العراق من سياسة خصومه إلى سياسة حكامه، بقلم فايز سارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكاد العراق يصير بلدا منسيا, وإذا تم التذكير به أو استذكاره فإن كل ما يذكرنا به ما يرد من انباء وأخبار عبر وسائل الاعلام المختلفة التي تنقل لنا أخبار الكوارث التي تتوالى في العراق أو عليه, وبخاصة أنباء الغارات الجوية الأمريكية وأحيانا البريطانية, والتي توقع المزيد من الخسائر المادية والبشرية بالعراق ومواطنيه . واختصار العراق, أو تهميشه أو نسيانه إلى هذا الحد يبدو ظلما فادحا يلحق بهذا البلد الذي لا يحتل مكانة وموقعا مهما في التاريخ الحضاري للعالم القديم, ولا في جغرافية العالمين القديم والجديد على حد سواء, بل اضافة إلى ما سبق فهو يحتل مكانة بارزة في منطقة هي خزان الذهب الاسود الذي رغم ما قيل ويقال, فانه مازال شريان الحياة المعاصرة في عالمنا, وقد يمتد دوره هذا إلى سنوات بعيدة. غير ان أهم مما سبق كله ان العراق بلد يتمتع بامكانيات بشرية ومادية كبيرة ومتنوعة, حيث مساحته تصل قرابة نصف مليون من الكيلومترات المربعة, وسكانه يزيدون على عشرين مليون نسمة, وهو يملك ثروة مائية هائلة إضافة إلى أراض زراعية واسعة وغابات نخيل يزيد عدد أشجارها على أربعين مليون شجرة تجعله الأول في العالم في هذا المجال, اضافة إلى ثروات باطنية أخرى, وثروة حيوانية متنوعة. والعراق الذي يملك امكانيات وثروات ظاهرة وباطنة, تحول إلى بلد ضعيف وهامشي ومنسي بفعل مستويين من السياسة تفاعلا وتناغما رغم تناقضهما الظاهري ليصلا إلى نتيجة واحدة في النهاية, وهي تحويل العراق الى ما آل إليه من حال. والمستوى الأول من السياسة حيال العراق كان سياسة خارجية برزت فيها خصوصا سياسة الولايات المتحدة التي قادت تحالفا ألحق هزيمة ساحقة بالعراق في أعقاب اجتياح القوات العراقية للكويت عام 1990, وقد تابعت الولايات المتحدة وعدد من حلفائها في المنطقة والعالم سياسة تدمير العراق بكل وسائله السياسية والاقتصادية والعسكرية في سنوات ما بعد عام 1991 خلف واجهة القرارات الدولية التي صدرت ابان أزمة الكويت وما بعدها بقليل. لقد توجت السياسة الأمريكية المقنعة بـ الشرعية الدولية فيما بعد عام 1990 سياسة خارجية متعددة الاطراف ازاء العراق في الفترة الممتدة ما بين أواخر السبعينات وأواخر الثمانينات كان من نتائجها اندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية التي أدت سنواتها الثماني إلى الحاق دمار هائل بالعراق ووضعته على سكة التطورات التالية, ويتذكر متابعو الوضع في الخليج ان نتائج تلك الحرب, كانت الشرارة التي اشعلت فتيل ازمة الكويت عام 1990 وما تلاها. ورغم أهمية هذا المستوى في السياسة الخارجية ازاء العراق وما صار اليه وضعه كبلد ضعيف وهامشي ومنسي, فإنه لا يمكن تجاوز السياسة الداخلية لحكومة العراق فيما تركته من تأثيرات ونتائج سلبية على أوضاع العراق في العقد الأخير. والحديث عن السياسة الداخلية هو الحديث عن المستوى الثاني من السياسة التي حولت العراق إلى ما هو عليه حاليا, ولعل في أول أولويات تلك السياسات الصراعات والتخبطات المتتالية داخل الجماعة الحاكمة, ويندر ان يمر أسبوع إلا وتصدر