قراءة عربية خاطئة للبلقان:(الكسفار)لا ينتجون نفطاً! بقلم- الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثلاث قضايا رئيسية لافتة للنظر ظهرت في تعليقات بعض المتابعين العرب لما يحدث في كوسوفو وموقفهم العام من أحداثها, الأولى كانت المراهنة على عدم اتخاذ قرار غربي للقيام بالحملة العسكرية ضد يوغسلافيا , والثانية الموقف من الولايات المتحدة التي اتخذت قرارا لردع الصرب عسكريا مما أضعف حجة معاداة أمريكا, والثالثة هي الموقف من العرف الدولي المستقر في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. نعود الى القضية الاولى, فقد كان هناك من يراهن من العرب وربما أغلبية من المعلقين ذوي التوجه القطعي على ان حلف الأطلسي بتجمعه الكبير وبقوته العسكرية الجبارة لن يقوم بقصف يوغسلافيا, وكان بعض من يعتقد ذلك في موقع سياسي رفيع ويجاهر بالقول انه لا يمكن ان تقوم طائرات غربية بقصف مدن غربية, وكانت المراهنة من البعض تؤكد النفي حتى سويعات قليلة من بدء قصف قوات حلف الأطلسي للمنشآت اليوغسلافية, وتؤكد ان كل الذي نراه ونسمعه من تهديدات هو مجرد تهويش, الى درجة ان أحد نواب وزير خارجية عربي قال لمحدثيه من الدبلوماسيين قبل أربع وعشرين ساعة عن بدء العمليات العسكرية ضد يوغسلافيا ان حدث قصف فــ (احلقوا شنبي) ! ولكن القصف بدأ بالفعل, ولم يتوقف حتى كتابة هذه السطور في الايام الاولى من هذا الاسبوع, وكانت طائرات دول الحلفاء تقصف المناطق الرئىسية والحساسة في يوغسلافيا, وتتحدى الصرب وقائدهم سلوبودان ميلوسيفيتش, الشيوعي السابق الذي تحول الى قومي عنصري, الأهم ان هذه الحملة العسكرية قامت تدافع عن مسلمين, وليسوا فقط قومية أخرى غير القومية الصربية, هذا الدفاع هو من أجل انقاذ أوروبا من بؤرة صراع عرقي لا تريده ولا ترغب فيه دول أوروبا قاطبة. انه مظهر من مظاهر النظام العالمي الجديد, والذي يريد البعض ان يحوله الى لا نظام, ومنهم القائد الصربي, هذا النظام الجديد يريد الحفاظ على السلم العالمي بمواصفات انسانية. أما الموقف الثاني فهو الموقف من أمريكا, لقد قال الكثيرون مثلا ابان احتلال العراق للكويت في بداية هذا العقد ومن ثم ازاء الاستعانة بالولايات المتحدة لطرد الغاصب, قالوا وقتها مبررين ما اتخذوه من مواقف, اننا لسنا ضد تحرير الكويت ولكننا ضد الولايات المتحدة وعندما تسألهم بعناء ومن يمكنه اخراج جيش صدام حسين من بلد صغير كالكويت, يمطون شفاههم. واستمرت هذه النغمة من بعض التيارات السياسية والحكومات وحتى الافراد لفترة طويلة, وقبل البعض بهذا التبرير وان على مضض, ولكن هذا التبرير اليوم يسقط سقوطا فاضحا, فها هي امريكا وحلفاؤها يقومون بحملة عسكرية وحرب حقيقية تفقد فيها طائرات وأفراد للدفاع عن أقلية مسلمة في كوسوفو, فهل يقبل أحد مثلا ان يقف مع جزار الصرب سلوبودان ميلوسيفيتش لأنه فقط ضد امريكا! فوق ذلك لقد قيل ان الولايات المتحدة قد تدخلت سنة 1990 لأن الكويت بها نفط وقريبة من مصادر نفط هائلة, فهل (الكسفار) (اصطلاح يشير الى سكان كوسوفو) لديهم نفط أيضا؟! ثالثا: من الاعراف الدولية التي نراها قد تغيرت مع قدوم النظام العالمي الجديد انه لم يعد من المستقر اتباع العبارة المعروفة (عدم التدخل في الشؤون الداخلية) لقد كان ذلك زمنا مضى, فالعالم مضطر الى ان يتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان لا تعرف حدا أدنى من حقوق الانسان, وتضطهد هذا الانسان الى درجة لا يقبلها العقل الانساني في نهاية القرن العشرين, وكان التطهير العرقي في يوغسلافيا خاصة في اقليم كوسوفو ذي الأغلبية الاسلامية هو من أسوأ الممارسات بعد انتهاء الحرب الباردة. ما يحز في النفس ان الكثيرين من العرب قد كتبوا ونشروا انه من رابع المستحيلات ان يقصف الغرب مدناً غربية, فقط في نظرهم القصف ممكن للمدن العربية, وكذلك العقوبات التي تفرض دولياً, وما جرى في الايام الاخيرة من حرب على التعصب في يوغسلافيا هو دليل آخر على ان البعض منا لا يزال يعيش عالم الحرب الباردة, عالم التنافس السوفييتي ــ الغربي, ولم يتبين حتى الآن ان هناك نظاماً جديداً يتخلق في العالم, نظام التنافس فيه ليس بين القوى ولكن بين