سيجارة.. وموبايل.. وبانجو.. وفياجرا! _ بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتفجر ذاكرة المصريين وألسنتهم بقطرات صافية من عسل الحكمة أو الثقافة الخاصة بهم والتى تعرف بالأمثال والحكم الشعبية.. وتلخص هذه الجمل الحافظة.. خفيفة الظل كل خبرة الأيام والأقدار .. وتورثها جيلا بعد آخر. وتفرض الحكمة الشعبية على المصريين أن يمدوا أقدامهم حسب طول اللحاف الذى يملكونه.. فى كتابة واضحة عن ضرورة العيش على قدر الدخل.. وتفضل الحكمة الشعبية استخدام (الحمارة العرجاء) عن (سؤال اللئيم).. وتعترض على الفقير الذى لا يملك قوت يومه ويسأل عن طريق (الخمارة).. وتسخر من الذين لا يعيشون عيشتهم ويتطلعون إلى حياة الآخرين.. وتشرح فضائل عدم الاقتراض.. فالدين هم بالليل وبالنهار.. والقليل مع التدبير أبقى من الكثير مع التبذير. لكن يبدو أن كل هذه الحكمة التى جمعناها على مدى البشرية .. قطرة.. قطرة.. قد ضاعت مرة واحدة.. فقدناها.. فنحن لم نعد نعبأ بطول اللحاف.. ولا بحجم ما فى جيوبنا من أموال.. وأصبحنا نأكل بالدين.. ونسكن بالدين.. ونستهلك أكثر مما نملك.. ونتفاخر بأشياء نسهر فيها.. كل ذلك فى وقت نعانى فيه من أزمات اقتصادية لاتحتمل كل هذه الميوعة.. ولا كل هذا الحمق. وربما كانت شخصية (الكحيت) الكاريكاتورية التى اخترعها الساخر الأعظم أحمد رجب وجسدتها ريشة رفيقة فوق عرش دولة (النكتة) الفنان مصطفى حسين هى أكثر الشخصيات المرسومة تعبيرا عن حالة منتشرة ومتزايدة كالوباء بين ملايين من المصريين.. لا يمدون أقدامهم على طول لحافهم.. ولا يعيشون على قدر ما يملكون.. ويستهلكون مالا يعرفون.. وما لا يقدرون على تحمل ثمنه المالى والنفسى والاجتماعى. إن (الكحيت) هو شخص رث الثياب.. يعيش فى بيت من صفيح. يطفو فوق برك راكدة.. وتحاصره تلال من القمامة..لكنه فى الوقت نفسه يدخن سيجار (الكوهيبة) الذى يفضله الرئيس الكوبى فيديل كاسترو.. ويحتسى (الكورفازيية) الفرنسى الفاخر الذى كان نابليون بونابرت يقدمه إلى ضيوفه ..ويعرف كل أنواع الطعام الفاخر. من الفواجراة (أو كبد الأوز المنهوك) إلى السيمون فيميية (أو سمك السلمون المدخن).. ومن الشاتوبوريان (قطعة لحم معينة تقدم لشخصين ) إلى اللازنية (طاجن مكرونة باللحلم المفروم).. بل أكثر من ذلك لا يهتم الكحيت.. إلا بأخبار الأسرة الملكية البريطانية. وبنجوم مهرجان (كان).. وحفلات المشاهير على سفينة الحب (لاف بوت). وقد كنت أتصور حتى وقت قريب أن (الكحيت) شخصية لايوجد منها الكثير.. وإنها تسخر من حالات فردية قد نقابلها بالصدفة. وقد نعيش كل عمرنا ولا نقابلها..ولكن.. الواقع الذى يحاصرنا من كل جانب يؤكد أنها شخصية بارزة.. ومتكررة.. ومسيطرة. وقابلة للتقليد والتكرار فى كل لحظة. إن الأرقام التى تؤكد وجود هذه الشخصية لايمكن الطعن فيها.. فنحن نستهلك من حبوب الفياجرا الزرقاء ما قيمته مليار جنيه.. إن بعض الأرقام تؤكد أن الرقم يزيد عن سبعة مليارات جنيه. ولكن وزير الصحة ينفى ذلك ويرى أن الرقم الذى دفعه المصريون ين فى الفياجرا فى العام الماضى لا يزيد على 600 مليون جنيه. وبين