الصراع السياسي .. ومفاهيم الحق والباطل!بقلم: عمران سلمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الصراع على السلطة, او في الصراع السياسي عموما, لايوجد حق او باطل, يوجد فقط غالب او مغلوب. الغالب يتصرف عادة بعقلية المنتصر, فينسب لنفسه جميع الفضائل والايجابيات, وبالمقابل يسلب المغلوبين هذه الصفات, ويصورهم على هيئة مخلوقات لم تقم في حياتها بشيء يستحق الذكر او الاشادة !ثم هو يعتقد بانه قد جاء الى السلطة, لان العناية الالهية او الضرورة الحتمية او نداء الواجب هو الذي ارسله لانقاذ الامة وتخليصها من براثن العهد البائد, وارساء دعائم العدل والانصاف . الخ. انه لايدري بان العناية الالهية او الضرورة الحتمية .. الخ, كان يمكن أن ترسل خصمه بدلا منه, لولا بعض الحظ وبعض الحسابات وبعض الظروف. اما المغلوب فانه يتصرف بمنطق الضحية, فيعزي فشله الى المؤامرات التي حيكت ضده والى تدخل القوى الخارجية .. وايضا الى كرمه وحرصه على ارواح الناس اذ هو امتنع عن التصعيد والمواجهة وضحى بالفوز من اجل ذلك! ولايكف المغلوب هو الآخر عن تصوير خصمه المنتصر بأنه مضطهد وطاغية, ليس فيه اية ذرة من الايجابيات او الفضائل! ولو دارت الحياة مائة وثمانين درجة, واصبح الاول في مكان الثاني, لتصرف كل منهما كما يفعلان الآن, دون زيادة او نقصان. لهذا فان البحث عن الحق او الباطل في هذا الميدان, هو بحث عبثي لاطائل من ورائه, اذ يصح فيه ما قاله الشاعر: (وعين الرضى عن كل عيب كليلة .. ولكن عين السخط تبدي المساوئا) . لقد رأينا كيف ان بعض الانظمة قد جاءت الى الحكم على ظهر الدبابة وبعضها على اكتاف الغوغاء وبعضها على اكتاف العامة. لكن لم يثبت حتى الآن وفي اي مكان ان المنتصرين هم افضل من المهزومين. فالسوء مثل الخير, يوجد هنا كما يوجد هناك, وبمقادير قد تزيد او تنقص, وهذا من طبائع البشر حيثما وجدوا. ولهذا فان ما تقوله المعارضات عن حكوماتها عادة, او ما تقوله الحكومات عن معارضيها, هو شيء طبيعي ومتوقع, او قل انه من قبيل تحصيل الحاصل. هل يوجد انسان, مكتمل القدرة, يقف مكتوف الايدي تجاه من يضره او يسعى للاضرار بمصالحه؟ هل رأى احدكم انسانا يقدم طائعا للآخرين, مايعتبره مكسبا او فوزا قد حققه؟ هذا شيء لايحدث الا في القصص الخيالية والوهمية ـ قصص الاطفال. اما في الواقع العملي فالامر مختلف, اذ لامكان للاخلاق والفضائل في ساحة الصراع على المصالح. وكثير من الناس مع انهم ينكرون ذلك او لايعترفون به, لكنهم يتصرفون من وحي هذه الافكار في واقع الحياة العملية. ويمكن ان نرى ذلك بخاصة في مجال الاعمال والمجالات اللصيقة بالمصلحة. ففي الاعمال يتودد الموظفون عادة لرؤسائهم ويثنون عليهم, وربما ذهب بعضهم الى حد المبالغة في التودد والثناء وفي وضع نفسه تحت خدمتهم وتصرفهم. وهم لايفعلون ذلك لوجه الله. هم يريدون ان يترقوا ويصلوا الى المراتب الرفيعة. وهم اذ يصلون اليها, فانهم يتوقعون من موظفيهم ان يفعلوا معهم, كما كانوا هم يفعلون مع رؤسائهم السابقين. انهم يطلبون الثناء والمدح والاحترام ويرفضون الانتقاد او الاعتراض. واذا حدث ان رفض احد موظفيهم هذا الوضع او قاومه, عدوه عدوا لهم ينبغي ازاحته. وهم يقاتلون بكل مايستطيعون من اجل ضمان وجودهم في هذا المنصب او ذاك الموقع , مهما كانت الوسائل او الاساليب المستخدمة في ذلك. الواقع ان ما نراه هو امر