احياء الوقت وليس قتل الوقت، بقلم د. مصطفى محمود

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما كنت اتنقل بين الفضائيات أتفرج على عروض الازياء لاحظت ان هذه العروض التي يفترض انها تعرض موديلات وأنواع مختلفة من الازياء اصبحت لا تعرض ازياء أو ملابس ولكنها تعرض انواعا مختلفة من خلع الملابس, حتى الدانتيل الخفيف الذي يسترون به الصدر حرص مصممو الازياء ان يبدي تفاصيل النهود العارية من خلف الشيفون الشفاف, اما الظهور فعارية كلها إلى (الهانش) تستوى في ذلك الفضائيات العربية والفضائيات الاجنبية, فهموم فناني الازياء واحدة في الحالين تتسابق طول الوقت في خلع الازياء عن لابسيها وفي تعرية ما امر الله بستره وفي تحدي اعراف واداب كل الاديان في كل زمان وفي كل مكان. وبقدر ما تفضح العورات في الفضائيات بقدر ما تحجب الحقائق في الاخبار وتزيف المظالم في السياسات ولا تجد الشعوب المظلومة من يدافع عن حقوقها بمثل ما يجد الظالمون من يروج لظلمهم, وبقدر مكانة كل دولة وبقدر طغيانها بقدر ما تجد محترفي التجميل الذين يجملون ظلمها ويبررون عدوانها, ودائما امريكا عندها ما يبرر افعالها ودائما العراق ترتكب مايبرر تجويعها وافقارها حتى الموت, فهي مثال للاجرام المطلق وهي يجب ان تدفع ثمن اجرامها. ولا احد يروي لنا كيف ارسلت امريكا سفيرتها ابريل جلاسبي لتغري صدام العراق بغزو الكويت ولتطمئن صدام بان امريكا سوف تغمض العين عما سوف يفعله, فأبريل جلاسبي اختفت بقدرة قادر ولم يظهر لها اثر بعد ذلك واغلقت ملفات الجريمة الامريكية بالشمع الاحمر, ولن تفتح الا يوم القيامة. وهذه هي الدنيا, يهرب فيها المجرم بجريمته ويفر فيها السارق بغنيمته, والغنيمة هذه المرة, هي مخزون العراق من البترول تشتريه امريكا بأبخس الاسعار, وتقبل العراق الايدي والاقدام ليمنحها مجلس الامن الحق في بيع بعض ما تملك من هذا البترول, واطفال العراق يموتون, والعرب لا تجتمع لهم كلمة والتلفزيونات العربية في مهرجانات متواصلة وطبل وزمر ومسابقات وعروض ازياء ومسلسلات, والترفيه عن المشاهد العربي هو الهدف الاول, وقتل الوقت هو المقصود طول الوقت, ثم لا يبقى لنا وقت, فالوقت هو العمر, وما يمضي من العمر لا يعود. وانا افهم ان يكون الترفيه هو خمسة في المائة من وقت هذه التلفزيونات والباقي علم وثقافة وسياحة في عجائب الفضاء والمجرات وعوالم الذرة وعجائب التكنولوجيا ومعجزة الكمبيوتر ونقد سياسي بناء وبحوث اجتماعية وفكر وفن ودين, اما ان يكون الترفيه بهذا الحجم الغالب المكتسح فهو امر غريب. وهل دفع العرب ملايين الدولارات في هذه البرامج والفضائيات من اجل الطبل والزمر؟ اننا نطبل ونزمر من آلاف السنين دون ان ندفع دولارا واحدا, وبضاعة الترفيه ما اكثرها, ومشاكلنا ما اكثرها, وامراضنا ما اكثرها, وما احوجنا إلى العلم, وما احوجنا إلى الجدية في تناول هذه الامراض وهذه المشاكل. وفضائة الـ Discovery الامريكية مثال لما يمكن لثقافة علمية بحتة ان تفعله وكيف تغطي اربع وعشرين ساعة من البث المستمر, في تشويق مستمر وتثقيف مستمر دون املال, ورأيناها تتجول بين موضوعات التاريخ والبيولوجيا والتطور والجغرافيا والاثار والجريمة والطب الشرعي والفلك والمجرات والفضاء, ويمكن ان نشتري بعض افلام هذه الفضائية ونبثها عندنا, والمكتبة العالمية غنية بآلاف الافلام القيمة. ومصر معين لا ينضب, وكل افلام الـ Discovery عن الاثار من متاحفنا ومن آثارنا ومن مقابر رمسيس وتوت عنخ آمون وحتشبسوت وغيرها. إن زرع الاقمار الفضائية المصرية في الفضاء خطوة عظيمة, وهي تجارة كبيرة ومصدر دخل في حد ذاتها, ولكن يجب ان يعقبها تطوير اعلامي يواكب امكانياتها, ويواكب احتياجات مصر كمجتمع يتطور وينفتح على عالم متغير بلا حدود وعلوم تتسع وتتنوع بلا نهاية. و(الانترنت) مثال اخر لعملية غزو عالمي قامت به امريكا وعلماؤها بقدرة وجدارة لاحتواء العالم كله, بكل ما فيه, من امكانيات للتجارة والاثارة والدعاية السياسية والاتصالات والمعلوماتية, وانشاء جامعة شاملة متاحة ومفتوحة طوال الاربع والعشرين ساعة في تبادل وتوصيل ونقل وشرح الجديد في