جنرال ألماني للتموين، بقلم: صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تثر الطريقة العبثية التي مات بها (عادل ثابت) ضجة كالتي أثارها صدور كتابه (فاروق الأول: الملك الذي غدر به الجميع) (1989), بل لقيت الصمت نفسه الذي لقيه كتابه الثاني (عبدالناصر والذين غدروا به) (1997), أما أنا فقد تأجل إلى أجل غير مسمى ميعاد كنت أنوي أن أطلبه منه, ليجيب عن عشرات الأسئلة التي أثارت فضولي وأنا أقرأ الكتابين, وأقارن ما ورد بهما من معلومات تاريخية جديدة, أو مختلفة عما كنت قد قرأته قبل ذلك, وحين أعدت قراءتهما بعد وفاته, تنبهت ربما لأول مرة الى ان (الغدر) هو المشترك يبن عنوانيهما غدر الجميع بالملك فاروق, وغدر البعض بعبدالناصر ـ وكان آخر الذين غدروا بــ (عادل ثابت) بعد (فاروق) و(عبدالناصر) هو تلك السيارة المسرعة التي دهمته وهو يعبر الطريق. كان كتابه عن الملك فاروق صدمة أذهلت أجيالاً تشربت خلال ما يقرب من نصف قرن, تحت ضغط دعاية رسمية مكثفة ومبتذلة, صورة لآخر ملوك مصر, لا تقل ابتذالاً عمن رسموها: كائن بدين, لا يفيق من شرب الخمر (التي لم يذق منها قطرة واحدة في حياته) ولا هم له إلا مطاردة النساء, وعقد صفقات الفساد ونهب المال العام, والتآمر مع المستعمرين, إلى أن قامت الحركة المباركة ــ وهو الاسم الإعلامي الذي عرفت به ثورة 23 يوليو 1952 في سنواتها الأولى ــ فخلصت البلاد من شره وفسقه, ليتولى أمرها (فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى). بعبارة واحدة مكثفة وموجزة, شطب (عادل ثابت) على كل هذا الابتذال, فقد عرف التاريخ من بين صنّاعه وقادته البارزين, كثيرون كانوا شغوفين بمطاردة النساء, ومقامرين ولصوصاً, أما الذي لم يقله (عادل ثابت) بالوضوح الكافي فهو أن الذين عزلوا (فاروق) وخططوا لتلك الحملة للتشهير به, كان من بينهم من فعل أشياء من ذلك, أو فعلها كلها, أو أضاف إليها ما هو أسوأ منها. في الموضوع, وبعيداً عن النساء والقمار ونهب المال العام, فقد كان (فاروق) ـ في رأي (عادل ثابت) ــ وطنياً متحمساً تحدى النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط وحاول أن يكسب الأمريكيين, وسعى لكي يحول (مصر الصغرى) ــ التي تنكفىء داخل حدودها ــ إلى (مصر كبرى) لتلعب دوراً عربياً وإسلامياً, وتصدى لإسرائيل وحاول أن يمحو عار هزيمة 1948 وأن يعيد بناء الجيش الوطني, وككل الوطنيين المصريين الذين حاولوا ذلك ــ من (محمد علي) الى (عرابي) ومن (اسماعيل) إلى (عباس حلمي) ــ عجز (فاروق) عن التحكم في مشاعره الوطنية الملتهبة, وعن أن يسوسها بحرص يتسم بالتعقل, فكانت النتيجة أن تآمر عليه البريطانيون الذين لم يحبهم يوماً ولم يحبوه, وتخلى عنه الأمريكيون وشجعوا الثوار على التخلص منه, وتصدى له حتى هؤلاء الضباط الأحرار الذين ينتمون للطبقة الوسطى المصرية, ممن كان محتملاً أن يستعين بهم, في قيادة جيش يفي بالتزامات (مصر الكبرى) فيحرر فلسطين والخلاصة أن (فاروق) فقد عرشه بسبب إصراره على استرداد فلسطين. بطريقة الانقلابات العسكرية المفاجئة تماماً وغير المبررة أحياناً, أعاد (عادل ثابت) رسم البورتريه التاريخي للملك فاروق بألوان متناقضة تماماً, تمزج بين الأخضر والأبيض, وكانا رمز الوطنية المصرية, في حقبة ما قبل الحركة المباركة, ليقدمه لجيل عرف تاريخه, عبر حملات