براءة مصر من ضرب الجزيرة أبا، بقلم يوسف الشريف الحقيقة لا تضيع, قد تتوارى حينا من الوقت وراء كم وألوان الشائعات والأكاذيب, لكنها كالشمس تنتظر انقشاع الغيوم حتى تسطع بالنور المبين, وهكذا ظل الإتهام بضرب جزيرة (أبا) يلاحق مصر على مدى ثلاثين عاما حتى قيض الله شاهد عدل من أهل السودان ينفي الإتهام ويعلن براءته

ت + ت - الحجم الطبيعي

, عندما وقف العميد أحمد أبو الذهب الأسبوع الماضي أمام القضاء السوداني وأدلى بهذه الشهادة التاريخية الفاصلة, باعتباره قائد الحملة العسكرية المكلفة من قبل الرئيس الأسبق جعفر نميري لإجهاض تمرد طائفة الأنصار الذي أندلع في جزيرة (أبا) عام 1970 بزعامة الإمام الهادي المهدي, ولقي مصرعه خلال محاولته الهروب إلى أثيوبيا. وقد تمادى المغرضون في نسج عشرات القصص المزيفة حول تورط مصر في ذلك الحدث الجلل , إلى حد اتهام الرئيس حسني مبارك شخصيا بمسئوليته عن قصف جزيرة (أبا) جوا, بدعوى أن التحالف في هذه الفترة كان في أوجه بين مصر والسودان, ولكون مبارك وقتئذ قائد سرب الطائرات الاستراتيجية طراز (تبولوف) , إذ كان بمقدورها الإقلاع من مصر إلى ما ورائها من دول الجوار والتخوم, والعودة إلى قواعدها دون ما حاجة للتزود بالوقود, ثم لأن مصر امتنعت عن التعليق على هذا الاتهام, باعتباره كلاما مرسلا أو كلاما (ساكتا) على حد التعبير السوداني المرادف , خاصة وأنه غير منسوب لأي مصدر رسمي في الخرطوم. بعدها في عام 1995 جمعتني والمؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق ندوة فكرية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب حول العلاقات المصرية السودانية, وقال في إجابته على سؤال وجهه أحد الحاضرين حول هذا الاتهام, أنه عني بالتدقيق في وقائع حادث الجزيرة (أبا) , فلم يجد لدى أي من المسئولين في البلدين أي دليل ثابت ولا شهادة موثقة تؤكد على تدخل مصر عسكريا, وروى أنه التقى بالرئيس مبارك مع أعضاء اللجنة المصرية المكلفة بإعداد الوثائق القانونية والخرائط التاريخية لعرضها على هيئة التحكيم الدولية في قضية تنازع السيادة مع إسرائيل حول منطقة (طابا) , ومن هنا كانت الفرصة مواتية لاستطلاع رأيه في هذا الاتهام, وقال الرئيس مبارك أن الجيش السوداني كانت لديه عهدئذ طائرات عسكرية مقاتلة وقاذفة, بمعنى أنه لم يكن في حاجة إلى أي تدخل أو دعم جوي من الخارج, خاصة وأن تسليح الأنصار اقتصر على البنادق القديمة والسيوف والحراب, ولم يكن في حوزتهم صواريخ أو مدفع واحد مضاد للطائرات, وعندما وصلت الخرطوم برفقة أنور السادات النائب الأول للرئيس جمال عبد الناصر آنذاك, كان الجيش السوداني قد حسم بقواه الذاتية مصير المعركة في جزيرة (أبا) , وقال الدكتور يونان لبيب رزق أنه عاد يسأل الرئيس مبارك لماذا لم تبادر مصر إذن لنفي الإتهام, فكان جوابه أن نفي النفي يعني الاثبات, وأن التاريخ لا يسجل سوى الحقائق لا الشائعات والأكاذيب التي لا تستقيم على قدمين. على أنني لم أكن بعيدا عما جرى في جزيرة (أبا) , إذ كنت في مهمة صحفية آنذاك في الخرطوم, مما هيأ لعلاقاتي السابقة بالقيادات السياسية والعسكرية السودانية وبالأوساط الدبلوماسية رصد ما حدث ساعة بساعة على ساحة المعركة, والإطلاع على كثير من المداولات التي تمت بشأنها وراء الستار, وأن أسجل شهادتي عنها في سلسلة من