كل فروع العلم والمعرفة. الانترنت ثورة حقيقية قلبت كل الموازين واتاحت العلوم والمعارف باعجاز وفورية لكل طالب علم يملك كمبيوتر وخط تليفون. وما نراه منها هو مجرد بداية.. ولكنها سوف تقلب كل الموازين, وسوف تفتح بابا لمستقبل متطور لا حدود لتطوره في خيره وفي شره على حد سواء. وقد رأينا بعض هذه الشرور فيما تتيحه الانترنت لمستخدميها من هواة الدعارة, في تسهيل الاتصالات بمن تريد وقتما تريد, وتوصيل الرغبات المتبادلة بالصوت والصورة العارية لهواة الانحراف في فورية وكفاءة. ولكن هكذا الدواء فيه السم وفيه البلسم الشافي, والله خلق الافيون وخلق مواصفات الافيون, واستعمله الطبيب لفائدة مرضاه كما استعمله المدمن لتدمير نفسه, وكل انسان يجني ثمار عمل يديه, وهكذا الانترنت .. هي فتح عظيم .. وهي كارثة في الوقت نفسه, وهي كما تستخدمها تنفع بها نفسك, واذا شئت استعملتها لتدمر بها حياتك, وهذا شأن كل شىء .. حتى الاكل العادي, ألم يقل ربنا في شأنه (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) .. فالأكل يمكن ان يتحول إلى سم قتال يؤدي إلى السمنة المفرطة وامراض القلب والسكر وامراض الشرايين, ويمكن بالاعتدال ان يكون زادا وعتادا لمشقات الحياة ووسيلة إلى حياة سعيدة وعمر مديد, وهكذا الانترنت بمزاياها وعيوبها, وهكذا الدنيا بحلوها ومرها, ولا تستطيع ان تغلق عليك بابك, ولا يستطيع احد ان يغلق عليه بابه, فلابد من الانفتاح على العالم وعلى الجديد فيه كل وقت. والبلاد العربية تملك في يدها ثروة هائلة من الادوات الاعلامية, ولكن للاسف الشديد لا يظهر لهذه القوة الاعلامية اثر سياسي يذكر في معركتها مع اسرائيل. واسرائيل تحسن الاستفادة بالاوراق القليلة في يدها ولا تكف عن الادعاء بانها واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط وتحاول بهذا ان تغطي على حقيقة انها مستنقع العدوان الوحيد في المنطقة, وهي تسمي عدوانها على القدس واحتلالها للمستوطنات بانه ميراث إلهي, وهي تحاول ان تخلق من اساطير الهولوكست والمحارق الخرافية وغرف الغازات والستة ملايين قتيل ذريعة لتركيع المانيا واثارة عطف اوروبا واستغلال الحليف الامريكي واستعطاف العالم بسلسلة من الاكاذيب المختلفة. اين كان الاعلام العربي في المواجهات الحاسمة بين جارودي ويهود فرنسا, اين كانت الفضائيات العربية في المحاكمة المثيرة والحوار المتفجر بين جارودي وقضاته, كان الاعلام هامشيا وكان في بعض هذه المواجهات غائبا بالكلية. ان اسرائيل تقيم الدنيا وتقعدها بالكلام, مجرد الكلام, باساطير خرافية وتهم كاذبة .. ونحن نملك الوقائع الدموية التي تدين اسرائيل ونعيش التاريخ الدموي الذي يدين اسرائيل, وعلى ارض سيناء سقط شهداؤنا وهم مقيدو الايدي والارجل برصاص اسرائيل الجبان, وتخضبت الرمال بدمائهم واعترفت القيادات الاسرائيلية التي امرت بقتلهم غدرا. ماذا يفعلون هم لقتيل واحد؟ وماذا نفعل نحن للمئات من قتلانا, ونحن نملك ادوات الكلام ونملك الصوت الاعلى, ونملك الحق, ونملك التعداد الاكبر, ونملك التاريخ الاوثق, ونملك الوعد الإلهي في القرآن؟ وهم يقولون إن الله وعدهم في التوراة, حسنا, سوف نرى ونحب ان نرى اعلامنا في المعركة, وان تتابع فضائياتنا اكاذيبهم خطوة بخطوة. إن باراك يرفع رايات السلام ويضرب لبنان بالصواريخ, وهذا سلامهم, ويلومون علينا عدم التطبيع, عن أي تطبيع يتكلمون, وابجدية السلام لا وجود لها عندهم, والوفاء بأي وعد امر غير وارد في سياساتهم؟ حوار طويل نحب ان نراه بالصوت والصورة حتى نكسب العالم في صفنا, هل رأيتم ماذا فعلت الـ CNN في حرب الخليج؟ هذا هو الاعلام وهذه هي خطورته في زماننا, ونحن نملك ادوات هذا الاعلام, وقد قطعنا شوطا بزرع قمرنا الصناعي في الفضاء, وبقي ان يتكلم هذا القمر بلغتنا ويدافع عن قضايانا ويبلغ رسالتنا للعالم, ولا يضيع الوقت في ترفيه وتسلية تقوم بها عشرات المحطات الاخرى بالنيابة عنه, وقتل الوقت لم يعد هدفا بل هو اخر ما يفكر فيه عقلاء هذا الزمان اذا كانوا حقا من العقلاء. انما يتسابق حكماء هذا الزمان في شىء واحد هو احياء وقتهم بما ينفع ويفيد.

Email