جيل التانجو.. وجيل البانجو ، بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لأننا دخلنا مرحلة (السكون) و(الصمت غير البليغ) و(ابتلاع) الزجاج المكسور (دون غضب أو شكوى فنحن لا نفهم تصرفات جيل الشباب الجامحة.. ولا نفك رموز لغته المتمردة.. الغريبة.. (الروشنة).. و(السنجأة).. و(النانا).. و(الهبر). و(الهبوش) و(التشبير).. و(البخ).. و(البوليكا).. وغيرها من كلمات القاموس الجديد.. غير المفهوم.. والمعجون برغبة فى الخروج عن المألوف مع رغبة فى السخرية مما حوله ورغبة فى الغرق فى الغيبوبة.. وكأننا أمام شفرة خاصة أو لغة سرية ولا يريد أصحابها أن يفهمها غيرهم. لأننا أصبحنا متعصبين للأمر الواقع وغير قادرين على تجاوزه فنحن لا نستوعب تصرفات هذا الجيل الغاضبة فى كسر جميع اشارات المرور الحمراء.. والصفراء.. وارتكابه لملايين المخالفات.. وملايين الحماقات. وقيادة حياته بأقصى سرعة فى شوارعنا النائمة (فى العسل).. واستعمال (الكلاكس) دون مبرر.. والكتابة بأقلام الفلوماستر على جدران القلب.. وجدران الحمامات. لأننا من جيل الايقاع البطيء.. الممل.. نتقدم فى رقصة (التانجو) خطوة.. ثم نرجع الى الوراء خطوتين فنحن لا نفهم سر الرغبة الدفينة للأجيال التالية علينا فى أن ترحل على سحب وسفن (البانجو) بعيدا عنا.. تهاجر عن واقعنا المحاصر بنهب البنوك.. ونخر السوس فى أجزاء كثيرة من البرلمان.. من نواب المخدرات الى نواب التأشيرات.. والتداخل بين الاعلام والاعلان.. والكساد.. والفساد.. والتناقض بين كلامنا عن المستقبل القادم وغرقنا فى أعمق أعماق الماضى. لقد قرأت التقرير الصحفى المتميز عن جيل (الهبوش والروشنة) الذى كتبه ببراعة سيد علي فى (الاهرام) فى يوم 19 يوليو الماضى.. ولو كنت أملك جائزة للتميز الصحفى لمنحتها له على الفور.. ولو كنت مسئولا فى وزارة الشباب أو فى المجلس الأعلى للجامعات لحولته الى ورقة عمل تناقش بواقعية وربما لأول مرة المشكلة المزمنة للشباب.. ففور أن انتهيت من قراءته وجدتنى اسرح بعيدا.. بعيدا.. متفاهما.. متأملا.. مندهشا.. مستغربا.. متسائلا.. هل العيب فينا أم فى الشباب؟.. هل فشلنا فى الوصول اليه واستيعابه.. أم عجز هو عن فهمنا والاتصال بنا؟ اننى انظر الى هذا الجيل فأتصوره أحيانا شيخا من مشايخ الطرق الصوفية.. وأتصوره أحيانا تلميذا مشاغبا يمد لسانه لجميع المدرسين.. وأتصوره أحيانا مراهقا متمردا يرمي الحجارة على شبابيك البيوت والمدارس والمصالح الحكومية والمؤسسات السياسية والاجتماعية.. وأتصوره أحيانا خارجا على طاعة السلطة الأبوية وتقاليد القبيلة وآداب الأكل بالشوكة والسكين.. وأتصوره أحيانا مريضا نفسيا.. يجمع بين الجينز واللحية.. بين عمرو دياب وعمر عبدالرحمن.. بين كتاب الله وكتاب الزواج السرى.. وأتصوره أحيانا عبقريا قادرا على أن يخرج لسانه لجهلنا وتخلفنا وأصابعه تجرى على أزرار الكمبيوتر مسيطرا على الكون كله بشاشة لا تزيد مساحتها على ربع متر فى ثلث متر. لكنه.. فى الغالب أشبه بممثل مسرحى يرفض النص المكتوب فى السيناريو.. ويخترع لنفسه نصا من عنده وكلاما على طريقة (الهبوش) و(الروشنة).. ان كلامنا القديم لا يعجبه.. وكلامه الجديد لا نفهمه.. لذلك فقد تخانق مع الممثلين الكبار والمنتج والمخرج ومهندس الديكور وصانع المكياج.. وسب الجمهور.. وطالبه بأن يسترد ثمن التذكرة.. فالسينما كلها (أونطة فى أونطة). والجيل الجديد لا يفعل ذلك بدافع