حقوق الإنسان .. يا حيوان!بقلم-صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

في فيلم (الإرهاب والكباب) لعادل إمام, شخصية طريفة لمواطن سوداني, تدهشه مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي التي تحيط به, وما أن يشرع في الاعتراض عليها قائلا(.. في أوروبا والدول المتقدمة ..)حتى يفاجأ بمظهر آخر أكثر تخلفا, يوقف الكلام في حلقه, ليظل طوال الفيلم يكرر العبارة, من دون أن يستطيع ــ بسبب وفرة مظاهر التخلف ــ أن يكملها . وفي فيلم آخر, لعادل إمام أيضاً, هو (الأفوكاتو) يكرر أحد أبطاله الاحتجاج على إهدار إنسانيته قائلا: بس ده مخالف للاعلان العالمي لحقوق الانسان, فيسكته بطل الفيلم ــ المحامي (حسن سبانخ) ــ في كل مرة قائلا: حقوق إنسان إيه يا حيوان؟! وفي (أوروبا والدول المتقدمة) احتفل الناس هذا الأسبوع, بالعيد الخمسيني لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان, وأقامت (منظمة اليونسكو) احتفالا بهذه المناسبة في باريس افتتحه الرئيس الفرنسي, وحضره أكثر من ألف مدعو من مختلف أنحاء العالم لكن أحداً ــ في الوطن العربي ــ لم يحتفل بالمناسبة, إلا هؤلاء الذين اختاروا أن يفجروا قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوق الانسان, في هذا التوقيت بالذات, ولم أجد تفسيرا لذلك, الا انهم في (أوروبا والدول المتقدمة) لديهم (إنسان) له حقوق تستحق الحفاظ عليها, واحترامها والاحتفال بصدور الاعلان العالمي, الذي يحددها ويصونها ويلزم بها الحكومات والجماعات والدول, أما نحن فيبدو وكأن الأمر عندنا, ليس كذلك. وليس هناك دليل على ذلك, أكثر من أن نصف قرن قد مر على إصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان, لم نسمع ــ نحن العرب ــ خلالها شيئًا عن هذا الاعلان, ولم نحفظ بنداً من بنوده, ولم نتمتع بأي حق مما يكفله, للناس في (أوروبا وللدول المتقدمة) فلم يعد إهدار هذه الحقوق عادة قومية, لدى الحكومات والجماعات السياسية, وحتى الأفراد فحسب, بل وأصبح التقليل من شأنها وتبرير إهدارها دليل على أصالتنا وخصوصيتنا واستقلال ارادتنا, وكأن هذا الاستقلال لا يتحقق إلا بالاستبداد, وبالصمت على إهدار حقوق الإنسان مع أن الوطن ليس معنى مجردا لكنه كما قال الامام محمد عبده (منذ تسعة عقود ــ هو المكان الذي تنسب إليه, ويحفظ حقك فيه, ويعلم حقه عليك, فلا معنى للحديث عن الوطنية بدون الدفاع عن حقوق المواطنة, ولا معنى للحديث عن واجب الانسان تجاه وطنه من دون الحديث عن حق الانسان في أن يعيش في وطنه كما يليق بالانسان: من الحق في الحياة, إلى حق النوم بمعدة ممتلئة, ومن الحق في اختيار من يحكمونه, ومحاسبتهم إلى الحق في أن يكون حراً, لا يحد حريته قيد أو حد, إلا العدوان على حريات الآخرين. وبين الذين أثاروا قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوق الانسان في أقل الأوقات ملاءمة لذلك, مغرضون من النوع الذي لا يقول حقا الا اذا أراد به باطلاً, وسذج يقولون حقا من النوع الذي لايخدم الا الباطل, ومخلصون لديهم مخاوف مشروعة, تستحق المناقشة. والمشترك بين هؤلاء جميعا, هو أنهم ينطقون من فكرة خاطئة بالأساس, تعتبر كل ما هو أجنبي عدواً, وكل ما هو مواطن أوروبي أو أمريكي جاسوساً, وتفترض أن كل هيئة غير حكومية في الغرب هي مجرد واجهة لنشاط المخابرات الأمريكية, وأن أحدا في العالم كله لا يدفع دولارا أو فلورينا أو ينا, إلا إذا كانت وراءه مصلحة, تضر بمصلحتنا, وتهدف إلى اختراق أمننا القومي, لاضعاف مقاومتنا وادماجنا في النظام العالمي الجديد, واخضاعنا