الدعاية الثورية التي أدمنت ــ كعرب الجاهلية, وبتعبير (نزار قباني) ــ صنع أربابها في الصباح لتأكلهم في العشية! وإذا كان من الصعب أن ننكر أن مؤرخين أكاديميين قد ساهموا في رسم البورتريه الثوري للملك فاروق بألوانه الدعائية الفجة, فمن الإنصاف أن نقول إن بعضهم, حاول ـ وخاصة في السنوات المتأخرة من العهد ذاته ــ أن يحافظ على موضوعيته وحياديته, لكن كتاباتهم بعكس كتاب (عادل ثابت) لم تصل إلى هؤلاء الذين عرفوا التاريخ عبر مدرس الدعاية الثورية, ثم إنها ــ وهذا هو الأهم ــ كانت تخلو من كثير من ميزات كتابه, والعبارة ووضوح الفكرة, بصرف النظر عن الاتفاق والخلاف, فضلاًَ عن أنه كان يجمع بين (الشهادة) و(التأريخ) وبين مذكرات الكاتب عن الملك فاروق, وتحليله للحقبة التي تولى فيها حكم مصر!! كان عادل ثابت في موقع أتاح له أن يعرف عن (فاروق) ما لم يعرفه غيره, فوالدته هي ابنة خالة الملكة نازلي وصديقتها الأثيرة, وبحكم هذه الصلة عرف (فاروق) ــ الذي كان يكبره بعام واحد ــ معرفة شخصية, وثيقة, ومع أنه عمل بالصحافة الأجنبية بمصر, ثم أصبح أحد المعاونين المقربين للسيد (عبدالوهاب عزام) الأمين العام الأول للجامعة العربية, فقد ظل طوال الوقت على صلة سياسية وثيقة, بالملك الشاب, وقام بمهام سياسية كثيرة كلفه بها, وكان حلقة الوصل بين (عزام) الذي كان في شبابه مناضلاً ثورياً, من الساعين الى الوحدة العربية, وبين (فاروق) خاصة خلال السنوات التي أعقبت هزيمة 1948. وحين غدر به (فاروق) وتخلى عن العرش, لم يفكر (عادل ثابت) في مغادرة البلاد كما فعل غيره من أصهار الأسرة المالكة, فقد كان والده من الرعيل الأول من الدبلوماسيين المصريين الذين قاموا بإعادة بناء وزارة الخارجية المصرية, ثم إن العهد الجديد سرعان ما مد له يده, وطلب إليه أن يكون أحد مؤسسي وزارة الارشاد القومي (الإعلام حاليا), ومع أنه تردد خشية أن يكون في قبوله للتعاون معهم غدر بصديقه الملك المعزول, إلا أنه قبل في النهاية, ثم فضل أن يعرض على الثوار مشروعاً وجده أكثر مناسبة له ولهم, هو أن يصدر مجلة سياسية واقتصادية شهرية باللغة الانجليزية تعتمد على المعلومات الموثقة والتحليلات الرصينة, وتتحرر من الرقابة ومن الخطاب الإعلامي الموجه للداخل, لتكسب ثقة قرائها من صنّاع القرار والنخبة المؤثرة في السياسات الأوروبية, وعبر ذلك, تقدم لهم صورة تدعو للثقة في النظام الثوري وتخدم احتياجات سياسته الخارجية. وتحمس عبدالناصر للفكرة, وكتب افتتاحية المجلة, التي ظلت تصدر لمدة سبع سنوات بدعم مالي غير منظور من الحكومة, كان عادل ثابت خلالها قريباً كما يقول من الأجهزة السياسية والعسكرية المصرية, قبل أن يغدر به (عبدالناصر), ويقدمه للمحاكمة في قضية تجسس وهمية. أما وذلك هو (عادل ثابت) فليس من طبائع الأمور أن يتصور أحد أنه فيما كتبه عن (فاروق) أو (عبدالناصر) قد تخلى تماماً عن عواطف الحب وصلات الدم التي ربطته بالأول, أو تنزه عن التحامل على الثاني, لكنه على عكس الذين يتبعون منهج البروباجندا في كتابة التاريخ, لم يقع في خطأ الانحياز الفاضح مع أو ضد أحدهما, وحاول بقدر الطاقة البشرية, أن يبحث عن أدلة منطقية تبرر حكمه التاريخي على كل منهما, واستعان على ذلك بثقافته الموسوعية, وبأسلوبه المكثف المليء بالدلالات, على الرغم من ركاكة الترجمة العربية, مما يعطي