مع الناس : بقلم عبدالحميد أحمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

نحن الصحفيين أخوف في موضوع حرية الصحافة من المسؤولين, لان هذه الحرية ترتب علينا مسؤوليات أكثر فيما يتعلق بالنشر ومحاسبات أوسع مقارنة في ظل عدم وجودها, ومع ذلك لا يمكننا أن ننكر أننا أسعد خلق الله باقرار حرية الصحافة وكل حرية أخرى لها باب بكل يد مضرجة يدق لولا أن الحديث عن حرية الصحافة جاءنا من السماء من دون حاجة إلى دق الأبواب من أصله. وهكذا فإن زميلاً يجد اليوم نفسه في ورطة كلما جلس لكتابة زاويته اليومية, فهو يعيد الكتابة مرة تلو المرة, لأنه يجد نفسه محاسباً أكثر على كل كلمة يكتبها في قضية من قضايا الشأن العام, بعد أن كان سابقاً يكتب من دون أن يراجع ما يكتب, إذ لم تكن له ثمة حاجة لمثل تلك المراجعة, أما اليوم مع هامش حرية معقول, فالشعور بمسؤولية الكلمة والكتابة عموماً أفدح واختيار الموضوعات وانتقاؤها مع اختيار وانتقاء الجمل المناسبة لها والقوية في آن أصعب بكثير. المشكلة الاخرى التي ربما يواجهها صحفيون مع هامش حرية معقول, لا مع حرية صحافة كاملة, فهذه لا وجود لها الا في أحلام اليقظة, هي أنهم أمضوا سنوات من عملهم الصحفي لا يجيدون سوى التبخير ورش العطور وماء الورد على الانجازات الباهرة, وإذا اضطروا للتعليق يوماً على حدث أو مشكلة, فبكثير من بهارات المدح أولاً والتبرير ثانياً وبقليل من النقد على استحياء, وكان حدهم (وأنا واحد منهم بالطبع) من النقد تناول مشكلات عادية غير مغضبة كحوادث السير ومشكلات المرور ورمي المخلفات في الشوارع ونقص الحمالين في سوق السمك والخضرة, فكيف يستطيع مثل هذا الصحفي التعامل مع ملفات ساخنة اليوم كملفات الفساد الاداري والمالي مثلاً وفيها ما فيها من عواقب وخيمة ودروب شائكة ومعقدة ووعرة؟ طبعاً يمكن أن نقترح على الصحف المحبة لحرية الصحافة وحدها دون غيرها, لأن الصحف غير المحبة لحرية الصحافة غير ملزمة باقتراحنا, أن تنظم دورات تدريبية لصحفييها على مفهوم حرية الصحافة, وكيفية التعامل معها وسبل الانتقال الآمن والميسور إليها من عصر العبودية والكبت الى عصر انفجار الحرية وتدفق شلالها الهادر, لكي يجيد هؤلاء من ناحية فن التعامل مع المرحلة ولكي يتجنبوا من ناحية اخرى المشكلات ويجنبوا صحفهم اياها, فيريحون ويرتاحون. وهكذا فاننا مع اقرار حرية الصحافة وتحولها الى امر واقع جديد, نكون نحن الصحفيين على مفترق طرق, فهناك صحافيو (زمان الصمت) الذين غنى فيهم المطرب يوما (زمان الصمت يا عمر الصمت والشكوى يا خطوة ما غدت تقوى على الخطوة على هم السنين) , وهناك صحافيو (زمان الكلام) الذي لم يعبر مطرب بعد عن حالهم, وان كانت أغنية (كلام كلام كلام, مابخدش منك غير كلام) صالحة لكي تكون لسان حالهم, مع الاعتذار طبعا للمطربين. وبما أن لكل زمان دولة ورجالاً, فان من الواضح اليوم أن لكل زمان صحفاً وصحافيين أيضاً, فإذا كان صحافيو (زمان الصمت) قادرين على الكلام فانهم سينضمون حتماً الى زمرة صحفيي المرحلة الجديدة والا فان مكانهم في متحف التاريخ الطبيعي, ليأتي بعدهم صحفيون أكثر قدرة على الكلام وممارسة الحرية الصحافية من دون خوف وبمسؤولية, والأمر نفسه طبعاً ينطبق على المسؤولين من وزراء وغيرهم, فإما ان ينتقلوا الى عصر حرية الصحافة فيحترمونها ويجيدون التعامل معها والا فمع السلامة. شخصياً أجد نفسي في حيص بيص, فعمرياً أنتمي الى صحافيي (زمان الصمت) وعواطفي وعقلي يشدانني إلى صحافيي (زمان الكلام) , لأنه من غير المعقول أن تأتي إلينا الست حرية التي ننادي بها طول عمرنا, ثم نقول لها: لا يا ستي, يفتح الله!

Email