الاذاعات الموجهة مثالية في السياسة بدلا من الحرب - بقلم: خورشيد دلي

ت + ت - الحجم الطبيعي

اينما كنت يتهادى اليك صوت المذيع او المذيعة بنبرة مفعمة بالعواطف: (هنا صوت امريكا من واشنطن) او (هنا لندن) او (انتم مع اذاعة مونت كارلو من باريس), لتتأكد بنفسك ان الجغرافية والحدود لم يعد لهما قيمة امنية او سياسية او رقابية امام تكنولوجيا الاتصال التي قلصت الفوارق والمسافات وربطت العالم برباط سريع, وتحت تأثير التواصل الانساني تحول العالم بمفهومه الشاسع المتباعد المسافات الى (قرية عالمية) كما يقول المختصون بنظريات الاتصال الجماهيري وتكنولوجيا الاتصال. الاذاعات الموجهة هذه, فضلا عن تجربتها الطويلة وتراكم الخبرات لديها فإن الجهات التي تشرف عليها توليها اهمية كبيرة في مجال التمويل والخطط ورسم السياسات الاعلامية وفتح المجالات امامها ورفدها بالكوادر والخبراء, وقد ساهم كل ذلك في تضاعف نشاط هذه الاذاعات بشكل مستمر. الحلقة المهمة والاساسية في نشاط هذه الاذاعات هي امتلاكها لشبكة كبيرة من المراسلين العالميين , موزعين في شتى انحاء المعمورة, يقومون بتغطية الاحداث من مواقعها, وكذلك امتلاكها لجهاز ضخم لالتقاط المحطات الاخرى وبث برامجها بأكثر من خمسين لغة حية. طبعا هذه الشبكة الاذاعية الضخمة تهدف من نشاطها الاعلامي والدعائي الى التأثير على الرأي العام العالمي من خلال بث الخبر والحدث والبرامج المتعددة, اي المساهمة في صناعة الحدث وصياغته من جديد في ضوء سياسات ومصالح الجهات التي تشرف عليها. خلال عشرات السنوات من تجربة الاذاعات هذه (تأسست اذاعة لندن عام 1922, وصوت امريكا 1942) حاولت وتحاول الاوساط الرسمية نفي اشراف الدولة عليها واعطاءها طابع الاستقلالية والحيادية, ففي بريطانيا مثلا تقول الاوساط الرسمية: ان اذاعة لندن BBC غير خاضعة لاشراف الدولة وهي فوق الخلافات الحزبية, وتروج لفكرة مفادها: ان BBC مثلها مثل الكنيسة والملكية, وقد تحدث تشرشل في احد خطاباته عن هذا الموضوع قائلا: (في اوروبا ثلاث دول محايدة هي: النمسا وسويسرا وهيئة الاذاعة البريطانية) , الا ان هذا الكلام غير دقيق فـ BBC تخضع لاشراف الدولة من خلال سلطة وزير البريد والمواصلات وتتدخل الحكومة في اختيار اعضاء مجلس الادارة وكذلك عبر العلاقة بأجهزة الاستخبارات والمساعدات الحكومية التي تشكل نسبة كبيرة من الخزينة السنوية للاذاعة. والسؤال الجوهري هل نجحت الاذاعات الموجهة هذه في ان تكون مصدر ثقة للمستمع؟ بمعنى ان تكون اذاعته من بين الاذاعات الاخرى للتواصل مع الاحداث والعالم الخارجي؟ الجواب الى درجة كبيرة نعم فالاذاعات هذه هي الاسرع عالميا في بث الخبر للمرة الاولى عن هذا الحدث الساخن عالميا او ذاك وذلك في اطار سياسة (السبق الاعلامي) وتدعم تغطيتها الاخبارية ببرامج سياسية (ريبورتاجات, اضواء لقاءات.. الخ) يعدها خبراء مختصون بارزون, لهم باع طويل في مجال الاعداد والحوار وامتلاك المعلومات حول قضايا النزاع هنا وهناك. وفي الواقع هذه التغطية السريعة والفورية المدعمة بالتقارير الصوتية للمراسلين من مواقع الاحداث, اضافة الى البرامج السياسية التي تعد من داخل الاستديو, جعلت من هذه الاذاعات المصدر الاكثر استماعا ونفوذا من قبل المستمعين اينما كانوا, وساعد على ذلك عدم قدرة الاذاعة الوطنية في البلدان النامية على مجاراة هذه الاذاعات في مجال التغطية الاخبارية الشاملة والسريعة بل ان الاذاعات الوطنية تقلد الاذاعات الموجهة اسلوبا وبرامجا حتى انها تعيد بث المعلومات التي تبثها الاذاعات الموجهة دون تدخل او بما يتناسب مع المصالح الوطنية لهذه الدولة او تلك. ونظرا لدراية الخبراء القائمين على الاذاعات الموجهة بالخصائص الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والامنية للمستمعين في البلدان النامية فإن اعداد البرامج يتم وفق تقنية عالية دقيقة ومثالية في