كتابيه ــ وخاصة كتابه عن (فاروق) ــ نكهة خاصة ومميزة في كل ما كتب من تراجم عن الاثنين! وكان فاروق على رأس الذين غدروا بنفسه, وهم طابور طويل من الغادرين يضم أمه, التي كانت امرأة قوية الشكيمة وأباه الذي دفعته وساوسه المتسلطة في أقربائه الذين ينافسونه على العرش, وفي زوجته التي كان يشك في سلوكها, الى عزل ابنه عن الجميع, فعاش سنوات طفولته ومراهقته المبكرة في محمية ملكية ــ أو (صوبه) ــ خرج منها ليجلس على العرش, ليحيط به منذ ذلك الحين, وإلى أن عزل عنه, بقية طابور الغادرين: زعيم الأمة ورئيس الوزراء مصطفى النحاس الذي وجد في صغر سنه, فرصة لكي يسترد من الجالس على العرش ما كان يسميه سلطة الأمة, وهو ما عجز عنه في حياة أبيه, والمندوب السامي البريطاني الذي كان يعامله بالطريقة التي يتعامل بها نظار المدارس مع تلاميذهم, وزوجته الملكة (فريدة) التي دخلت في صراع مكشوف مع أمه الملكة نازلي نغص عليه حياته فهرب منهما, ليطارد كل امرأة يصادفها, وباشوات أحزاب الأقلية الذين أذلوا أنفسهم أمامه رغبة في الحكم, ففقدوا احترامه, ولم يعد لهم تأثير عليه! وسط هذا الطوفان من الغادرين, كان (فاروق) يحاول أن يحقق حلم أبيه, في تأسيس أسرة مالكة مستقرة تحكم وطناً مستقلاً وكبيراً ومؤثراً فيمن حوله, فقد كان أول مصري منذ فقدت مصر الفرعونية استقلالها, وعلى عكس أسلافه من (أسرة محمد علي), الذين ظلوا في لغتهم وثقافتهم ونشأتهم, متمصرين, يرطنون بخليط من التركية والعربية والفرنسية, فقد كان (فاروق) ــ وبفضل أبيه ــ أول ملك مصري ينشأ نشأة مصرية خالصة, ويشعر بانتماء كامل لمصر, وكان ذلك ــ في رأي (عادل ثابت) ــ هو الذي أشعل عواطفه الوطنية التي قادته الى صدام مع الجميع, انتهى بخلعه عن العرش! في سعيه لكي يحول مصر الى مملكة مستقلة ومرهوبة الجانب انتمى (فاروق) الى اتجاه قديم في السياسة المصرية, هو الاتجاه نحو الشرق, الذي يسعى لأن تكون مصر قاعدة لقوة اقليمية وعربية, ولقوة دولية إسلامية, على عكس الاتجاه الوطني المحدود الذي كان يدعو الى انغلاقها على ذاتها أو لاتجاهها نحو الغرب لتذوب فيه, والذي كان يمثله ــ في رأي عادل ثابت ــ حزب الوفد, وغيره من المتحمسين لفكرة القومية المصرية, وذلك هو السياق الذي يفسر به كثيراً في سياسات عهده, من تحمسه لتزويج أخته الأميرة فوزية من ولي عهد إيران, الى دعمه لفكرة الجامعة العربية, ومن ضغطه على بقية الدول العربية لكي تخوض حرب فلسطين الأولى, على الرغم من معارضة حكومته, الى سعيه بعد الهزيمة لإعادة بناء الجيش, استعداداً لجولة أخرى تنتهي بإزالة دولة إسرائيل. ذلك هو السر الذي أذاعه عادل ثابت لأول مرة في كتابه وكان صاحب الفكرة في اعادة بناء الجيش المصري هو (عبدالوهاب عزام باشا), أمين الجامعة العربية, وأحد أقطاب الاتجاه نحو الشرق, الذي اقترح على (فاروق) أن تعهد مصر, لخبراء عسكريين ألمان بتدريب جيشها, وفي يوليو 1949, وبعد خطة بالغة السرية, وصل الى مصر جنرال ألماني اسمه (آرثر شميت) شارك في الحرب العالمية الأولى, وكان أحد أركان حرب الفيلق الأفريقي الذي قاده الجنرال روميل أثناء الحرب العالمية الثانية, وحصل على أربعة أوسمة عسكرية رفيعة, وصحبه (عادل ثابت) إلى اللقاء مع الملك, الذي قال له: إنني أريد منك أن تساعدنا على بناء الجيش المصري لكي يصبح قوة مقاتلة