اعلامنا القومي ولغة الضاد ، بقلم ياسر الفهد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لاشك ان استخدام اللغة العربية الفصحى الموحدة في صحافاتنا واذاعاتنا وقنواتنا الفضائية, يساعد الى حد بعيد على توحيد رؤانا ونظراتنا وأفكارنا وتطلعاتنا, وعلى صهرها في بوتقة قومية عربية مشتركة. وقد اصبح الحديث عن الاعلام ولاسيما الاعلام الحر التعددي يكتسب اهمية متزايدة في ضوء تعاظم دوره واتساع هيمنته على كثير من نشاطات حياتنا, وتنامي تأثيره في عقول الناس وممارساتهم الشخصية والقومية وتصاعد اسهامه في تكوين الرأي العام. وبالنسبة لاعلامنا العربي, وعلى الرغم من جميع اوجه القصور والتقصير فيه, فإنه يتضمن بعض الجوانب المشرقة, مثل شيوع العربية الفصحى في مختلف اجهزته. ولكن هناك اليوم مع الاسف من يشككون في صلاحية اللغة العربية للتعبير الكامل عن المواقف الاعلامية, المقروءة منها والمسموعة والمرئية, اما الذين يعشقون هذه اللغة العريقة, ويتوقون الى رفع مكانتها وتوسيع نطاق انتشارها, فيرون ان كونها اللغة المشتركة الواحدة في جميع القنوات الفضائية واداة الربط الصحفي والاذاعي والتلفازي بين الاقطار العربية, والوسيلة الرئيسية للقمر الاصطناعي العربي الموحد, لهو خير دليل على نجاح هذه اللغة في التعبير الاعلامي الناجح. وحتى نتوسع في دراسة العلاقة بين اللغة العربية والاعلام يمكننا الاستئناس بآراء الباحث الدكتور عز الدين شرف الذي له في هذا المجال اطول باع وأعلى كعب, واذا اطلعنا على بعض كتبه مثل (فن التحرير الاعلامي) و(التفسير الاعلامي للسيرة النبوية) و(المدخل الى وسائل الاعلام) يتبين لنا مدى سعة درايته بموضوع الاعلام, إلا ان كتابه (العربية لغة الاعلام) هو الاقرب في مضمونه الى مجال اهتمامنا في هذا المقال, ويدعو الباحث الى ضرورة السعي للحاق بركب التقدم العلمي الواسع الذي يجتاح عالمنا المعاصر, واحدى الوسائل الهامة لتحقيق ذلك تتمثل بضرورة زيادة العناية بلغتنا الفصحى وتكثيف الجهود الرامية الى حمايتها ودرء الاخطار عنها, وذلك بالتزامن مع محاربة اللهجات المحلية العامية والوقوف لها بالمرصاد, ويربط الدكتور شرف بين ازدهار هذه اللهجات في اوقات معينة, وبين انتعاش الدعوات الاقليمية والانفصالية. وهذا الربط يطلعنا على فداحة الاخطار الكامنة وراء انتشار العامية, ويدعونا الى ادراك الدور القومي للغة العربية الفصحى, وبالتالي احتضانها ورعايتها الرعاية التي تستحقها. ان دعاة العامية يبشرون بتعدد اللهجات واستخدامها كلغات مستقلة, وقد تكهن هؤلاء باندثار العربية الفصحى, كما اندثرت اللاتينية في اوروبا. ولكن تكهناتهم باءت بالفشل, ويعد الدكتور شرف القمر الصناعي العربي الذي تم اطلاقه منذ زهاء عقد ونصف, اي في فبراير 1985 مناط امل كبير وموئل رجاء عظيما لانه سيؤدي في رأيه الى انتعاش الشعور الجماعي العربي ومقاومة الدعوات الاقليمية. ويدرس المؤلف العلاقة بين اللغة والاجناس