جدل العنف ومظاهره في حياة الانسان، بقلم: د. محمد وقيدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك في العالم المعاصر مشهد عنف متنوع الأشكال ومتعدد المستويات. والانسان الذي يمارس هذا العنف ويعيش عواقبه المهددة للوجود الانساني ولرغباته ومصالحه واستقرار حياته, يتساءل في الوقت ذاته عن هذه المظاهر التي أصبحت مكثفة للعنف . غايتنا في هذا المقال ان نبرز ان مظاهر العنف يسند بعضها بعضا, من جهة, ويخفي البعض منها البعض من جهة اخرى. وهذا في الواقع هو ما يجعلها عصية على الملاحظة الاولى وصعبة عند ارادة تفسيرها. تثيرنا ظاهرة العنف اليوم لان من مظاهرها المتعاضدة ما لم يسبق له مثيل في تاريخ الانسانية. فحتى مظاهر التقدم العلمي والتقني التي هي من ثمرات المجهود الابداعي المستمر للانسانية عبر تاريخها الطويل, والهادفة الى تحقيق اكبر قدر من الرفاه للانسان, غدت اليوم عنصرا تستند اليه مظاهر من العنف المتبادل الاكثر قسوة, بما لم يسبق له مثيل في الماضي. هكذا, يظهر الانسان وهو يمارس العنف بمظهر الموجود المتناقض. فمظاهر التقدم تستخدم في سيرورة حياته لتظهره بمظهر الكائن الذي يستعيد ماهية مفقودة, او بمظهر الكائن الذي يسير قدما نحو تحقيق صورة من الكمال لم تصل اليها البشرية السابقة ابدا. غير ان مظاهر العنف التي تستند الى التقدم العلمي والتقني ذاته جعلت الانسان يظهر في كثير من الأحيان بمظهر الكائن الذي يعمل على تدمير ذاته, وعلى المزيد من فقدان نزعته الانسانية الاخلاقية لصالح الرغبة في امتلاك اشياء العالم والخضوع لمنطق علاقتنا بها. حفظ الحياة الانسانية لدى الانسان, وهو يمارس العنف او يعيش اثاره في حياته, تساؤلات مستمرة عن موقع هذا العنف من كيانه. فهل يمثل العنف حقيقة في كيان الانسان لا خلاص له منها؟ هل هو, على العكس من ذلك, اضافة على ماهية الانسان بفعل محددات خارجية؟ وهل يتحدد مصير الانسان في الاستجابة لمظاهر العنف الكامنة في كيانه ام في اقتلاع جذوره الناجمة عن شروط خارج ذاته؟ هناك ـ كما اكدنا ذلك ـ مظاهر متنوعة ومستويات متعددة للعنف في حياة الانسان. ومن أبرز هذه المظاهر ما يكون فيه العنف مهددا للحياة الانسانية كلها. وهذا حال الحروب التي نلاحظ ازديادها في عصرنا. والتي زاد قدر تهديدها للانسان بفعل تجدد وسائلها وامكان فتكها بحياة الانسان والملايين من الناس. أصبحت حروب اليوم تشمل بعواقبها السلبية امما كثيرة في الوقت ذاته, اذ انتشرت الاسلحة التي جعلت هذه الحروب تدور بين امم متباعدة, علما بان وسائلها تقضي على حياة الملايين من الناس. ولم يعد الانسان في عالم اليوم قادرا على تدبير استخدام هذه الاسلحة واستعمالها في الصراعات التي تقوم لأسباب مختلفة. اذا ما راقبنا الكيفية التي تكونت بها خريطة عالم اليوم, والتي نرى ان تكونها مستمر, فسنلاحظ انه كان للقوة والعنف دور في تكوينها. فقد شكل العنف احد محددات المعقولية القائمة في عالمنا. لدى الانسان, من جهة اخرى ميل اخلاقي الى اقصاء العنف من حياته وابعاد مظاهر تهديده لهذه الحياة. لكننا نرى مباشرة ان مثل هذا الميل الاخلاقي, رغم ايجابيته, غير كاف لاقتلاع مظاهر العنف المتنوعة التي تسود عالمنا ولا يخلو منها مجتمع من المجتمعات. فالواجب هو دراسة الاسباب البعيدة والقريبة للعنف. والواجب كذلك هو تعاضد الجهود من أجل اقتلاع مظاهره التي قلنا بأن بعضها يسند البعض الآخر. ولكن هذا الامر يقتضي وجود ارادة واضحة لدى مكونات كل مجتمع او لدى مكونات المجتمع الدولي بأكمله, للحفاظ على الحياة الانسانية والتعامل معها بوصفها القيمة التي لا تعلو عليها قيمة أخرى. مظاهر متعددة لا يتسع مقام حديثنا هذا لتحليل ظاهرة العنف تحليلا يشمل كل مظاهرها ومستوياتها, ولكن ذلك لا يمنعنا من ذكر بعض هذه المظاهر تمهيدا لتحليلها وبيان شروط كل واحد منها, وبيان اشكال تكامل بعضها مع البعض الاخر. هناك, اولا, مظاهر عنف الانسان ضد ذاته وهي التي تشكل في حياته ما يدعوه المحللون بالميل نحو التدمير الذاتي. والواضح ان هذا المستوى يقتضي تحليلا نفسيا اكثر من اي نوع اخر من التحليل. هناك, ثانيا, مظاهر العنف التي تأخذ شكل عدوان على الغير في كيانه او في حقه او في حياته جزئيا او كليا, وهذا ما يدعوه المحللون بالعدوانية, وهو ايضا ظاهرة يفيدنا علم النفس في تحليلها. هناك, ثالثا, انواع من العنف المتبادل في الحياة المجتمعية بين الجنسين المكونين للنوع البشري, او بين الاصول المختلفة التي يضمها مجتمع واحد, او بين الاجيال المتعاقبة او الفئات المتباين وضعها في كل مجتمع. وضمن هذه الانواع ايضا يوجد عنف التقاليد في حق الفرد, ولكن أيضا عنف يظهر احيانا في موقف الفرد من تقاليد وعادات ومعتقدات مجتمعه الكبير او مجتمعه الصغير في الاسرة او المحيط المباشر. وهناك عنف فترات التغيير المجتمعي بالنسبة لمن يقدر لهم ان يعيشوا في ظل شروطها المضطربة. وبخلاف المظاهر السابقة, فان ما ذكرناه الان من مظاهر عنف في حاجة الى تحليلات تعتمد مناهج تاريخية واجتماعية, دون اغفال لبعض الاضاءات التي يمكن ان تفيد التحليلات النفسية. يبدو من الضروري, اذن, ان ننوع اسئلتنا التي نوجهها الى ظاهرة العنف, اذ ان مستوياته مختلفة, ذكرنا منها ما هو نفسي وما هو مجتمعي, فضلا عن تلميحنا منذ البداية لما يتعلق منها بالعلاقة بين الأمم. كما اوضحنا انه من الملائم ان نلجأ الى تحليلات مختلفة للتلاؤم مع كل مستوى من المستويات التي يتمظهر فيها العنف, طلبا لتفسير اكثر عمقا وموضوعية. لكن كل ما قلناه لا يبدو الا تمهيدا لطرح هذه الظاهرة موضع سؤال, ومحاولة الحديث عن مظاهرها الواقعية, ومحاولة البحث عن طرق لتجاوزها ورفع انواع الضرر والتهديد التي تتضمنها للحياة الانسانية. * كاتب ومفكر مغربي

Email