فعّالة تتمتع بكل المزايا والخبرات التي اكتسبها الجيش الألماني, وسوف ننشىء قيادة للتدريب تتولاها هيئة عسكرية مشتركة من الضباط الألمان والمصريين, يضعون معاً أسس تنظيم جيش نموذجي جديد. ووعد شميت بأن ينقل الى الجيش المصري, كل خبرات المدرسة الألمانية العسكرية من حيث التنظيم والتسليح والتدريب, من خلال فرقة مقاتلة تجريبية تكون بمثابة كلية عسكرية فنية رفيعة المستوى, واقترح عزام باشا إعداد مكان مناسب بعيداً في الصحراء الغربية لإقامة هذه الفرقة, بحيث تكون بعيدة عن عيون الجميع من الانجليز الى الأمريكان ومن الإسرائيليين إلى القائد العام للجيش المصري, الفريق (محمد حيدر باشا) الذي تم التخطيط للعملية كلها من دون أن يعرف عنها شيئاً. وطلب (شميت) أن تتاح له الفرصة للاطلاع على كل وثائق وتقارير الجيش المصري عن هزيمة 1948, ليستطيع أن يبحث أسباب الهزيمة من الناحية العسكرية, وأن يتم اختيار عدد من ضباط الجيش النظامي يمثلون مختلف فرق الأسلحة, لتتكون منها كتيبة تتولى تدريب غيرها, الى أن تصبح لواء ثم فرقة, على أن يكون الضباط المختارون ممن أظهروا مهارة عسكرية في أثناء حرب 1948, كما اشترط أن يكون حراً في اختيار بقية معاونيه من الضباط الألمان. وكانت المشكلة تكمن في أن (حيدر) ــ الذي كان يقود الجيش أثناء حرب 1948 ــ كان لا يزال في منصبه, وليس من المتوقع أن يتعاون مع ضابط أجنبي عمله الأول هو التحقيق في إدارته للعمليات, ومع أن الملك وعد (شميت) بعزل (حيدر) عن منصبه, إلا أنه لم ينفذ وعده, إذ كان يعتمد عليه في حشد ولاء الجيش له, وكان يثق في أنه وحده الكفيل بضمان هذا الولاء, وهو ما دفع الملك في النهاية إلى أن يطلب من (شميت) التعاون مع (حيدر), وهو القرار الذي يعتقد عادل ثابت أنه كان كارثة وأنه كلف (فاروق) عرشه. ما كاد حيدر يعلم بوجود شميت, حتى هزه ذلك هزة عنيفة, كما أزعجه طلب الجنرال الألماني دراسة أسباب هزيمة 1948, ليس فقط لأنه لم يكن قد قام بأي بحث عن أسبابها ولكن كذلك, لأنه لم يكن يريد لهذه الأسباب, ومن بينها تقصيره في القيادة, أن تعرف, وفي تلميح هو أقرب للتصريح, يؤكد (عادل ثابت) أن حيدر كان وراء حملات التشهير التي شنتها الصحف على الملك فاروق خلال تلك الفترة, من خلال معلومات كاذبة, تنسب اليه المسئولية عن الهزيمة, بعد أن استفزه وجود (شميت) والتفكير في منحه سلطة التحقيق في أسباب الهزيمة. وأخيراً وفي يونيو 1950, وبعد أحد عشر شهراً من وصوله إلى مصر, تعطف حيدر وقبل أن يلتقي بالجنرال الألماني, ليعامله أثناء اللقاء الذي لم يستمر سوى دقائق, بأقل قدر ممكن من الكياسة, وأخطره بأنه سيخصص له مكتباً ويعين له ضابطاً يكون حلقة الوصل بينهما, وفوجىء شميت بأنهم يتعاملون معه, بأنه مجرد جنرال تموين, وأن السماح له بقيادة قوات مصرية حتى لأغراض التدريب أمر مستحيل بسبب ضرورات (وطنية) مع التمليح بأن الإصرار على غير ذلك يمكن أن تكون له عواقب وخيمة داخل الجيش, وكان أقصى ما عُرض عليه, هو أن يكون مستشاراً لوزير الحربية لشئون الامدادات العسكرية, على أن يكون بدون أي سلطة, وهو ما اعتبره مهيناً له, فقدم استقالة مسببة, قال فيها إن (حيدر) يقاوم وجوده, لخشيته من أن يفضح مسئوليته عن الهزيمة, لأن مصر خسرت الحرب بسبب عجز قياداتها عن استخدام مزايا الأسبوع الأول منها, ولولا ذلك لقضت على