الهبة العربية.. وغضب مكبوت، بقلم: عمران سلمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

على الرغم من تراجع مظاهر الاحتجاج العربي الشعبي على القمع الاسرائيلي للفلسطينيين, والتي استمرت لأسابيع نادرة, فإن الانتفاضة في الاراضي الفلسطينية تتواصل بصورة يومية, منذ اكثر من شهرين وتقدم المزيد من الشهداء والجرحى. وما بين الخفوت العربي والنهوض الفلسطيني, جرت أحداث اثرت بصورة او بأخرى في كلا الموقفين. مع ذلك قد يتطلب الامر المزيد من التحليل لوضع (الهبة العربية) ان جازت تسميتها في اطارها الصحيح. فلعلها المرة الاولى التي يخرج فيها المواطنون العرب, من الخليج الى المحيط, للتظاهر في الشوارع والتعبير عن غضبهم, من دون ان تكون هناك دولة او زعيم يلتفون حوله, ولهب حماسهم خطبة ومواقفه. فالعرب تظاهروا كثيرا وطويلا على امتداد العقود الماضية منذ عام 1948 وحتى عام 1991. لقد تظاهروا في الشوارع عام 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر, واشتبكوا مع قوات الاستعمار وقتها في العديد من الساحات العربية, وتظاهروا عام 1967 في اعقاب حرب يونيو كما تظاهروا بحماس لا مثيل له خلال حرب الخليج الثانية. وفي جميع هذه الحالات كانت هناك نقطة ارتكاز يجمون انظارهم نحوها, وزعيم ينصتون اليه, واعلام موجه يتفاعلون معه, وسواء كانت مصر او العراق فإن الجرعة القومية او الوطنية, وفي كل الاحوال عاطفية, كانت كافية لدفع الناس نحو التعبير عن مواقفهم ومشاعرهم بصورة ملموسة, كالتظاهر ورفع الشعارات واحراق الاعلام والاطارات والاصطدام مع قوات الشرطة. وحدها الانتفاضة الفلسطينية حركة الشارع العربي ودفعته الى ميدان التظاهر في غياب الزعماء وفي غياب الدول المحورية. هل كان هذا مؤشر على ولادة وعي جماهيري عربي؟ ام انه مجرد اندفاع حدث نتيجة الضغط والكبت المتواصلين, وما يولداه من ألم محض؟ ثمة ظاهرة فريدة وان تكن مشهورة يعرفها دارسو الاجتماع السياسي ومؤرخو الثورات والاحداث الكبرى في تاريخ الشعوب, وهي ان هناك دائما نوعين من العوامل التي تقف خلف مثل هذه الاحداث. النوع الاو: تراكمي, يحدث بالتدريج وعبر سلسلة من التطورات والوقائع المترابطة الى حد بعيد. اما النوع الثاني: فهو يلعب دور الشرارة التي تشعل النار, وهذه قد لا يكون لا علاقة مباشرة بمجمل التطور المؤدي الى الحدث العام. وهكذا فإن اجتماع عناصر القمع السياسي المتواصل, وتراكم عوامل النقمة الاجتماعية المترافقة مع اوضاع اقتصادية متردية قد لا تدفع الوضع في أي بلد للانفجار رغم ارتفاع اصوات الانين المكبوت تحت السطح وما يتسبب فيه من ازعاج كبير للنظام الحاكم. غير ان حادثة طارئة وغير مقصودة كإطلاق النار على مجموعة من المحتجين مثلا, أو صدور قانون يمس مصالح الناس الحيوية والاقتصادية منها خاصة يمكنه ان يدفع بحمم البركان الاجتماعي الى السطح, دفعة واحدة, وقد يفجر الوضع بأكمله على رؤوس الجميع. ومعظم الاحداث الكبيرة في التاريخ, امتزج فيها العاملان. واعتقد ان تحرك الشارع العربي الاخير وتجاوبه مع الاحداث في الاراضي الفلسطينية هو من هذا النوع ورغم اننا لا نستطيع ان نصف هذا التحرك في كل الاحوال بالحدث الكبير. لكننا نستطيع ان نرى فيه بعض الملامح. فعوامل الغضب العربي كثيرة, هناك الاحباطات التي يعاني منها الناس, جراء انسداد مجالات التعبير والحرية, وجمود الحراك الاجتماعي الدافع وراء التغيير. وهناك الازمات الاقتصادية (ومن بين عناوينها الفساد وسرقة المال العام والمحسوبية), التي تعصف بمعظم المجتمعات العربية, وتدفع بأعداد متزايدة من مواطنيها اكثر فأكثر, نحور الفقر والعوز. في مثل هذه الاوضاع قد يأتي حدث مثل الانتفاضة الفلسطينية, ليشكل متنفسا للناس للخروج للشوارع والتظاهر فيها. صحيح ان هؤلاء يتظاهرون تضامنا مع اشقائهم الفلسطينيين بالدرجة الاولى, لكنهم يتظاهرون ايضا تعبيرا عن اوضاعهم الداخلية التي يعانون منها. بل ان جزءا من هذه التظاهرات, موجه نحو اعادة الثقة للمواطن العربي, بقدرته على الغضب والاحتجاج والتفاعل مع القضايا المحيطة به. وربما لهذا السبب لم تستمر التظاهرات العربية طويلا, فربما ادت غرضها وهو اثبات وجود مثل تلك القدرة دون ان ينفي ذلك ان عوامل الغضب العربي تتراكم وقد تنفجر في احداث ومراحل مقبلة. انما في الاجمال يمكن القول ان (الهبة العربية) من الماء الى الماء, التي شهدناها في الاسابيع الماضية تعتبر حدثا كبير الاهمية والدلالة خصوصا اذا نظرنا اليه في اطار سياقين على الاقل: الاول: هو حجم القمع الذي تفرضه الحكومات والاجهزة الامنية العربية على مواطنيها (مع اختلاف في الدرجات وليس في النوع) والثاني: حجم الاحباط الذي يعاني منه المواطنون العرب, جراء فشل الحكومات في تحقيق اهدافها المعلنة, وفي الوقت نفسه فشل الحركات السياسية المعارضة في تقديم اية بدائل مقنعة. وهو احباط من شأنه, في الكثير من الاحوال ان يدفع الى الضغط واللامبالاة, وربما الاستسلام للواقع لكن الشعوب العربية, يبدو انها لم تستسلم, حتى الآن على الاقل, وهذا ما بينته الانتفاضة الفلسطينية, رغم استمرارها حتى اليوم, وفي الوقت نفسه انتهاء مظاهر الاحتجاج الشعبي العربي الملموس.

Email