الكوكا أو الموت.. شعار الأسطورة الجديدة التي تواجهها الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية ، بقلم: د. طلعت شاهين

يرى بعض المؤرخين أن الاستعمار الإسباني لأمريكا اللاتينية يعتبر السبب الرئيسي وراء ذلك التاريخ الأسطوري الذي يلف تلك القارة بالغموض, ويصنع من سكانها البسطاء أبطالا لا يقلون أهمية عن أبطال الأساطير الإغريقية, ويعود ذلك في رأيهم إلى أن الإسبان منذ الرحلة الأولى لكريستوفر كولومبوس عام 1492 لم يكن يعنيهم أي شئ من تلك الأرض سوى النهب والسرقة, وكان ملوكهم في شبه الجزيرة الإيبيرية جوعى للذهب والفضة, وعطشى للدماء, لذلك قام الغزاة بجمع كل ما وقع تحت أيديهم من ذهب وفضة حصلوا عليه عنوة, و سفكوا دماء الملايين من سكان تلك القارة, وحولوا كل هذا إلى سبائك مصهورة دون النظر إلى ما كان على تلك المعادن من نقوش ورسوم وكتابات يقارنها البعض بنقوش وكتابات الفراعنة, التي عثر عليها المكتشفون في المقابر والمعابد المطمورة. بسبب كل هذا السبب فقد العالم فرصة ذهبية للتعرف على التاريخ الحقيقي لشعوب أمريكا اللاتينية, ولهذا السبب أيضا لجأ السكان الأصليون في تلك البلاد إلى كتابة تاريخهم, أو بمعنى أصح اختراعه, في شكل أساطير حتى يمكن مواجهة محاولات طمس هذا التاريخ من جانب الغزاة الإسبان. من هنا أصبح لأي حكاية بسيطة تتناول جانبا من جوانب الحياة اليومية لشعوب أمريكا اللاتينية أن تتحول على الفور إلى أسطورة, وهذا لا يعود فقط إلى الجانب الخرافي في حياة تلك الشعوب القديمة قدم الأرض التي يعيشون عليها, بل يشمل جميع جوانب حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وعلى الرغم من تقلص عدد السكان الأصليين إلا أن فكرهم هذا بسط نفوذهم على الوافدين, وامتد ليشمل المولدين من امتزاج السكان الأصليين والوافدين, فأصبحت الأسطورة الطريقة الوحيدة لكتابة التاريخ الخاص بتلك الشعوب, حتى التاريخ المعاصر لم يفلت من تلك النظرة. من هنا كان تاريخ حياة ومصرع (التشي جيفارا) الأسطورة أكثر بقاء من التاريخ الحقيقي لذلك المناضل, بل وتفوق على أسطورته التي حاول أن يرسمها له البعض, سواء في شكلها الإيجابي من جانب الإعلام اليساري المتعاطف, أو السلبي الذي يمثله الإعلام اليميني, الذي يتغذى على ما تقد مه له المؤسسات الرسمية الأمريكية من دعم, وعلى رأسها المخابرات المركزية (السي. آي. ايه). أيضا كان تاريخ ثورة كوبا الأسطوري أقوى من كل التواريخ المكتوبة, بل أقوى حتى من التاريخ الرسمي الذي حاول فيدل كاسترو أن يكتبه للثورة التي قادها, مما جعله يتخلى عن هذا التأريخ الرسمي الموثق ويركن إلى التاريخ الأسطوري حول أعماله وبطولاته في مواجهة جبروت الولايات المتحدة, التي تكاد تقترب به من تواريخ الصراع بين الآلهة الإغريقية, فلا تزال أسطورة هزيمة الولايات المتحدة في خليج الخنازير أسطورة قائمة, لم تفلح في إزالتها كل الأ فلام التوثيقية الإعلامية التي أنتجتها ماكينة هوليود الجهنمية. أيضا كان هذا التفكير الأسطوري وراء تحول الثورة الساندينية في نيكاراجوا إلى أسطورة أخرى, على الرغم من تسليم قادة الثورة في النهاية للجبروت الأمريكي, وقبول العودة إلى الحياة المدنية في