الرقمين يمكن أن نقول ونحن مطمئنون أن المصريين دفعوا فى الفياجرا مليار جنيه فى عام واحد.. ,فى الوقت نفسه لاتزيد ميزانية المجلس الأعلى للشباب والرياضية الذى عليه رعاية 34 مليون شاب يمثلون أكثر من نصف المجتمع على 220 مليون جنيه.. بمتوسط 6 جنيهات تقريبا فى العام للشباب الواحد.. وهو مبلغ لايكفى لشراء سندوتش على الطريقة الأمريكية مع زجاجة مياه غازية.. أليس هذا أمرا مثيرا للاستغراب أن ينفق الكبار على متاعبهم الخاصة التى نحترمها ونقدرها فى عام ما ينفق على الصغار فى أكثر من أربعة أعوام بما فى ذلك شراء أراضى الملاعب. وبناء الإنشاءات.. وتمويل الأنشطة.. والاعانات والهبات التى تقدم إلى مراكز الشباب.. أليس من حق الصغار أن يقيموا قضية حجر علينا نحن الكبار يسقطون عنا فيها أهلية التصرف وإتخاذ القرار؟ وطبقا للتقرير النهائي الذى قدمته لجنة التعليم والبحث العلمى والشباب فى مجلس الشورى عن الخطة القومية التى سنعد بها الشباب لدخول الألفية الثالثة فإن عدد المتعطلين عن العمل يقترب من مليون ونصف المليون شاب وهو ما يعنى أن نسبة البطالة حسب المصدر نفسه تقترب من 9% وأغلب المتعطلين هم من حملة الشهادات الجامعية والمتوسطة.. وهو ما يعنى أننا أمام نوع من البطالة الواعية.. الفاهمة. القلقة. وتقدر تكاليف فرص العمل بالنسبة إلى هؤلاء بنحو 20 مليار جنيه فى أفضل الأحوال.. وهو نفس الرقم الذى ندفعه فى الموبايل أو التليفون المحمول فى 4 سنوات. إننا ندفع فى مكالمات سنويا أكثر من مليارين ونصف المليار جنيه.. وندفع فى ثمن شراء أجهزة جديدة للموبايل نفس الرقم.. أى أن ما يأخذه الموبايل من ميزانية القطاع العائلى فى مصر يزيد على خمسة مليارات جنيه سنويا.. وهو ربع المبلغ الذى تحتاجه لخلق وظائف وفرص عمل لجيش البطالة الذى يجد نفسه فى حالة يأس وتوتر وتمرد.. وهى حالة قد تدفعه إلى التطرف.. أو المخدرات.. أو الاغتصاب.. أو الاكتئاب.. ومهما كانت الأعراض فإن الكارثة التى تسببها البطالة سيدفع ثمنها الجميع..وعلى رأسهم الذين يستخدمون الموبايل. لقد أصبح الانفاق على الموبايل على رأس الفواتير التى تدفعها الأسرة.. ربما قبل الأكل وقطعا على حساب اللبس.. والترفيه.. وأحيانا على حساب الدروس الخصوصية. فما سر هذه الظاهرة التى تتلخص فى كلمة واحدة (المنظرة)؟ ما سر هذه الظاهرة التى جسدت كل العقد النفسية والاجتماعية التى كانت مكبوتة؟ أغلب الظن أن الموبايل جعل الجميع يشعرون بالمساواة وأذاب الفوارق بين الأشخاص والطبقات ولو من الخارج.. تماما كما فعلت من قبل السجائر المستوردة.. وثياب الجينز.وثياب البحر (المايوه) إن أبسط إنسان يحمل الموبايل يشعر بأنه لا يقل عن غيره ممن يملكون كل شئ. ويتحكمون فى كل شئ. ولا مانع من أن ندفع ثمن عقدنا النفسية والاجتماعية. ولكن ليس على حساب طعامنا وشرابنا وتعليم أولادنا.. خاصة وأن كل المليارات التى تنفقها على الموبايل تتسرب إلى الخارج ولا تعود بالنفع على الاقتصاد القومى فى وقت يصرخ فيه الجميع من مشاكل السيولة والركود والانكماش. إن الموبايل لا يعكس فقط هذه العقد.. وإنما يعكس عقدة أخرى مزمنة. عقدة