لشروط العولمة, التي يرفضها النظام العربي ببسالة منقطعة النظير, كما لا يخفى على الجميع!! ذلك نوع من التعميم الخاطئ, والخلط الفاضح, والتعصب السخيف, يفترض أن العالم كله يخلو من أصحاب الضمائر, ومن المنصفين, الراغبين في مساعدة الضعفاء والفقراء والمضطهدين, ولا يصدق أن هناك رأيا عاما عالميا أصبح مؤثرا في كثير من القرارات والسياسات, وهو كلام تكذب الشواهد التاريخية, في أكثر مواقف الرأي العام العالمي, أو أقسام منه مع قضايانا القومية, ومع حكوماتنا الوطنية, ومع المعارضين منا الذين تعرضوا لاضطهاد بسبب آرائهم, أو سجنوا بسبب ضمائرهم, كما تكذبه شواهد معاصرة, وإلا فما مصلحة الذين يمولون حملات القضاء على البلهارسيا, والذين يرسلون المعونات الغذائية والطبية للجياع في الصومال والسودان والبوسنة والعراق وبوروندي والكونغو ورواندا؟! وخطورة هذا النوع من الأفكار, تكمن في أنها تصيبنا بنوع من البارانويا السياسية تدفعنا للتصرف على أساس أننا مركز القهر في هذا العالم الذي لاصديق لنا فيه, بما ينتهي بانعزالنا عنه, وتوقفنا عن السعي لاكتساب أنصار لنا بين صفوف شعوبه وجماعاته السياسية, لنترك الساحة العالمية خالية أمام أعدائنا الحقيقيين. والذين يتحدثون عن (مصالح) وراء الدعم الأجنبي للمنظمات غير الحكومية, يدللون على ذلك بأن الدول المانحة للمساعدات والمعونات تشترط توجيه قسم محدد منها إلى تلك المنظمات, وتصر على أن توجهها إليها مباشرة حتى تضمن ألا تحتجزها الحكومات, أو توجهها إلى جمعيات أهلية من حيث الشكل, وحكومية وتابعة من حيث المضمون, وأنها تفعل ذلك بهدف تسييد النظرة الأوروبية للعالم, من الخصخصة إلى حرية التجارة, ومن الديمقراطية إلى حقوق الإنسان, وتلك هي ملامح العولمة التي يريد الغرب أن يفرضها علينا. وقد يكون منطقيا أن تضيق بعض الحكومات باشتراط الدول المانحة توجيه المعونات مباشرة الى الجمعيات غير الحكومية, وان تنظر لذلك بقلق شديد, وخاصة إذا كانت هذه الجمعيات تنشط في مجال حساس بالنسبة لأي حكومة, مثل مجال حقوق الانسان لأن ذلك من شأنه أن يقوي هذه الجمعيات, ويمنحها درجة من الاستقلال والحماية الدولية التي يفرضها رأي عام عالمي أصبح بالغ اليقظة والحساسية تجاه هذه الأمور, وهو ما يحول بين هذه الحكومات وبين السيطرة عليها, ويحرمها من مواصلة الحكم بالطريقة التي ألغتها في ظل الأنظمة الشمولية والاستبدادية. أما الذي ليس منطقيا, فهو أن تضيق بذلك, أقسام من النخبة الفكرية والسياسية, وكأنها تستغني عن الشمولية, ولا تريد للمجتمع أن يتحرر من سيطرة الحكومة على كل شؤونه, ومن اصرارها على ادماج كل السلطات والأنشطة والتنظيمات فيها, ومحاربتها لكل محاولة لكي تستغل قوى المجتمع المدني وجماعاته أما الذي هو خلط للأوراق فهو سلاح الاتهام بالعمل على تنفيذ مخطط العولمة في وجه الذين يقبلون بهذه المعونات, مع أن العولمة واقع مادي, انتهت اليه التطورات الاقتصادية في العالم لا نستطيع أن نحول دونه برفض هذه المعونات, وباغلاق هذه الجمعيات, وبالدفاع المستميت عما تبقى من مظاهر الدولة الشمولية, بعد ان انتهت ــ بالخصخصة ــ كل فضائلها, ولكننا نستطيع أن نحصل على مكان أفضل مما هو محدد لنا على خريطة العولمة, لو اننا تعاملنا معها باعتبارها تحديا يحفزنا الى تجديد كل شيء في حياتنا, من التكنولوجيا المتخلفة .. إلى الأفكار المتخلفة التي تعتبر الاستبداد وطنية, وتسعى للابقاء على المعادلة القائمة (انفتاح في الاقتصاد .. وشمولية في السياسة) ! أما الذي يدعو الى السخرية فهو ان اصحاب الفضيلة الوطنية, الذين يكفرون