظر دائماً انه فوق البشر جميعاً بالميزان الذي يحمله، ومتى ما تغيرت نفسه فإن كفة الميزان ستتغير هي الاخرى، لحظتها لن يعدل، واذا غابت العدالة جاء الظلم بوجوهه ومشاربه. ومنذ ان قام الدين ونهضت هذه الامة، كان دور القاضي واحداً من وظائف عديدة رغب فيها ورهب منها ايضاً، فهي قبل ان تكون مهنة دنيوية هي سلطة دينية، تلزم صاحبها ان يراعي ويخشى خالقه، ذلك الذي يجب طاعته في كل شيء والخوف منه وحده سبحانه. وخوفاً مما سيحل بالأمة في أزمنة مختلفة، كان شرح النبي صلى الله عليه وسلم لجميع قضايا الدنيا والدين في عمومياتها وخصوصياتها، حتى انه عليه الصلاة والسلام تطرق الى أمور لم تكن ظاهرة في عهده وقضايا لم يشهدها ذلك العصر، تنبأ بها وأخبر عنها استشرافاً لمستقبل هذه الامة. وكان القضاء واحداً من الامور التي حرص على تبيانها الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع جنباتها وكل ما يتعلق بشخصية الانسان الذي سيتولى هذه الامانة. ففي الحديث النبوي الشريف ان القضاة ثلاثة: قاض قضى بالحق وهو يعلم فذلك في الجنة، وقاض قضى بالجور وهو يعلم او لا يعلم فهو في النار، وقاض قضى بغير ما أمر الله فهو في النار. ودرسنا في التاريخ الطويل لهذه الامة قصص وحكايات علماء وأئمة كبار في علمهم وتقواهم رفضوا اوامر الامراء والسلاطين بتولي أمر القضاء، ورضوا ان يكونوا في السجن والتعذيب والتشرد وحتى الموت، خوفاً من هذه المهمة، وقرأنا ايضاً في تاريخ الاسلام كيف تساوى الخلفاء والحكام امام عامة الناس في الجلوس أمام القضاء، وكيف حكم هؤلاء القضاة في حالات عديدة لصالح الفقراء او حتى غير المسلمين ضد حكامهم هذا عندما كانت الامة هي الاقوى وهي الاعلى، تضع ميزان العدالة فوق الجميع، وقتها لم يخف قاض، وغاب جور الحكام وعم الامان وازدهرت الدنيا عندهم. اليوم تبدل الدهر وتغير الحال، فصارت الامم الاخرى اكثر عدلاً وامانة في احكامها وقضائها، يضرب بها الوصف في ذلك، ويحلم أهل هذه الامة ان يكون عندهم عدل ونزاهة كما هو عند الاخرين. يا للزمان كيف تحوّل ! صار كرسي القاضي معلقاً بمتطلبات وأحكام ورغبات، وأصبحت هناك حسابات مصالح الحكومة وقدسية الحاكم وحاشيته الذين هم فوق القضاء. ودخل الخوف وحال الدنيا ومطالبها في نفس القاضي فمالت كفة الميزان بل أصبح من غير كفة توازنه وتعدل أحكامه. هكذا هو الواقع في حالات، حدث ويحدث في كثير من بلداننا، هذه التي كانت يوماً ما أمة عظيمة، عظمتها في حكمها وعدلها وانسانيتها. مطلع هذا الاسبوع نشرت الصحف خبراً يبين الى اي درجة وصل الفساد، فقد قدم مواطن مصري بلاغاً الى هيئة الرقابة الادارية ضد مطلقته، يتظلم فيه من أحكام القاضي الذي نظر في أمر قضيته، مؤكداً للهيئة على وجود علاقة بين القاضي وسكرتير جلسته ومطلقته. قامت الهيئة بمراقبة هاتف القاضي واكتشفت ان المطلقة دفعت له فاتورة هاتفه الجوال وأكثر من ذلك انها اقامت مع القاضي وسكرتيره علاقة غير مشروعة، ووعدت الاثنين باقامة مشروعات تجارية مشتركة معهما! هذه وقائع أثبتتها الهيئة ضد السيد القاضي الذي هو في القضية رئيس محكمة جنح وسكرتير جلسته. حالة شاذة تثير الصدمة والخوف والقلق وتشوه صورة القضاء ومكانته. الوجه المشرق في القضية المنشورة التي حكم فيها ببراءة القاضي المتهم وسكرتيره بسبب خطأ تنفيذي وهو ان الرقابة الادارية لا شأن لها بمراقبة القضاة طبقاً للدستور المصري، هذا الوجه تمثل في العدالة المصرية عندما كشفت عن القضية أمام الرأي العام وقدمت القاضي كمتهم للمحاكمة وهو فعل يصعب حدوثه في كثير من البلدان العربية. ويظل القاضي أكبر من مجرد وظيفة انه سلطة، لا سلطان عليها سوى العدالة السماوية، وضمير هذا الانسان. يبقى القاضي رمزاً للعدالة والامن والامان، فأي امة استقام فيها القضاء وسادها العدل، لا شك انها ستكون اكثر استقراراً وازدهاراً وستقود الامم وستكتب لها السيادة والرفعة، فهكذا كانت الامة الاسلامية يوماً ما. .. واسألوا التاريخ.

Email