ظل حكومة تحركها واشنطون وفق هواها, لكنها عودة لم تقلل من حجم تاريخ الثورة الساندينية الأسطوري, فقد عادوا قبل أيام قليلة ليحتلوا مركز الصدارة في الانتخابات البلدية, على الرغم من محاولات النظام اليميني الحاكم المدعوم بأموال الولايات المتحدة الأمريكية, وما كان لهم أن يتمكنوا من كسر الحواجز والعودة من جديد لولا ما يحيط بهم من تاريخ أسطوري يرسم على صدورهم صورة (المخلص) الذي طال انتظاره في تلك الأرض المنكوبة بجارتها الشمالية الغاشمة التي لا تقبل إلا بانقياد جيرانها لها. وأخيرا بدأت أسطورة جديدة تكتب في الأرض التي شهدت مصرع (التشي جيفارا) أسطورة القرن العشرين في أمريكا اللاتينية, بدأت أسطورة جديدة تنطلق من بوليفيا, تلك الدولة الأكثر فقرا في كل أمريكا اللاتينية, والتي لم ينجح (التشي جيفارا) الأسطورة نفسه في تحريك هنودها وفلاحيها الفقراء للثورة ضد الإقطاع ومصاصي الدماء من عملاء الولايات المتحدة, وهذا يعود بشكل أساسي, كما يقول المؤرخون, إلى أن جيفارا لم يفهم هذا الشعب الذي صنع أسطورته الخاصة بموته بين غاباته, فقد كان مصرع جيفارا يعود بالدرجة الأولى إلى افتقاده إلى الحس الأسطوري لتفكير ذلك الشعب, لأنه كان يرى أن الثورة هي التي تصنع الأسطورة, دون أن يعرف أن هؤلا ء يقاومون الجبروت بالأسطورة, كما كان يقاوم هو بالسلاح. الأسطورة الجديدة التي بدأت تظهر في بوليفيا من نوع جديد, يمكن وصفها بألفاظ تعود إلى النقد المسرحي والأدب أكثر من الوصف السياسي, هذه الأسطورة الجديدة أفضل الأوصاف لها أنها ليست لشخصية بطولية, أو تمثل البطل بقدر ما هي لشخصية معاكسة, تحمل كل الصفات المعاكسة تماما لشخصية البطل الأسطوري, أو أنها شخصية تتمرد على مواصفات البطولة المسرحية التي وضعها أرسطو, ويطلقون عليها في اللغة الإسبانية وصف (البطل المعاكس), لأنها لشخصيات عادية جدا, تبدو لا قيمة لها في الحياة العامة ولكن الأوضاع تحولها إلى شخصية بطولية في مواجهة قوى لا قبل لأحد بمواجهتها, كما هو الحال مع الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية. بطل بوليفيا الأسطوري الجديد مهندس زراعي اسمه (ايفو موراليس), هدفه الرئيسي الدفاع عن الفلاحين الفقراء ضد مشروع الدولة وحكومة الولايات المتحدة بتحويل مزارع (الكوكا) إلى مزارع لزراعة محاصيل تقليدية لا تدر عليهم ما تدره عليهم مزارع الكوكا, و الكوكا في الحقيقة ليست هي (الكوكايين) بل هي الأصل الطبيعي لتلك المادة المخدرة القاتلة, ولكنها حتى تتحول إلى تلك المادة المخدرة لابد من تدخل عناصر كيمائية لا توجد في تلك البلا د. هذا المهندس الزراعي البسيط تحول إلى (بطل أسطوري) في نظر شعب بوليفيا, لأنه يرفض أن يترك الفلاحون زراعة تلك الأشجار, لأنها تعتبر المصدر الرئيسي لحياتهم الاقتصادية, وهؤلاء ورثوا تلك الأشجار في بلادهم منذ زمن بعيد, بل و تعتبر أيضا أساسية في تلك الحياة القاسية لأنها توفر لهم القدرة على ممارسة أعمالهم في ظروف قاسية في المناطق الجبلية المرتفعة التي يقل فيها الأكسيجين, لأن ورق (الكوكا) يمضغونه تماما كورق (القات) في اليمن, ولم نسمع طوال تاريخ تلك الشعوب أن هناك ضحايا من إدمانها. لكن تلك المادة تعتبر