الاستهلاك المجنون لكل ما نتعامل معه. إن الموبايل فى الدول والشعوب التى اخترعته يكاد لا يستخدم إلا فى أماكن محدودة.. فهو لا يستخدم فى السينما والمسرح والمطاعم والجامعات والطائرات والمستشفيات والكافيتريات.. يكاد لا يستخدم فى أى مكان يسبب فيه إزعاجا للآخرين. كما أن استخدامه لا يكون بالساعات كما هو الحال عندنا.. على طريقة (الكحيت). وعلى طريقة (الكحيت) أيضا فإننا نستورد من الخارج قائمة طويلة من السلع التى توصف بالاستفزازية.. مثل طعام القطط والكلاب.. وأنواع من اللبان. ومستلزمات أفراح. يقدرها الدكتور محمود عبد الفضيل بنحو مليار جنيه. تتسرب إلى الخارج أيضا دون أن نستفيد منها أو تعود علينا بالنفع.ز بل ربما لن تجلب لنا سوى ثرثرة ونميمة (عواجيز الفرح) الذين يحترفون الاشمئناط ولا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب. وعلى طريقة (الكحيت) كذلك فإننا ننفق حوالى خمسة عشر مليار جنيه على المخدرات. إن هذا الرقم يشكل أضعف تقدير.. ولن تكرر الدروس التى لا يستوعبها أحد عن خطورة المخدرات على المستقبل شباب هذه الأمة وصحته وقواه العقلية والنفسية. ولكننا نقول: إن هذه المليارات تزيد الطلب على الدولار فى وقت ارتفع فيه الدولار.. ويتجاوز حدوده. وهو ارتفاع يهدد مستوى المعيشة ومستوى أسعار الطعام الذى نستورد نسبة كبيرة منه من الخارج بالدولار.. إن تخفيض استهلاك المخدرات إلى النصف يفعل فعل السحر فى الاقتصاد المصرى.. فهل نبخل بذلك على بلادنا.. وعلى أنفسنا التى ندمرها ونسحقها ونفقدها كل مظاهر الكرامة البشرية ؟ وبعيدا عن (الكحيت) تنفق الأسرة المصرية حوالى ثلاثة عشر مليار جنيه على الدروس الخصوصية وتنفق ثلاثة مليارات على الكتب الخارجية. إن كل مدرس فى المدرسة يقابله مدرس فى البيت.. وكل كتاب تطبعه وزارة التعليم يقابله كتاب خاص يشتريه الطلبة والتلاميذ.. وقد وصلت مهازل هذا النظام إلى حد الحجز مسبقا عند بعض المدرسين قبل عام أحيانا. وكوّن البعض الآخر مراكز خاصة لتجميع الراغبين فى هذه الدروس.. ووراء هذه الدروس تكلفة أخرى غير منظورة.. تكلفة ( شحططة ) الآباء وراء أبنائهم وإنتظارهم ساعات طويلة لا يفعلون فيها شيئا. وهو ما يجعلنا نقترح بجدية تخلو من السخرية بالغاء المدارس ووزارة التعليم وترك الأمور على ما هى عليه.. وما يهمنى هنا هو أن مليارات الدروس الخصوصية تتسرب إلى سوق العقارات والأراضى الزراعية للمضاربة عليها.. فغالبية المدرسين لا يميلون للإستهلاك بعيدا عن ذلك.. وهو ما يضاعف من أزمة السيولة.. ويعطل دوران عجلة الأموال التى تنشط الاقتصاد وتمنحة حيوية إضافية هو فى حاجة إليها. وتبقى نقطة إنفاق شديد الحساسية. أرجو أن نناقشها بهدوء. ودون غضب أو تسرع إن ما ننفقه على الحج والعمرة والعلاج فى الخارج لا يقل سنويا عن ثلاثة مليارات ونصف المليار جنيه وهو ما يزيد على المليار دولار تذهب وتتسرب من الاقتصاد القومى إلى الخارج.. وتؤثر فيه. وهو فى الوقت نفسه يزيد عن دخلنا السنوى من قناة السويس. ولا أحد فينا يجرؤ على الغاء هذا البند من الانفاق العائلى.. لكن نطالب مثلما طالب المفتى