قرارات ابعاد وتعيين لاعضاء في نادي الجماعة الحاكمة, وغالبا فإن قرارات الابعاد تتبعها قرارات بالاعدام والتصفية بعضها معلن وآخر يجري تنفيذه في الباطن. والبند الآخر في البعد المحلي لسياسة الحكومة العراقية, وهو استمرار التدهور الاقتصادي والاجتماعي للشعب العراقي بعد كل هذه السنوات من الحصار والذي يفترض ان الحكومة قد أعادت هيكلة حياة العراقيين شعبا وحكومة وفقا لما هو قائم في امكانيات وقدرات موجودة ومتاحة, الأمر الذي كان يمكن ان يكون في نتائجه اعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي للعراق كيانا وشعبا, وذلك ان هناك العديد من الشعوب في العالم تعيش بأقل من الامكانيات المتاحة للعراق, ولكن الذي حصل في هذا الجانب ان سياسة الحكومة العراقية استمرت في خطها السابق لما قبل الحصار, وتركت أغلبية العراقيين يعانون من نتائج الحصار الذي لم ينج منه سوى فئة من بطانة السلطة, أصبحت مستفيدة من حالة الحصار ومن استمراره. وبدا من الطبيعي في هذا البعد المحلي من سياسة الحكومة العراقية ان تكون لها سياسة معينة ازاء مواطنيها الذين باتت تشعر بعدم الأمان في علاقاتها بهم, ونفورهم من سياساتها, فأفسحت لهم فرصة مغادرة العراق إلى المنافي تحللا من القيام بعبء مسؤولياتها حيالهم, بل وامتنعت عن محاولة استعادة مواطنيها الذين في الخارج وتقاعست في اقامة فرص التواصل معهم وربطهم بوطنهم, وهكذا برزت ظاهرة العراقيون في المنافي, ولم يعد العراقيون في المنافي من المعارضين السياسيين على نحو ما كان الوضع في السابق, بل صار العراقيون في المنفى أناساً من كل شرائح وفئات الشعب العراقي ولم يعد منفاهم في بلدان تجاور العراق أملا في عودة قريبة له, بل تجاوزتها الى اقصى بلاد العالم, وزاد عراقيو المنافي على ذلك حصولهم على جنسيات دول العالم تحت ضغط الظروف التي يعانوها, وتحت ظروف امتناع حكومتهم عن متابعة احتياجاتهم والتي صارت يختصرها وجود (جواز سفر عراقي) ! ان التكريس الاكثر والاقرب لهذا البعد المحلي في سياسة الحكومة العراقية يبدو واضحا في الممارسة الرسمية ازاء شمال العراق بقبول تحوله إلى كيان كردي في طريق الانفصال عن الكيان العراقي, وبخروج ملايين العراقيين من اكراد وعرب وتركمان وآشوريين عن انتمائهم الأساسي بسلوك الحكومة العراقية, واتباعها سياسة تؤدي ضمنا إلى تكريس انفصال شمال العراق. وإذا كانت حجة الحكومة العراقية ان منطقة شمال العراق لا تخضع لسيادة الحكومة من الناحية الأمنية, فمن يمنع الحكومة ان تقوم بواجبها ازاء مواطنيها في شمال العراق في المجالات التعليمية والصحية والثقافية, وان تذهب في الأبعد في معارضة الاجتياحات التركية المتلاحقة لشمال العراق والذي مازال بكل التوافقات جزءا لا يتجزأ من الكيان العراقي. ان تهميش العراق واضعافه وتحويله إلى بلد منسي في خريطة العالم ليس ناتجا عن سياسة اعداء وخصوم العراق الخارجيين فقط, بل هو أحد نتائج تلك السياسة التي يمارسها ويتابعها الحاكمون في العراق الأمر الذي يطرح سؤالا عن مدى استفادتهم الحقيقية مما آل إليه وضع العراق, وعما صار إذا كانت تلك الاستفادة تتقاطع أو تتواقف مع الفائدة التي يجنيها اعداء العراق مما صار إليه؟

Email