خطرة عندما تضاف إليها مواد كيميائية صناعية, ومن هنا يبدأ (ايفو موراليس) دفاعه عن هؤلاء, فهم ليسوا مسئولين عن تحويلها إلى (كوكايين) ولكن يحولها آخرون إلى تلك المادة المخدرة الخطرة التي يذهب ضحية لها الملايين في العالم كله, وعلى رأسهم ما يقرب من عشرين مليونا في الولايات المتحدة. هؤلاء ا لآخرون يحولون الكوكا إلى (كوكايين) باستخدام مواد صناعية كيميائية مصنعة في الدول الصناعية المتقدمة, وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية, لذلك لا يرى أن الحل هو منع هؤلاء الفقراء من التخلي عن مصدر رزقهم الوحيد, بل يطالب أن تكون الحرب على المخدرات من خلال منع إنتاج وتسويق المواد الكيميائية التي تنتجها أمريكا وأوروبا. يعتمد أيضا في دفاعه عن فلاحي بوليفيا الذين يزرعون الكوكا بأن يتم توجه الدعم المباشر لمن يزرعها من خلال أموال مقابل كل شجرة كوكا يتم إحراقها تقدمها منظمة دولية محايدة, لأن الدعم المالي الذي تقدمه الولايات المتحدة لحكومة بوليفيا يذهب في النهاية إلى حسابات موظفيها الرسميين في بنوك سويسرا أو جزر الكايمان أو هاواي, بينما لا يصل زارع شجرة الكوكا سوى جنود بأسلحة أمريكية حديثة, لا تقتلع أشجاره فحسب, بل تقتلع حياته وحياة أسرته وأطفاله أيضا. باسم القضاء على (شجرة الكوكا) تدعم الولايات المتحدة حكومات فاسدة مرتشية, وتسلح جيشا إرهابيا لا يستخدم أسلحته ضد مافيات إنتاج وتجارة الكوكايين, بل ضد الفلاحين الفقراء العزل الذين لا يحصلون في النهاية سوى على الفتات مقابل تعبهم وكدهم. الفلاح لا يملك سوى زراعة الأرض بشجرة الكوكا, بينما المافيا, وبعضهم يعمل بالتنسيق مع مسئولين كبار في الحكومات في أمريكا اللاتينية, بل ثبت أيضا تورط بعض الضباط الأمريكيين المنوط بهم الإشراف على مكافحة المخدرات يعملون على جلب المواد الكيميائية المطلوبة لتحويل ورق الكوكا إلى مادة مخدرة قاتلة, ويدخل في تلك الحلقة أيضا, البنوك التي تقوم بعملية (غسيل الأموال ) الناتجة عن تلك التجارة, وهي في النهاية جزء من الحلقات التي يقوم عليها الاقتصاد الغربي بما فيه اقتصاد الولايات المتحدة. لذلك عندما رفع (ايفو موراليس) شعاره المعروف (الكوكا أو الموت) تبعه فلاحو بوليفيا, ورفعوه على الأعناق, واعتبروه المتحدث بلسانهم أمام من يريد أن يتعامل مع قضيتهم, وصنعوا منه أسطورتهم الجديدة بعد أن غابت نجوم الأساطير في سمائهم منذ زمن طويل. يعرفون أنه بشر مثلهم, لكن مجرد مواجهته لقوى مثل الولايات المتحدة بما تمثله من سيطرة, وعملائها المحلليين الذي لا يقلون عنها بطشا, لكنه يعرف أحوالهم ويرى انهم الضحية الحقيقية في تلك السلسلة الجهنمية التي تنتج الموت وتنشره في أرجاء العالم, لهذا السبب يرفعونه إلى مستوى الأسطورة. على الولايات المتحدة أن تواجه شعار ذلك التحدي الجديد (الكوكا أو الموت), وعليها أن تفكر ألف مرة قبل أن تمارس لعبته بالتخلص من (ايفو موراليس) باعتباره عائقا أمام خططها في تلك المنطقة, لأن (مصرعه) في مؤامرة جديدة من مؤامرات مخابراتها المركزية لن تكون نتيجته سوى تدشين أسطورة جديدة في بلاد تعشق الأساطير, وإذا لم تجدها في تاريخها الميثولوجي تصنعها. كاتب مصري مقيم في أسبانيا