طبيعي يفعله كل الناس, بدرجات متفاوتة وحسب امكانيات وطموح كل شخص, وحسب ايضا قيمة المنصب او المصلحة التي يجري التنافس عليها. لكن الملاحظ ان لا احد من هؤلاء يعترف بما يفعل, رغم انه يمارسه كل يوم, ولذلك اسباب سوف نشرحها في مناسبات مقبلة. نكتفي هنا بالقول, انه بما ان ذلك يحدث في اطار مصالح تعتبر متواضعة او زهيدة, ومن اجل الحفاظ على مواقع قد لاتكون لها قيمة كبيرة, فكيف الحال اذن اذا كانت المصالح والمواقع التي يجري التنافس عليها, هي السلطة او الثروة بعينها!؟ الا ينبغي ان نتوقع هنا صراعا مريرا تحشد في سبيله موارد وامكانيات هائلة ومتنوعة, من بينها مفاهيم الحق والباطل؟ ينبغي ان نسجل بانه وعلى خلاف تاريخ الدول الممتد منذ القدم وحتى الآن, فان الدولة الديمقراطية الحديثة نجحت في كسر حلقة الصراع والتناحر بين الحكومات والمعارضات, فاختفت بنتيجة هذه الثورات والانقلابات ومختلف اشكال التمرد الشعبي المسلح. بيد أن ذلك حدث بفضل توافر عاملين حاسمين. العامل الاول هو انتهاء فكرة الالغاء او التناحر. فالاحزاب الحاكمة اذ تخرج من السلطة بعد خسارتها الانتخابات لاتذهب الى السجن او المنفى وانما الى مقاعد المعارضة لتنتظر دورها في الوصول الى الحكم من جديد! والسؤال هو هل تم الغاء هذه الفكرة في مجتمعاتنا؟ الاجابة هي كلا. فلا تزال الرغبة في الغاء الآخرين ( كلهم او بعضهم) قائمة, سواء كانت معلنة او كامنة. ولا تزال البرامج والادبيات تحفل باطروحات من قبيل اقامة مجتمع كذا او سلطة من نوع كذا. والمسألة كلها مرهونة بعامل القدرة او الامكانيات, ليس الا. اما العامل الثاني والاهم فهو تحييد عوامل القوة التقليدية في المجتمع, اي عوامل الدين والقبيلة والطائفة والعشيرة .. الخ. وقد نجحت المجتمعات الديمقراطية المتقدمة في ذلك. وتجربة الغرب التاريخية الطويلة, قبل تدشين مرحلة الديمقراطية الحديثة, هي في جوهرها صراع في سبيل هذا الهدف. لكن هذه العوامل لاتزال حاضرة بقوة في مجتمعاتنا. ومن السهل زجها في الصراع السياسي, وقلب الطاولة في وجوه جميع الفرقاء. ان نجاح اية تجربة ديمقراطية او ضمان استمرارها, لايمكن تحققه بدون اضعاف او تحييد هذه العوامل, اي منع وتحريم استخدامها في العمل السياسي من اي طرف كان. فهل هناك في العالم العربي من هو مستعد او قادر على ان يفعل هذا في المرحلة الحالية؟ اشك في ذلك. ولهذا السبب فان الوصول الى مرحلة تخف فيها وطأة الصراع, او تتغير بصورة جذرية, بين المعارضات والحكومات العربية, لاتبدو قريبة في الافق. الامر الذي يعني ان الاستنتاجات الرئيسية التى بدأنا بها حديثنا هذا تظل قائمة وفاعلة. ونعود الى المسألة الاساسية, فنقول: انه حتى في اطار الديمقراطيات الحديثة, فانه وان تم التخلي عن صيغ الصراع التقليدية, بشكلها التناحري بين الحكومات والمعارضات, فان الصراع نفسه لم يختف. وما زال الذي يحكم هذا الصراع هو ميزان الغلبة والمصلحة, وليس قيم الحق او الباطل. ذلك ان هذا الميزان هو جزء اساسي من مكونات طبيعة النفس البشرية. قد تهذبه وتشذبه الحضارة الحديثة والمدنية, لكنها لا تستطيع ان تزيله. لقد حلم الانسان منذ آلاف السنين بتحقيق هذا الهدف, وجد ذلك في عدد متنوع من الطوباويات والافكار المثالية. لكن من الواضح انه وهو على اعتاب الالفية الثالثة بعد الميلاد لايزال يحلم. وقد يظل كذلك سنوات مديدة مقبلة.

Email