الاعلامية الثلاثة, وهي الجنس الصحفي, والجنس الاذاعي, والجنس المرئي الذي يشمل التلفاز والسينما والفيديو. ويتحدث ايضا عن خصائص وسائل الاعلام والتي من بينها ان الوسائل المطبوعة تتيح للقارىء فرصة التحكم في وقت القراءة, وكذلك امكانية عودته اليها متى شاء, في حين ان هذا غير ممكن بالنسبة للاذاعة والتلفاز, ولكن هاتين الوسيلتين تتفوقان على الصحافة بالقدرة العالية على الاقناع, فالكلمة المسموعة تصل الى جميع فئات الناس, حتى العاجزين منهم على القراءة وكذلك الكلمة المرئية التي يرفع من درجة تأثيرها في الجماهير تقديمها بطريقة ملموسة وغير مجردة. ويتعرض الباحث لوظائف اللغة الثلاث وهي الوظيفة الاعلامية المتمثلة بتوصيل المعلومات, والوظيفة التعبيرية, اي التعبير الادبي والفني والتعبير عن المشاعر, والوظيفة الاقناعية, والمقصود بها اقناع الجمهور بفلسفة او رأي معين ويتبع ذلك وجود ثلاثة مستويات للتعبير اللغوي: المستوى التعبيري وهو تذوقي وجمالي, والمستوى الاعلامي ويرتبط بالجانب العلمي والاجتماعي, والمستوى الاقناعي, ويستعمل في الدعاية والترويج للافكار. ويستشهد الكاتب بآراء (جيفونز) الذي يعد اللغة وسيلة للتفاهم واداة للتفكير وواسطة لتسجيل الافكار والرجوع اليها. ويتناول الدكتور عز الدين في كتابه خصائص لغة الاعلام واختلافها عن اللغات المستخدمة في مجالات اخرى, فاللغة الادبية مثلا ترتبط بالتذوق الفني الجمالي, ويكثر فيها التنميق اللغوي, بينما تميل اللغة العلمية الى التجريد النظري, اما اللغة الاعلامية فتقوم على نسق اجتماعي وعملي وعادي. وهذه اللغة لا تخضع للمستلزمات الادبية او المستلزمات العلمية وحدها, مثلا, بل لجميع مظاهر النشاط الثقافي من علم وفن وادب وموسيقى, الى جانب السياسة والتجارة والاقتصاد وغيرها, وهي موجهة الى كافة قواعد الجماهير على اختلاف مشاربهم وتباين طبقاتهم. ويرى الكاتب ان اللغة العربية الفصحى من اكثر اللغات صلاحية لتكون لغة اعلام, لان تركيب مفرداتها وعباراتها وقواعدها يتجه الى (النمذجة والتبسيط). وهاتان الخاصتان تعدان من اهم خصائص اللغة الاعلامية ومن جهة ثانية, هناك في اللغة العربية ترابط بين المدلول الاصلي للفظ, والمعنى المقصود منه, علما بأن معظم اللغات الاخرى لا تحتفظ بالمعاني الاصلية للالفاظ التي تطلق على المسميات الجديدة, ومن المميزات الاخرى ان الفاظ اللغة العربية كثيرا ما تعكس عادات الشعب وتقاليده, وفي هذا يقول العقاد ليس هناك قوم كالعرب تظهر صفاتهم وصفات اوطانهم من كلماتهم وألفاظهم. هذه المميزات وغيرها تجعل اللغة العربية الفصحى جديرة بأن تكون لغة اعلام, وعلى الرغم من ان العقاد يرى في اللغة العربية لغة شاعرية مبنية على نسق الشعر, فإن الدكتور شرف يؤكد على انها, ايضا, لغة اعلامية تقوم على نسق الفن الاعلامي بمفهومه الحديث مؤكدا على الصفات التي ينبغي ان تتحلى بها لغة الاعلام, ومن بين هذه الصفات الوضوح والاشراق والمرونة