التحقيقات التي نشرتها مجلة روز اليوسف في حينها, ثم ضمها كتابي الصادر عام 1996 تحت عنوان (السودان وأهل السودان.. أسرار السياسة وخفايا المجتمع) , حيث كان آخر الذين استقرأت ذاكرتهم حول هذا الموضوع اللواء محمد ميرغني قائد سلاح الطيران السوداني وعضو المجلس العسكري المؤقت الذي تولى سلطة السيادة في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في السادس من إبريل عام ,1985 وقال: (بضمير وطني خالص استطيع وقد عاصرت أحداث الجزيرة أبا, التأكيد على أن مصر بريئة تماما من التدخل العسكري برا أو جوا, وأن القوات المسلحة السودانية وحدها التي قمعت تمرد الأنصار) . والشاهد أن نميري كان في ذروة عصبيته وغضبه, عندما أشعل الأنصار الحرائق في محالج للقطن بمدينة (ربك) إذ كانت إحدى محطات زيارته المرتقبة للمنطقة, خاصة وأن الأنصار سبق وأن أعلنوا تمردهم ضد نميري ونظامه في (ود نوبادي) على مشارف أم درمان, وتصدى لهم سلاح المهندسين بقيادة المقدم بابكر النور عضو مجلس الثورة , فلما استقوى الإمام الهادي المهدي بالأنصار وتحصن معهم في جزيرة أبا, وقع اختيار نميري على الرائد أبو القاسم إبراهيم عضو مجلس الثورة للقيام بمهمة إجهاض التمرد الثاني للأنصار, لكون انتمائه لآل (الهشباب) الذين يدينون بالولاء للإمام, حيث تولى قيادة رتل من الدبابات سيرا على الجنازير مئات الكيلو مترات من معسكر الشجرة القريب من الخرطوم حتى وصلت إلى جزيرة أبا, وعندئذ انهالت عليهم طعنات الأنصار بالسيوف والحراب, في الوقت الذي كانت منشورات إدارة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة السودانية التي تدعو الأنصار للاستسلام تتساقط من الطائرات, ويومها نشرت الصحف الصادرة في الخرطوم من باب النكاية أو الحقيقة أن الإمام الهادي المهدي خاطب الأنصار بقوله أن الله استجاب لنصرتهم وحول قنابل نميري إلى أوراق تتطاير في الهواء. وبينما كانت الدبابات في طريقها إلى جزيرة أبا ومصير التمرد لايزال معلقا في الهواء, استدعى النميري كبير الخبراء السوفييت إلى مكتبه بالقصر الجمهوري, وطلب منه قيام الطيارين السوفييت الذين عهد إليهم بتدريب الطيارين السودانيين على قيادة الطائرات (الميج) بضرب جزيرة أبا, لكنه اعتذر بضرورة عرض الأمر أولا على موسكو, ومضت ساعات حتى جاءت الموافقة على قيام الطيارين السوفييت باختراق حاجز الصوت فوق الجزيرة, وعندما وصل السادات الخرطوم استجابة لطلب نميري المساعدة العسكرية من القاهرة رأى دراسة الموقف على الطبيعة, فلما عرض عليه السفير المصري بالسودان الدكتور كمال خليل موقف السوفييت, اتصل السادات بالرئيس جمال عبد الناصر الذي وجهه بضرورة الالتزام بعدم التدخل العسكري, مع استيعاب غضب نميري وارضائه بشكل أو بآخر, وعندئذ توجه السادات إلى مقر القيادة العامة للقوات السودانية بدعوى الإطلاع على سير العمليات, وهناك كان بانتظاره اللواء حسن عباس نائب رئيس الجمهورية ووزير الدفاع والرائد مأمون عوض أبو زيد عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس جهاز أمن الثورة (المخابرات) , ولم تمض سوى أقل من الساعة حتى تلقى اللواء خالد حسن عباس مكالمة تليفونية من الرائد أبو القاسم إبراهيم تفيد حسم القوات السودانية المعركة في جزيرة أبا, لكن السادات خشي غضب نميري من تقاعس مصر عن نجدته, فربما