المشاكسة أو الرغبة فى لفت الأنظار إليه ولكنه يفعل ذلك لأنه يريد أن يقول لنا: انه يفكر (بطريقة مختلفة).. ويرى الدنيا بعيون مختلفة.. وان جسور الفهم والود بيننا وبينه مقطوعة.. ومحروقة.. ولو كان متفجرا بالعيوب والأخطاء فنحن طبقا لقوانين الوراثة البيولوجية والاجتماعية السبب.. فهو منا.. وامتداد لنا.. وحصاد ثمار لحرثنا وغرسنا.. ومن ثم فقبل أن نحاسبه علينا أن نحاسب أنفسنا.. وفى ظل عالم مجنون بالسرعة والتغير والتناقض وضعت فيه الظروف الجيل الجديد لم يستطع أن يتمالك نفسه من الدوار.. ولأن الدواء من الداء أحيانا فقد عالج الشباب الدوار بمزيد من الدوار.. فراح يلف ويدور حولنا مرة.. وحول نفسه مئة مرة حتى تاه فى الفضاء بعيدا عن الجاذبية الأرضية. وأنا أعرف أن بيننا من تغضبه وأحيانا تفزعه اللغة الغامضة.. الغاضبة.. المتجاوزة التى يتكلم بها الشباب.. وأعرف أن بيننا من ينظر اليه بقلق وأحيانا بيأس وفزع مترحما على أيام زمان.. أيام الانتماء والرومانسية وتحمل المسئولية و(الحب بدون أمل) الذى هو (اسمى معانى الغرام).. وأقول بغير تردد وبغير تحفظ: اننى أختلف مع كل الذين يتركون أنفسهم لليأس من الجيل الجديد والغضب من تصرفاته.. وأكاد وأنا أسمع انتقاداتهم الحادة لابنائهم أن استعيد ما كان يوجه اليهم من انتقادات بنفس الحدة من آبائهم.. فكل جيل قديم يترحم على نفسه وعلى أيامه وهو يرى تصرفات الجيل الجديد.. فهذه سنة الحياة.. والفجوة الطبيعية بين الأجيال.. وان كانت هذه الفجوة تتزايد وتتسع الآن بما يجعل مشكلة الصراع بين الأجيال أصعب وأعقد مما كانت من قبل. لقد كانت المسافة بين كل جيل سابق وجيل لاحق تتحرك بسرعة السلحفاة فى عصر ما قبل التاريخ.. ثم أصبحت تتحرك بسرعة العجلة فى عصر ما قبل البخار.. ثم أصبحت تتحرك بسرعة الطائرة فى عصر ما قبل الصاروخ.. ثم أصبحت تتحرك بسرعة الذرة فى عصر ما قبل الليزر.. العصر الذى يعيش فيه الجيل الجديد.. عصر الفيمتو ثانية.. حيث يمكن لشعاع من ضوء خاطف أن يسافر الى القمر ويعود الى الأرض فى ثانية. إن هذه المعجزات العصرية جعلت الهوة بيننا وبينهم ساحقة وجعلت عملية العبور منا اليهم أو العكس شاقة وربما مستحيلة.. فبينما نحن نتصور ان التليفون هو أسرع وسيلة للاتصال الانسانى نجدهم يستخدمون الانترنت والكمبيوتر.. وبينما كانت الأرض المحسوسة تحت أقدامنا هى عالمنا الآمن الذى نتحرك عليه نجدهم يمشون فى الكون كله بحرية وبراعة ولا نتصورها.. وبينما كان جيلنا هو الذى يذهب بنفسه الى المدرسة والجامعة ودار العبادة ومركز البحث ومركز التسوق عبر وسائل المواصلات التقليدية من الدراجة الى الطائرة.. نجد كل هذه الاشياء تأتى الى جيلهم وهو فى مكانه عبر الانترنت و(الكريدت كارت) أو كارت الائتمان (والهوم دليفرى) أو توصيل كافة الخدمات الى المنزل.. وبينما كان جيلنا فخورا بانتمائه لوطنه مشغولا بمعرفة هذا الوطن مهموما بقضاياه نجد جيلهم مشغولا بالدنيا كلها التى ذابت فيها الحدود وتلاشت بين الأوطان وبين الأرزاق.. وبينما كانت الأيديولوجية السياسية هى فخر جيلنا فإن الثروات المادية والسلع الترفيهية والعقائد الدينية هى اهتمامات جيلهم. لقد كان جيلنا يذهب الى العالم بمزاجه وفى الوقت الذى يختاره.. ولكن العالم بكل جنونه وانجازاته يأتى الآن الى الجيل الجديد مقتحما حياته.. فارضا عليه عقليات وتصرفات تجاوز المواصفات المحلية الضيقة الى المواصفات الكونية