والبساطة, والاهم من ذلك كله هو انه لابد ان تكون اللغة مفهومة من جميع القراء والمستمعين والمشاهدين, وفي هذا المجال فإن فصاحة اللغة العربية يجب ألا تعني ابدا التعقيد والغموض, لان الوضوح هو احد اهم اعمدة الفصاحة. ومن السمات الاخرى للغة الاعلام ابتعادها عن فنون التورية وازدواج المعاني وفنون الادب الاخرى, وكذلك تماشيها مع تقاليد المجتمع وقيمه ووصولها فورا الى الجماهير. ومن المهم بالطبع ان تحرص اللغة الاعلامية على السلامة والصحة وان تتقيد بالقواعد اللغوية. ولحسن الحظ ان اللغة العربية تتمتع بجميع هذه الصفات المطلوبة, فهي لغة حركية مرنة مؤهلة لتكون لغة الحضارة الاعلامية, فضلا عن قدرتها على استيعاب منجزات العصر ومصطلحاته. ولكن المؤلف يحذر من الاخطار التي تهدد هذه اللغة وتسيىء الى مركزها كلغة اعلامية, ومن ذلك تسلل بعض التعبيرات الاجنبية الدخيلة إليها, بفعل الترجمة. وهناك ايضا خطر تغلغل بعض الاساليب اللغوية الاجنبية كشيوع استخدام الجمل الاسمية وتناثرها وكأنها وحدات مستقلة. ويدعو الباحث كذلك الى مقاومة الكلمات الدخيلة على اللغة العربية ككلمتي (الراديو والبوسطجي) مثلا ويقابلهما في اللغة العربية السليمة (ساعي البريد والمذياع) ومع ذلك فإن الدكتور شرف, على الرغم من قرعة نواقيس التحذير فإنه يشعر بالتفاؤل ويعتقد ان صراح الالفاظ والتعبيرات والمصطلحات سوف يحسم في نهاية الامر لصالح اللغة العربية. ويجب ألا يحجب تفاؤل المؤلف عن اعين العاملين في حقل اللغة العربية حقيقة, ان اتساع حركة الترجمة من اللغات الاجنبية الى اللغة العربية وانتشارها في ارجاء الوطن العربي كافة يحمل في طياته خطر ازدياد تسلل الكلمات والتعبيرات الدخيلة, ونعتقد ان المعربين يتحملون قسطا كبيرا من العبء في هذا المجال, وعليهم ألا يأخذوا فقط في الحسبان مصالحهم في الترجمة, بل وايضا مستقبل لغة الضاد وضرورة حمايتها والحفاظ على اصالتها. وهكذا فإن دفاع الدكتور شرف عن لغة الضاد, يشكل لبنة جديدة في صرح الجهود الرامية الى تدعيم هذه اللغة وتعزيز مكانتها, في الوقت الذي تتعرض فيه الى تحديات داخلية وخارجية قد تهدد مستقبلها, والى حملة من التشكيك المغرض حول صلاحيتها لتكون لغة العصر والعلم الحديث. ويقف وراء هذه الحملة اعداء العروبة والاسلام ودعاة التجزئة الذين يسعون بكل طاقاتهم الى انعاش اللهجات العامية القطرية. ولعل خير رد على هؤلاء يكمن في التأكيد على ان اللغة العربية الفصحى هي لغة موحدة يستطيع ان يفهمها ويستوعبها جميع ابناء الضاد من المحيط الاطلسي حتى الخليج العربي. اما العامية, فإن لها فروعا عديدة, وما يسود منها في قطر قد يكون غير مفهوم في قطر عربي آخر. خلاصة القول, ان اللغة العربية على الرغم من كل ما يشن ضدها من هجمات تتحلى بسمات عظيمة تمكنها من الوفاء بجميع مستلزمات الاعلام والعلوم الاخرى, وهي تستطيع ان تكون لغة الحاضر والمستقبل, كما كانت لغة الماضي. * كاتب سوري

Email