أبجديات:بقلم-عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

توقعك الذاكرة احياناً في مواقف ومطبات لا يمكنك ان تفعل شيئاً حيالها سوى الاستسلام, والاغراق في حالة فلسفية من التأمل العميق, لكنها في احيان نادرة جداً تنعش في داخلك عمراً بأكمله ما كنت تتخيل وجوده يوماً . تفاجئك الحياة بوجوه واصوات تستدعي ذاكرتك على عجل, وتضعك وجهاً لوجه امام الحيرة, واحياناً امام الدهشة, وبعدها قد تورطك حتى آخر العمر. هذا العمر الذي يبدو فيه امر اللقاء والفراق من طبيعة الاشياء والبشر, لكن عندما يختفي صديقك فجأة لغير ما سبب, فهذا امر لا يبدو طبيعياً في بداية الامر حتى تعتاد عليه, وعندما تعلمك الذاكرة كيف تغلق ملفاتها وادراجها, تتعلم انت تدريجياً كيف يتحول الانسان الى ذكرى ملامح وبقايا اسم وتذكارات من ضحكات وتصرفات لا اكثر.. وكما يختفي فجأة سنين من ايام العمر, يفاجئك هاتفه فجأة ايضاً ذات صباح, وكأنه اغلق سماعته على صوتك مساء البارحة, لم يتغير شيء, الصوت ذاته, والحميمية نفسها تعبق في اسلاك الهاتف, وألق الحديث الذي كأنه لم ينقطع منذ سنين. ويأتيك انسان تظن ويظن هو انكما لا تعرفان بعضكما البعض, عندما تراه تتذكر قليلاً انك التقيته ذات يوم, وجهه قديم الى درجة انه كان في الذاكرة منذ بدأت هذه الذاكرة تدقق فيما حولها لتعرف وتكتشف, فتشعر فجأة بألفة عجيبة ازاء هذا الوجه, (الى درجة لا يتطلب منك اعادة الاكتشاف, تماماً كما يألف الانسان وجوه الام والاب والاخوة) حسب تعبير منيف في روايته (عروة الزمان الباهي) . في لحظة مباغتة, لكنها لن تمر عبثاً, ينبثق صوت عبر الهاتف فيحمل من جديد عالماً بأسره ويستدعي ذاكرة عمر بأكمله, عمر بعيد وعالم حافل بأشياء تبدو غير مترابطة, فلا تعرف ساعتها ماذا تقول, قد تقول اشياء لا تتصور بعد قليل انك قلتها, او لماذا قلتها تحديداً ذلك ان كم المجهول يفوق التساؤل ويفوق الوضوح ويتجاوز كل التفسيرات. التداعيات نفسها تبدو غريبة ومضحكة, تنهمر عليك من زاوية سحيقة في الذاكرة, وتظل تتدفق متخطية الكثير من بروتوكولات الحديث والتعارف, لتصل بك دون ان تشعر الى حالة من الشعور بالانخطاف, سيصعب عليك لاحقاً الافلات منها, او اخضاعها الى اي منطق. تقول ساعتها عجيب امر الذاكرة, كيف فطنت الى اختزال انسان بكل هذا الغنى والكثافة وراء علامات وملامح تنهمر جميعها برنة صوته تأتي مباغتة, فتستحضر انت دون قصد منك شيئاً عن (قصة) شعره ونكهة افكاره وذوق ثيابه, بل حتى رائحة سجائره! وتقول بعد زمن: هل كانت الذاكرة تتآمر علي في اليوم الذي تكونت فيه؟

Email