الرحبة.. فكان الله فى عون الجيل الجديد.. الذى تتغير الدنيا فى زمانه كل دقيقة.. بل كل ثانية الى درجة تبهر العقل وتخطف البصر لكنها فى الوقت نفسه تسبب الدوار والإغماء.. وهو ما يفرض علينا إذا أردنا أن نحتفظ بقدرتنا على الحوار مع هذا الجيل وتلك ضرورة حيوية ان نحذر التحدث اليه أو عنه بأسلوب التعالى الأبوى (من منطق أننا نعرف أكثر مما يعرف).. فذلك ليس صحيحا تماما.. وغير صحيح أيضا اننا قادرون على أن نقنعه بمسلماتنا التقليدية.. أو نجيب بها عن اسئلته الصاعقة عن الاستنساخ والخريطة البيولوجية والتدخل فى خلق الله.. وجدوى التمسك بالوطنية فى ظل القوى الكونية.. فنحن حتى الآن لم نحسم قضية نقل الأعضاء.. وقضية الختان.. وقضية الشراكة الأوروبية.. حتى الآن لم نحسم قضية واحدة من قضايا الحريات.. ولا نزال ننتظر المعجزات.. نحن الآن ندور فى حلقات (الذكر) التى ينظمها الدرويش فى كافة مجالات الحياة.. نلتمس الوحى والمشورة وربما الخبرة السياسية أيضا أمام الأضرحة والمقامات. إن ساعات الزمن فى أيدينا مكسورة.. أو واقفة.. الوقت عندنا لا يمر.. أو نحن لا نريده أن يمر.. فالواقع مر.. وكل ما نتعامل معه الآن هو بقايا لما كان.. فلماذا لا نرجع الى الوراء لماذا لا نجلس فى محطة الماضى ننتظر وجه الملك السعيد القادم فى (ألف ليلة وليلة).. ذى الرأى الرشيد الذى سيعيد الينا الزمن الجميل.. فهو سيحمل الذهب الى بيوتنا.. وسيغرقنا فى أنهار اللبن والعسل.. وسيضع على موائدنا الكافيار والبان كيك.. وسيدير لنا أسطوانات (أم كلثوم).. وأشعار أمير الشعراء أحمد بك شوقى.. وسيعيد إلى الدستور قدسيته.. والى الحرية خياشيمها.. وإلى الأصول والتقاليد نفوذها وسطوتها.. سيجعل العميان يبصرون.. وسيحقق العدل المفقود.. سيضع فى المدينة الخيالية.. الفاضلة.. وإذا كان جيل الآباء يعيش فى الماضى إلى هذا الحد فكيف يتفاهم مع جيل الأبناء الذى يريد أن يتحرر من سلطة الحاضر.. وحساباته.. وقيوده.. وارتباطاته؟ لقد كانت قضية آبائنا هى التحرر الوطنى من الاستعمار القديم.. وكانت قضية جيلنا هى التحرر الوطنى من الاستعمار الجديد.. ومواجهة خطر دولة العدو الصهيونى.. لكن.. كل الذين كانوا صغارا يوم ان ركب أنور السادات الطائرة الى اسرائيل فى يوم 19 نوفمبر 1977 يتجاوز عمرهم الآن العشرين.. وبعضهم يمكن أن يكون قد تجاوز الثلاثين لو حسبنا أن عمره كان وقت هذه الكارثة عشر سنوات.. ومن ثم فهو ممزق بين ما سمعه عن الحروب التى كانت والسلام الذى لا يريد أن يكون. وقد كان كتاب الدكتور جمال حمدان عن شخصية مصر وما فيه من كلام مقدس عن عبقرية المكان وموقع مصر وموضعها المؤثر فيمن حولها كتابا حفظه جيلنا كما حفظته الأجيال السابقة.. حتى كاد كل ما فيه أن يصبح من مسلمات الحياة.. لا يمكن الشك فيه.. أو الطعن فى مصداقيته.. لكن.. الجيل الجديد جاء ليتساءل: أين هى عبقرية المكان الآن فى زمن خاطف تحول فيه العالم الى قرية الكترونية ضيقة تتحكم فيه عن بعد بالريموت كنترول أقمار صناعية محلقة وسابحة فى الكون وتتكلم لغة أبجديتها اشارات وومضات.. بعيدا عن سطح الأرض وسطح البحر وهما مجالا عبقرية المكان وسر تميزه وتفرده.. وهو ما خلق تناقضا جديدا بين جيل قديم يصر على وجهة نظره الجغرافية والحضارية ويدافع عنها ويحاول فرضها فى مناهج التعليم وأساليب السياسة.. وجيل جديد يرى أنها مسألة فى حاجة الى اعادة نظر.. جيل غير متأكد من أن الذين يعيشون فى