تحرير أرنون... لحظة تاريخية للتغيير في لبنان: بقلم- شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

باستطاعة طلبة لبنان ان يفاخروا ويكابروا بالخطوة التي اقدموا عليها يوم الجمعة 26 فبراير 1999 بالتوجه نحو بلدة ارنون وتحريرها بعد اسر لها امتد تسعة ايام, متحدين بصدورهم العارية كل القوات الاسرائيلية والعميلة وبأيديهم قطعوا الاسلاك الشائكة, وباقدامهم دعسوا حقول الالغام . ان هذا الحدث الذي صنعه رجال بلا اسماء, بلا طوائف بلا هويات تنظيمية اوحزبية بلا شعارات يسارية ولايمينية, قدموا من شرقي البلاد وغربها من جبلها وسهلها, ان هذا الحدث على بساطته وعفوية حركته سجل منعطفا في مسيرة المقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائلي ووضع علامة فارقة على طريقها. وهو في هذا السياق يشكل رافدا نضاليا جديدا يضاف الى التيار العارم للكفاح المسلح المندلع بتجدد مستمر في الساحة اللبنانية منذ ان كان الاحتلال سنة 1983. ماذا يقول هذا الحدث؟ ان اول مايقوله هذا الحدث ويؤكده انه مهما حاولت عقلية التخلف السياسي الرجعي المتواطئة دوما مع الفكر الاستعماري ان تفتت المجتمعات العاملة فيها بتغليب ولاءات المواطنين الثانوية, من طائفية او مذهبية او تنظيمية فإن مصيرها في النهاية هو الفشل امام الولاء للوطن ككل متكامل يرفض التجزئة والتقسيم وانه مهما حاولت هذه العقلية ان تقوم به من افعال التأثير الاعلامي, تعتيما او تظهيرا تبقى عاجزة عن تشييد جدران الفرقة واسوار الانعزال. واي دليل ناصع اكثر من هذا الذي شهدناه في ارنون الذي كاد من غرابته بعد طول غياب ان يثير دهشة الناس وشكوكهم وهم يرون شباب لبنان وشاباته يتقدمون كالسيل العارم من كل حدب وصوب بنفس العزيمة والحماس ولا هم لهم ولاشاغل سوى تحرير البلدة الاسيرة. يوم العملية عملية التحرير لم يكن ثمة اعلام او بيارق غير العلم الوطني وما من نشيد غير نشيد الارض وما من عدو غير الاسرائيلي والمتواطىء معه, في اليوم الذي تلا, تعددت الاعلام وتلونت وحاول (الجميع) ان يقولوا (لقد كنا هنا) هذه المرة الحدث هو الذي قاد الاحزاب والقوى والتنظيمات وليس العكس كما كانت العادة حتى هذا اليوم يوم ارنون. وثاني مايقوله هذا الحدث ويؤكده ان ميدان الصراع ضد العدو كان دائما مشرع الابواب لمن يريد ان يصارع وان يقاوم وان المقولة التي كانت سائدة حول (احادية) الساحة لم تكن بسبب رغبة اي فريق لاحتكار النضال وحصره في حركة ما او بين ابناء مذهب معين وانما بسبب عزوف او تردد الاخرين عن خوض المعركة وسلوك الدرب الحقيقي للنضال والمقاومة. وحقيقية الامر ان حركة الطلاب في ارنون لم تنبع من فراغ, ولا هي من وحي الصدفة, وانما هي نتيجة حتمية لمجموعة من التراكمات النضالية وتضحيات الطلائع التي كرست هذا النضال وتحملت اعباء المبادرة في خوض غماره ولعل البعض لايزال يذكر مسلسل الاحداث التي وقعت في الجنوب والبقاع وكيف مهدت لمثل هذا التحرك المبارك, وبخاصة مجزرة قانا, وما كان سبقها ولحق بها من تحركات وطنية تجاوزت ما كان في البلاد من انقسامات موروثة واخرى مفتعلة. ومن المؤكد ان مامن احد نسي دعوة المقاومة الاسلامية منذ اكثر من عام عن رغبتها وعزمها على انشاء (السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال) التي اصبحت هذه الايام حقيقة قائمة ولها سجلها المشرف في قائمة العمليات الشجاعة ضد العدو الاسرائيلي جنبا الى جنب مع قوى حزب الله وغيرها من القوى المجاهدة منذ سنوات عديدة. وثالث مايقوله هذا الحدث ويؤكده ان للنضال اشكاله المتعددة واساليبه المختلفة, وان الادعاء بأن لامكان للمواطن في ساحة النضال بدون حمل البندقية وممارسة القتال المباشر انما ينبغ عن عاطفة ثورية وليس من عقل ثوري, ان حروب المقاومة ليس كغيرها من الحروب الكلاسيكية, وانما هي