خطر له رد الصاع صاعين عبر قرار مفاجئ وخطير بترحيل الكلية الحربية وبعض تشكيلات القوات الجوية والبحرية التي لجأت إلى السودان بعيدا عن مرمى الطيران الإسرائيلي في أعقاب نكسة يونيو ,1967 وهنا قرر أن تحمل طائرة عسكرية مصرية كما من المنشورات المطبوعة تدعو الأنصار للاستسلام, وكانت تلك المنشورات قد تم طبعها بالفعل ومكدسة بالقيادة العامة بانتظار إلقائها فوق الجزيرة أبا, وقال لي محمد محجوب سليمان الضابط بإدارة التوجيه المعنوي السكرتير الصحفي للرئيس نميري فيما بعد أنه كلف بمهمة صياغة مضمونها. وهكذا عندما نتوقف للتأمل في اتهام مصر وبراءتها من ضرب جزيرة أبا, ربما احتاج الأمر إلى سبر أغوار العلاقات المصرية السودانية وثوابتها, لنكشف أن التاريخ الحديث لوادي النيل حافل بمناهج وأساليب الوقيعة بين الشعبين, ونجد أن أحمد عرابي قائد الجيش المصري رفض تنفيذ ثلاثة أوامر من الخديوي توفيق لتجهيز حملة عسكرية لإجهاض الثورة المهدية التي اندلعت في السودان, فلما نجح الإنجليز في إجهاض الثورة العرابية في مصر, انضم جيش العرابيين في السودان إلى الثورة المهدية تلقائيا , وحاربوا في صفوفها, وهم الذين صنعوا المدافع التي مكنت الأنصار من اقتحام الخرطوم وقتل القائد الإنجليزي جوردون, وفي المقابل نجد أن الضابط السوداني محمد عبيد ومعه الآلاي السوداني قد أبلوا البلاء الحسن في معركة العرابيين ضد الإنجليز في التل الكبير, لكن الإنجليز الذين فوجئوا بمعادلة المصير المشترك بين الشعبين والتماثل القومي والروحي بين الثورتين, من هنا دبروا مؤامرة شيطانية مفضوحة عبر تجميع فلول جيش العرابيين, والزج بهم تحت قيادة هكس لضرب الثورة المهدية, للوقيعة بين الثورتين والشعبين. ولأن جمال عبد الناصر الذي وعى الدرس فترة خدمته العسكرية بالسودان, لذلك رفض الاستجابة عام 1958 لاستفزازات عبد الله خليل رئيس حزب الأمة ورئيس حكومة السودان عهدئذ, فلما وجه القوات المسلحة السودانية إلى (حلايب) للاستيلاء عليها, لم تجد قوات مصرية لمواجهتها, ولعله نفس الدرس الذي استخلصه الرئيس مبارك من أزمة جزيرة أبا, حين رفض الاستجابة للتحريض على الاشتباك المسلح مع نظام الجبهة الإسلامية في السودان إثر ضلوعه في محاولة اغتياله بأديس أبابا, وخوض مصر معركة دبلوماسية باسلة في الأمم المتحدة ضد مشروع القرار الأمريكي بحرمان السودان من التزود بالسلاح حتى يستطيع الدفاع عن سيادته ووحدة أراضيه, واستنكار القصف الأمريكي لمصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم, والاعتذار للمعارضة السودانية حين طلبت تدريب قواتها على أساليب القتال في الأراضي المصرية. فإذا كانت مختلف مناهج وأساليب الافتراءات والأكاذيب والمقررت قد فشلت تباعا في الوقيعة بين الشعبين , إلا أن مناهج الدراسة في البلدين لاتزال في مسيس الحاجة إلى تنقيتها من الشوائب الفكرية والتاريخية المغلوطة التي زرعها الخبراء الإنجليز, وبينهم دنلوب في مصر وجيمس كري في السودان, وعلينا أن نتعلق بالأمل المنشود في توحيد السلم التعليمي وإعادة كتابة التاريخ الواحد لوادي النيل, إيذانا بتفريخ أجيال جديدة تدرك أهمية كل بلد بالنسبة للآخر, ولعله الأساس والقاعدة السليمة لإنجاز الوحدة الواعدة بالرفاهية والاستقرار والتحشد في مواجهة التحديات المدلهمة من كل حدب وصوب.

Email