المكان عارفون بموقعه وموضعه واثقون من هويته.. غير واثق من استمرار العبقرية الشهيرة للمكان كملهم ونموذج ومثال.. كعالم ومعلم ومفتى مجتهد.. كمبدع ومصور ومطرب ومغن.. على حد ما ناقشه محمد حسنين هيكل مع الدكتور جمال حمدان نفسه والذى كان رده: (ان حركة التاريخ دائمة ولكن اتجاهها ليس ثابتا.. وكان عهدنا بها أن تكون الى امام خطوتين والى وراء خطوة.. ولعلنا الآن نرى بعدا مغايرا.. حركة الى أسفل) ولو كان جيل الآباء يرى ان حل ما نعانى منه من متاعب ومشاكل هو فى الاصلاح السياسى والدستور وفى سيادة الديمقراطية فى جيل الابناء يرى ان الحل فى التكنولوجيا.. ولم يأت بعد من يوفق بين الحلين. والحقيقة أن أفكار الجيل وطرق تفكيرها ووسائل تعبيرها تختلف باختلاف الأدوات التى تؤثر فى العقل وتكون الثقافة والمعرفة.. كانت ثقافة جيل الآباء الكلمة المطبوعة المستقرة فى كتاب أو صحيفة والصورة الفوتوغرافية الثابتة داخل اطار محدد.. وعندما دخلت قدر له ان يشهد عصر الصورة التلفزيونية المتحركة.. لم يكن دورها ولا خطورتها وقد وصلت الى ما وصلت اليه وجيل الابناء يشب بقامته طالبا الاهتمام والانتباه.. لقد كانت الصورة التلفزيونية المتحركة دليلا لجيلنا على ان حدثا قد حدث.. وكانت أجهزة الرقابة والتوجيه قادرة على أن تحذف وتمنع منها ما تشاء.. لكنها اصبحت فى ظل الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية التى شب عليها الجيل اشبه بآلة الزمن التى تنقله فى ثوان الى موقع الحدث فى لحظة وقوعه دون تدخل لم تعد تقدر عليه الدول الحكومات فيما يبث وفيما يقال.. انها المعرفة فى اللحظة نفسها.. يصل اليها الجيل الجديد دون أن يجتهد ذهنه كما كان يفعل الجيل السابق فى تخيلها وتصورها والبحث عما خفي منها.. وهى المشاكل تلقى فى حجره بالجملة موجة بعد موجة ودون اختيار أو فرز كما كان يتمتع الجيل السابق.. ثم جاءت ثقافة الانترنت لتجعل العلاقة الانسانية المباشرة بين بشر وبشر الى علاقة انسانية غير مباشرة بين بشر وبشر عبر شاشة الكمبيوتر.. ورغم ان الشاشة ملونة ومجسمة بالصوت والصورة ومثيرة للخيال وموحية بالانفعال فان غياب المشاعر والأحاسيس الملموسة بالأصابع ورائحة الانف وحدقة العين قد جعل الجيل الجديد جيلا لا يعترف طويلا بالرومانسية.. لا يعترف طويلا الا بالواقعية.. ومن ثم فإن لغة الحوار بينه وبين الجيل القديم بدت مثل (حوار الطرشان). وبينما كان النموذج الذى يحلم به جيلنا يتمثل فى شخصيات سياسة (مثل جمال عبدالناصر) وشخصيات أدبية (مثل يوسف ادريس ونجيب محفوظ ونزار قبانى) وشخصيات صحفية (مثل محمد حسنين هيكل) وشخصيات فنية (مثل عمر الشريف وعبدالحليم حافظ ورشدى اباظة) فإن النموذج الذى يحلم به الجيل الجديد تغير تماما.. وظهرت فى حياته شخصيات رجال أعمال يسيطرون على مقدرات العصر (مثل بيل جيتس).. وعلماء يصنعون المعجزات (مثل الدكتور أحمد زويل).. وفارق كبير بين جيل كان يثور ويقرأ الأدب ويندمج بخياله فى شاشة السينما وجيل آخر يوصف بجيل الكمبيوتر والسوفت وير والليزر والفيمتو ثانية.. وكان من الصعب أن يتحاور الجيلين بلغة فيها الكثير من التفاهم.. أو حتى القليل منه. انها نظرة عين طائرة على مشكلة الفجوة بين الأجيال فى بلادنا.. وهى نظرة تستحق الحوار والجدل حولها.. وهى نظرة بالقطع ستزداد واقعية عندما نهبط على الأرض ونرى المشكلة من نظرة عين البشر.. وهذه قصة أخرى تحتمل التأجيل.

Email