الحداثة والسياسة, وخاصة السياسية الموجهة الى الاوساط الاجتماعية المهمة كالشباب والطلبة والعمال... الخ وعادة يتم تبطين هذه البرامج بالعديد من الفقرات المثيرة المتعلقة بقضية ما بغية التأثير فيها وتوجيه الاحداث بهذا الشكل او ذاك, وفي الوقت نفسه يكرس مذيعو الاذاعات الموجهة جهودهم لمهمات دعائية خاصة من خلال طريقة الاداء والنبرة واللهجة واسلوب النطق بغية خلق سيكولوجية خاصة بالمادة الاعلامية تمهيدا (لاغتصاب) المستمع نفسيا. فالبرامج المنوعة عادة تكون مقرونة بمزيد من الحاجات والرغبات والتصورات الوهمية تحت يافطة العالم الحر والحرية المطلقة, هذه المفاهيم لا تعدو مصيدة يقع المستمع في حبالها من اجل شحنه فيما بعد بوجبة دسمة من السلوكيات والقيم التي تدعو الى مزايا الحياة الغربية ولنمط الحياة الاستهلاكية بهدف تفشي الاضطرابات النفسية لدى مواطني البلدان النامية وتفكيك القيم الوطنية والحضارية لشعوبها وعادة هذه البرامج توجه للفئات والشرائح الشبابية بغية وضعهم في مواضع بعيدة عن الفكر والسياسة والنضال ودفعهم للعيش في دوامات مستمرة يخلقها قادة المجتمعات الاستهلاكية وصانعوها. ففي البرامج المنوعة والخفيفة تنعدم الجدية ويحل محل ذلك الصوت الانثوي الجميل الذي يدخل الى النفس بمتعة ومسرة, هذا الصوت موجه في الاساس الى العواطف والغرائز عبر كلمات رشيقة وجذابة ومفعمة, فتترامى تأوهات المذيعة ومداعبتها الخفيفة للمستمع. وفي سبيل الحفاظ على اكبر عدد من المستمعين وزيادة اعدادهم باستمرار تحاول الاذاعات الموجهة الانطلاق في برامجها من مواد شعبية وتراثية خاصة تتمتع بقيمة نفسية واخلاقية واجتماعية لدى المستمع, فمثلا يقوم القسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية باختيار بعض المؤلفات القديمة بغية انتزاع الانسان العربي من واقعه الحالي المفعم بالهزات السياسية والاجتماعية ويربي في الانانية وحب الذات ففي هذه المواد يجد المستمع عوامل نفسية واجتماعية وتاريخية للتخلص من التعقيدات والهموم والحرمان والكبت الذي عانى ويعاني منه في حياته, اي دفعه الى عالم ذهبي وردي (موجود في الماضي) لاشباع حاجاته المعنوية والنفسية, والنتيجة دفعه الى العجز عن مواكبة مشاكل الواقع العربي الراهن بكل تعقيداته وتشعباته. ان الهدف من وراء هذه البرامج مجتمعة هو السيطرة الروحية والنفسية على حياة المجتمعات والشعوب ودفعها الى العيش والتفكير وفق المفاهيم والتصورات التي يصنعها العقل الاعلامي الذي يقود الاذاعات الموجهة, حيث تزداد المخاوف اذا ادركنا ان البلاد الغربية تتصرف بقرابة 90% من الامكانيات التي توفرها رقعة الذبذبات الصوتية الاذاعية في العالم, كما انه في الوقت الذي يبلغ فيه نصيب دول العالم النامي 21% من اجهزة الراديو في العالم موزعة كالتالي اسيا 12% امريكا اللاتينية 6% وافريقيا 3% فإن نصيب امريكا الشمالية وحدها يبلغ 48% وهذا وجه اخر من اوجه تداول المعلومات في اتجاه واحد لصالح الدول التي تملك الاذاعات العالمية الموجهة. ان هذا الوضع بالنسبة للاذاعات الموجهة عالميا والذي ادى ويؤدي الى سيادة المنتوجات الثقافية والاعلامية الغربية في الحياة الروحية للدول والشعوب ادى عمليا الى خلخلة آلية الحياة في البلدن النامية وقد نتج ذلك اساسا عن عملية انتزاع الانسان من تربيته الوطنة والاجتماعية والقومية فكريا وسلوكيا وهذه العملية ادت بدورها الى اقتلاع الثقافة القومية واضطراب الهوية الحضارية للامم والشعوب تدريجيا, ومن المؤسف ان كل ذلك جرى ويجري تحت شعار الحرية والعالم الحر والديمقراطية, نعم الحرية تلك التي وصفها وزير الثقافة الفرنسي الاسبق جاك لانج بـ (حرية الثعلب في خم الدجاج, حيث يستطيع الثعلب ان يلتهم الدجاج الاعزل الضعيف دون ان يحل به العقاب) قال الرئيس الامريكي هاري ترومان عام 1950: (يجب ان نرغم العالم على الاصغاء الينا) . كاتب سوري

Email