حرب شعبية نادرا ما تكون مدعومة من مرجعية رسمية او معترف بها رسميا كما كان الحال في بداية المقاومة اللبنانية ولذلك فإن الشعب كل الشعب مطالب بأداء دوره في العملية النضالية على جبهاتها المتعددة والمتجددة, والتي يشكل الكفاح المسلح الجبهة الاساسية فيها, وكما هو معروف في الحروب الشعبية, فإن كل حامل سلاح بحاجة الى مالا يقل عن عشرة اشخاص يعملون وراءه لحماية وتأمين متطلبات استمراره وضمانه من وما ترك وراءه من مسؤوليات عائلية وشخصية. هذا الحدث الطلابي في ارنون اعاد (للنضال الجماهيري) اعتباره بعد طول انتظار فما جرى في ارنون ما كان ليتم ويحقق نصرا لو لجأت المقاومة الى اي اسلوب غير ذاك الذي اتبع اي اقحام الجماهير ومن غير سلاح في العملية ما كان ممكنا لقوى المقاومة المسلحة ان تفعل شيئا غير الانتقام هنا او هناك كما لم يكن ممكنا للجيش اللبناني ان يتحرك دون ان يتسبب في تغيير جذري بقوانين اللعبة الدائرة مما يهدد المصلحة العامة, لم يكن من سبيل لتحرير ارنون غير النضال الجماهيري المكثف غير الزحف الشعبي الاعزل وتحدي السلاح بالصدور العارية وبالقبضات الغاضبة والهتاف الواحد. لقد صدم هذا التحرك جيش العدو الاسرائيلي بقدر ما صدم العديد من الدوائر السياسية المراقبة لما يحدث في الجنوب كان قناصة العدو المرابطون فوق اسوار قلعة ارنون كالحيارى والسكارى امام المشهد, اما الدوائر السياسية الغربية فكانت كمن افاق من سكرة طويلة, اذ فوجئت بأن الشعب الذي توهمت انه غير مبال او انه مقتنع بالمشاركة النضالية عبر مشاهدته لما يحدث في بلاده على شاشات التلفزيون فإذا به محتقن الى حدود الاختناق غاضب الى حدود المجازفة وان صمته لم يكن علامة رضا بقدر ما كان من بقايا مخدرات المرحلة السابقة, او نتيجة كبت او الوهم بأن هناك من يكبته. ان رد الاعتبار للنضال الجماهيري سيخرج العملاق من القمقم ليكتشف الجميع سعة الافاق الممتدة لرفد المقاومة بالمزيد من عناصر القوة واسباب التفوق والنصر, ولابد من الاشارة هنا الى ما ستوحي به عملية ارنون وتجربة الشباب فيها الى زملائهم واشقائهم في دنيا العرب ممن طال صبرهم على الكثير مما يجب ان يقوموا به ولايزال ينتظر. ولعل في نقل هذه التجربة التي رفعت الحصار عن ارنون في لبنان, الى المستوى القومي ما يبعث املا في امكان فك الحصار عن العراق وليبيا ووضع حد لغطرسة الممارسات الاسرائيلية في فلسطين المحتلة. وبعد.. ان تجربة الطلاب في ارنون هي بداية انتفاضة تذكرنا بانتفاضة شعب فلسطين في نهاية 1987 وهذا مايدعونا الى استدراك مالم نستدركه في الانتفاضة الفلسطينية. على الطلاب بعد ان تجاوزوا من خلال هذه التجربة اسوار الحزبية والموروث من العلاقات السلبية وان يحثوا في سعيهم لتوسيع حركتهم بهدف الارتقاء بالعمل الحزبي الراهن الى مستويات العمل الجبهوي الجديد وفق متطلبات الساحة وان اخشى مايخشاه الواحد منا ان يحدث العكس فتحاول الاحزاب اثباتا لوجودها, باستعادة الوصاية عليها, وتحويلها من حركة نقابية شعبية مرشحة للنمو والتعاظم الى لقاء مؤقت سرعان ما ينفرط عقده لصالح الاحزاب, ألم يحدث مثل ذلك في الانتفاضة الفلسطينية. كما انه على الطلاب وقد تحركوا وانجزوا هذا النصر الذي نهنئهم عليه ان يدركوا ان المشوار لايزال في بداياته وان لايغتروا فتأخذهم النشوة بالنصر فيعودون الى حالة الاسترخاء والكمون فهناك آفاق بلاء حدود تنتظر تحركات مماثلة خصوصا وان هذا العهد على مايبدو قد ضاق هو الآخر بمسيرة النظام الكئيبة ــ القديمة, ويتطلع فعلا الى نوع من التغيير لا في النظرة الى تحرير الوطن من الاحتلال وحسب وانما لتحرير المواطن كذلك من (الاحتلال) القائم في العلاقة بينه وبين الدولة. هي فرصة كبرى وربما لحظة تاريخية مواتية لتحقيق احلام طالما سعى اللبنانيون لترجمتها حقائق على الارض.

Email