الدولة الصهيونية! وكرر الجنرال الألماني مطالبته بأن تكون له سلطة حقيقية لكي يمارس المهمة التي جاء الى مصر بسببها, وأن يكون مستقلاً عن القائد العام, مؤكداً ــ في ختام استقالته ــ أن الجيش المصري كان يمكن أن يكون قدوة مؤثرة في أوضاع الشرق الأوسط لولا أنه يقاد عن طريق إدارة من الهواة لم تتدرب أو تتأهل لمناصبها, ولو أن الوضع استمر كذلك فلا أمل في أن يواجه الدولة الصهيونية! ورفض الملك الاستقالة, وطلب من (شميت) أن يصبر بعض الوقت, إلى أن يتمكن من إقالة حيدر, وامتد الصبر الى عام آخر, إلى ان فوجىء عادل ثابت ذات يوم من عام 1951, بوزير الحربية الوفدي يستدعيه الى لقائه, وعندما دخل غرفة مدير مكتبه وقدم نفسه له, فوجىء بالرجل يقول له بذهول: إننا لم نطلبك.. بل طلبنا الخبير الألماني الآخر! وبعد بحث اكتشف عادل ثابت أن حيدر كان طوال الوقت يناور عليهم, وأنه اتصل بعميل لوكالة المخابرات الأمريكية طالباً أن تزوده بجنرال ألماني, وزودته الوكالة بالفعل بالجنرال (فار مباخر), وبذلك يستطيع (حيدر) في الوقت المناسب أن يقول للملك, إن لديه جنرال تموين ألمانياً, لا يطالب بوثائق هزيمة 1948, ولا ينوي البحث عن أخطاء الهواة الذين كانوا يقودون الجيش خلالها. وأدرك (عادل ثابت) أن سر الجنرال الألماني الجديد, لا بُدّ أنه قد وصل إلى الإسرائيليين عبر حلفائهم الأمريكيين, وثبت فيما بعد أن استنتاجه صحيح, وأن عميل المخابرات الأمريكية الذي توسط في صفقة استيراد الجنرال (فار مباخر) كان عميلاً للموساد كذلك! وهكذا كان (حيدر) ــ طبقاً لرواية عادل ثابت ــ هو آخر الذين غدروا بالملك فاروق, أما أولهم فكان (فاروق) نفسه, الذي لو كان قد أخذ الأمور بحزم لبنى جيشاً وطنياً, يستطيع أن يستوعب الطموحات المشروعة, للضباط الأحرار, إذ كان من المؤكد أن نصفهم على الأقل, كانوا سيكونون من بين أعضاء الفرقة التي كان مقرراً أن يدربها الجنرال شميت, الذي عاد إلى بلاده في أعقاب ذلك! أما عادل ثابت, الذي يلمح بأن سعى (فاروق) لتدريب جيشه على النسق الألماني, كان وراء الضوء الأخضر الذي منحته أمريكا, للضباط الأحرار, للانقلاب عليه, فهو يؤكد ذلك بعبارة ينقلها عن دبلوماسي أمريكي صديق له, يقول إنه كان يصاحب السفير الأمريكي عندما ذهب ليودع الملك فاروق, قبل رحيله عن مصر, فقد التفت السفير الأمريكي إلى أنور السادات الذي كان قد جاء لوداع الملك نيابة عن مجلس قيادة الثورة, وقال له: حسناً يا كولونيل.. هل ستبرمون صلحاً مع إسرائيل الآن.. فأجابه السادات: سوف نفعل ذلك بعد تطهير الفساد, وهو الوعد الذي حققه ــ كما يضيف عادل ثابت ــ بعد ثلاثين عاماً! تلك إيماءة مقصودة تريد أن توحي بأن الأمريكيين والإسرائيليين كانوا وراء عزل (فاروق), لأنه كان يسعى لبناء جيش وطني يمحو عار هزيمة 1948, وبأن ثورة 23 يوليو تمت بتواطؤ أمريكي إسرائيلي وهي إيماءة لا يمكن أخذها مأخذ الجد, بسبب خطأ جوهري في المعلومات, هو أن أنور السادات لم يكن في وداع الملك (فاروق) عند رحيله إلى المنفى, بل كان جمال سالم, وبسبب الشواهد التالية, أما المؤكد, فهو أنه كان مستحيلاً أن يغفر (عادل ثابت) لــ (عبدالناصر) أنه غدر به, فاتهمه بالتجسس, بعد أن خدم نظامه لسنوات, فأراد أن يرد له التحية بأحسن منها! وما أكثر التحايا المتبادلة التي تحفل بها صفحات التاريخ.

Email