وشيخ الأزهر وبعض أعضاء مجلس الشعب بوضع ضوابط وشروط لهذا البند. بحيث لا يتكرر سفر نفس الشخص للحج سنويا ولو كان ذلك سياحيا.. أو يتكرر سفر نفس الشخص للعمرة قبل ثلاث سنوات.. إننا لا نطالب بأن يفرض ذلك بقانون يقره البرلمان. وإنما نطالب به بقانون يقره الضمير العام والمصلحة العامة. إن جملة ما ينفق على الدروس الخصوصية والفياجرا والمخدرات والافراح والسفر إلى الحج والعمرة والسياحة الخارجية والموبايل وغيرها من هذه البنود تزيد على اربعين مليار جنيه سنويا.. وهو ما يساوى عشرة مليارات دولار.. أى ما يساوى دخلنا من قناة السويس. والسياحة.. وتحويلات المصريين العاملين فى الخارج. والتصدير.. أى ما يساوى الحصيلة الأساسية من الدولار القادم من الخارج.. ننفقها فى أغلبها على طريقة ( الكحيت ).. وهو سفه ندفع ثمنه إن لم يكن اليوم فغدا. وإن لم يكن بطريقة مباشرة فبطريقة غير مباشرة. إننا بالقطع لا نعفي الحكومة من مشكلة السيولة.. فهى تعترف بوجود متأخرات لديها لم تدفعها لصالح القطاع الخاص تصل إلى اثنى عشر مليار دولار.. كما أنها لم تحصل ضرائب واجبة تصل إلى سبعة عشر مليار جنيه.. كذلك فإنها غير قادرة رغم ملايين التصريحات على ترشيد الإنفاق المظهرى.. وهو ما عجز عنه أيضا القطاع الخاص الذى أنفق كثيرا من قروض البنوك على مظاهر كاذبة..ومشاريع لم يحقق ما يسدد القروض أو حتى يسدد فوائدها.. وهو ما رفع مخصص القروض الرديئة فى القطاع المصرفى إلى أكثر من اثنى عشرة بالمئة أحيانا..حسب بيانات البنك المركزى المصرى وزارة التخطيط والبنك الدولي.. وحسب بيانات البنوك التجارية فإن إجمالى القروض إلى قاعدة الودائع فى السنوات الثلاث الماضية كان يتجاوز كل القواعد المصرفية الآمنة بمراحل مؤسفة. كل ذلك معروف.. ومنشور.. ومهضوم.. متكرر. ولكن..ما لم ننتبه إليه هو ما يجرى من إنفاق يصل إلى حد الانفلات فى القطاع العائلى.. إننا لا نحمل هذا القطاع كل خطايا وأوزار المتاعب الاقتصادية التى نمر بها فى هذه المرحلة التى تشبه عنق الزجاجة الضيق. ولكن.. نحذره من أنه يزيد الطين بلة.. ويضاعف من أثقال ما يحمله وما يكتفه وما يزيد من سرعة هبوطه إلى القاع. الحكومة لها دور نحاسبها عليه.ورجال الأعمال والبنوك أيضا.. لكن المشكلة فى النهاية تقع على رؤوس الأفراد الذين يدفعون ثمنها مباشرة وغالبا.. هؤلاء الأفراد بما ينفقونه على هذه القائمة العريضة التى تضر ولا تنفع.. تدمر ولا تبنى. يجعلون المصيبة كارثة.. والمشكلة مأساة. يجب أن نعامل أنفسنا ببعض الجدية. وبعض الانضباط. ولا أقول بعض الصرامة.. فنحن فى حاجة للتخلص من شخصية (الكحيت ) التى أصبحنا نراها فى ملايين الصور كل يوم فى المرآة.. يجب التخلص من قاعدة : لنعش اليوم ولنمت غدا.. يجب أن نعيش على قدر لحافنا.. يجب أن نخفف من ضغوط العقد المظهرية التى لا نهاية لها إلا السجن أو الموت أو مساكن الإيواء.. نصف مكالماتنا فى الموبايل تكفى.. نصف قرص فياجرا يكفى.. نصف القطط والكلاب التى نربيها يكفى.. إن ما يحتاجه البيت يحرم على كل شيء والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

Email