العقول, عقول تحكم الشعوب حكماً له علاقة بالعصر, وهذا الحكم بالعقل ليس له علاقة بالقومية خاصة المتعصبة, فالعالم في النظام الجديد يتكون اما من تجمع (فوق قومي) من جهة, او (دون قومي) من جهة اخرى. فوق القومي نراه الآن من حولنا يتكون عندما تتشابه المصالح فتتجمع الشعوب, فهناك اتحاد البنيلوكس, والسوق الاوروبية المشتركة ومجموعة النافتا في الشمال الامريكي (منظمة التجارة للقارة الامريكية) وهناك دول الباسفيك الآسيوية, اي ان هناك (نوادي) تتشكل في العالم من مجموعات الدول التي تتخذ من مبادىء الحريات والتجارة الحرة والممارسة الديمقراطية دستورا للحكم, وتعتمد الشفافية والمسؤولية في الممارسة دون ان تفرق بين مواطنيها, فالمواطنون فيها سواء امام القانون. اما الجماعات التي تسعى لان تشكل ما يسمى (تحت الدولة) فإن مظاهرها في نشاط قوميات او جماعات لا تشعر بأنها في مواطنتها متساوية مع بقية المواطنين, فتشرع في الدخول في حرب عصابات مع الدولة التي تضمها, هناك على سبيل المثال السيخ في الهند والتاميل في سيريلانكا, والايرلنديون الشماليون في بريطانيا, والى حد ما الاسكتلنديون, والاكراد واهل كشمير, وجماعات عرقية او دينية او اثنية في مناطق مختلفة من العالم لم تستطع الدول الحديثة ان تضمها مع بقية المجتمع تحت مظلة المساواة وفي نسيج وطني واحد بسبب عدم اقامة العدل, من هذه الاقليات مسلمو كوسوفو, الذين ناضلوا كثيراً منذ الحكم الشيوعي للحصول على حقهم في الحكم الذاتي. على العكس من ذلك فإن بعض القوميات العرقية المتعصبة تضطهد مثل هذه الاقليات المواطنة وتدفعها الى اتخاذ مواقف حادة ومضادة للدولة, وهذا ما حصل بالضبط في كوسوفو التي اخليت من معظم سكانها بالقوة الغاشمة المدفوعة بالموقف المتعصب للصرب الذين ارادوا تطهير المنطقة من المسلمين الألبان. ما يعجب منه المحلل ويستثير السؤال هو: هل هذا الاضطهاد قد مسح خبرة نصف قرن تقريبا من التسامح النسبي الذي عاشته يوغسلافيا تحت السيطرة الشيوعية, أم أن هذا التسامح كان ظاهراً نتيجة فرضه على الجميع بالقوة لا بالقناعة والقبول! ثم أين التحضر المفترض بين شعوب يوغسلافيا التي مر عليها حين من الدهر كانت مضرب الأمثال, وكانت كل الأدبيات المنشورة تفاخر بالتجربة اليوغسلافية من حيث تعدد الأعراق واللغات والثقافات التي تتعايش تحت سقف دولة واحدة. ما حدث ويحدث في يوغسلافيا من تطهير عرقي وعدم تسامح صارخ مع المواطن الآخر, جعل العالم, يشعر بأن ذلك لو استمر سيكون هو بداية الفوضى العالمية, بل هو الإخلال بما يريده ويتمناه العالم من استقرار مبني على حقوق الإنسان والشفافية والمسؤولية, لذلك فإن الاضطراب الذي سببه الصرب في قلب أوروبا أولى به أن يعالج, ويعالج بجدية وحسم ظهر في الحملة العسكرية التي قامت بها قوات حلف الأطلسي, وقد أيدها العالم من خلال عدم نجاح المعارضة الروسية في مجلس الأمن ومن خلال تحبيذ التصريحات الرسمية التي أعلنتها العديد من الدول. نأتي الان الى مستقبل هذا الصراع بين البيئة الدولية والأغلبية التي ترى انه آن الأوان أن تحكم الشعوب حكما حديثا مستجيبا لكل ما حققته الشعوب الأخرى من حريات, وبين حكام قلائل مازالوا يستجيبون لأدنى الرغبات القومية ذات المنحى العنصري ويفرقون بين شعوبهم في البلد الواحد تحت شعارات مختلفة, ماذا يفعل العالم تجاه هذه الحكومات؟! من الواضح أن العالم مصمم على أن يستجيب لرغبات الشعوب لرفع الاضطهاد والظلم, والمثل الأهم هنا هو ما حدث ويحدث في كوسوفو, إلا أن الملاحظ في الكثير مما كتب عربيا ــ عند التعليق على التدخل الخارجي ــ الزعم ان هناك تقصدا عالميا ضد بعض العرب (يقع ذلك في نظرية المؤامرة المحببة) دون ان يحاول هذا البعض النظر إلى التقصير الفادح الذي يرتكبه بعض الحكام العرب في حق شعوبهم, ولقد كان هذا التقصير في الفهم شيمة العديد من المثقفين العرب حتى جاءت قضية كوسوفو لتظهر قصور وعيهم السياسي, وقلة درايتهم بما يتشكل في النظام العالمي الجديد الذي لن يسمح لاحد بان يحوله إلى لانظام لمجرد ان حاكما فردا قرر ان يذبح شعبه ويعتدي على جيرانه ليرضي انحرافات نفسه أو يشبع اطماعه أو يثبت موقعه في الحكم دون شرعية حقيقية.

Email