منظمات المجتمع المدني, لأنها تحصل على معونات أجنبية, ويحذرون من انتهاك العولمة لشرف الوطن, لايجدون بأسا من حصول الحكومات على هذا النوع من المعونات, مع أن ما يقدم للحكومات منها يوجه الى الجانب الذي يعترضون عليه من ظواهر العولمة ــ كالخصخصة وإلغاء التمييزات الجمركية وإعادة هيكلة السوق لقوانين هذه العولمة .. إلخ ــ بينما المعونات التي تقدم لمنظمات المجتمع المدني, تتوجه الى الجانب الذي يمكن أن يكون طيبا من العولمة وهو احترام حقوق الإنسان وتطوير وتحديث النظم السياسية نحو مزيد من الحرية .. وهكذا انتهت معاركهم المظفرة, برفع شعار (عولمة السوق .. وليس عولمة الحقوق) ! وليس صحيحا ما يشيعه أصحاب الفضيلة الوطنية, من أن الجهات الأجنبية التي تمول نشاط منظمات حقوق الانسان, هي التي تفرض على هذه المنظمات ما تهتم به من موضوعات, إذ الحقيقة أن ما يحدد هذه الاهتمامات هو الإعلان العالمي لحقوق الانسان نفسه, والعهود والمواثيق الدولية, التي صدرت استنادا اليه, ووقعت عليها كل الدول الاعضاء في الأمم المتحدة, ولا تستطيع أية منظمة منها ان تحصل على تمويل لأي مشروع لا يستند إلى مادة محددة من مواد هذا الاعلان أو تلك العهود, أما الواقع فيقول ان كل ما تهتم به, يدخل في نطاق الهم الوطني والقومي الاكثر الحاحا, من الدفاع عن حرية الصحافة, إلى مناهضة التعذيب واعادة تأهيل الذين يتعرضون له, ومن ادانة العقوبات الجماعية, إلى ادانة الارهاب المتستر بالدين, ومن تقديم المساعدة القانونية للصحفيين وأصحاب الرأي الذين يحاكمون بقوانين متخلفة, إلى التطوع للدفاع عن النساء الفقيرات في قضايا الأحوال الشخصية, ومن رصد وتحليل ظاهرة الحزب الواحد في قالب تعددي, إلى مراقبة الانتخابات, ومن التنديد بتشغيل الاطفال, إلى التشنيع على محاولات نشر التعصب الديني, وباهدار حقوق المواطنة .. أو الدعوة للتمييز على أساس طائفي. ولا يبقى من الشبهات التي يثيرها الذين شاركوا في الحملة, إلا الادعاء بأن الذين يديرون هذه المنظمات ينهبون أموال المعونات الأجنبية, ويقتطعون الجزء الأكبر منها لأنفسهم, ومع أنهم لم يقدموا واقعة واحدة تثبت صحة هذا الاتهام, فليس له علاقة بالموضوع, فالذي يستحل لنفسه أموال التمويل الأجنبي, يمكن أن يستحل لنفسه أموال التمويل المحلي, ومواجهة ذلك, لاتكون بادانة هذا التمويل, ولكن بالاستجابة إلى مطلب هذه المنظمات بالاعتراف القانوني والشرعي بها, على قاعدة استقلالها التام, وبذلك يمكن محاسبة هؤلاء قانونا, ومحاكمتهم - إذا ثبت أنهم يفعلون ذلك. مشكلة منظمات حقوق الانسان العربية, أنها تنشط في مجتمعات لا تعترف بهذه الحقوق, وفي ظل مواريث فكرية وسياسية جعلت الاستبداد من جانب والتفريط في هذه الحقوق من جانب آخر, أحد ملامح النظام الاجتماعي والسياسي العربي, فالحاكمون يتعاملون مع شعوبهم باعتبارهم رعايا لا حقوق لهم, والمحكومون لا يتعاملون مع حكامهم باعتبارهم مواطنين من أصحاب الحقوق, ولكن باعتبارهم رعايا, ما يكاد الواحد منهم يتلقى صفعة على قفاه من أي صاحب سلطة, حتى يقول بكل فخر: ضربك شرف يا أفندينا. مشكلة هذه المنظمات أنها تتعامل مع نخبة سياسية وفكرية تربت في هذا المناخ الاستبدادي, لذلك يعتبر كل فرد فيها, وكل تيار منها, انه (الانسان) الذي يتوجب عليها أن تدافع عن حقوقه ولا يقبل منها ان تدافع عن حقوق خصومه او من يعتبرهم اعداءه, لذلك يهاجمها اصوليون متطرفون, لأنها أدانت اغتيال (فرج فودة) , ومحاولة اغتيال (نجيب محفوظ) وساندت (نصر حامد أبو زيد) , وأدانت الارهاب المسلح ضد المدنيين وضد رجال الشرطة ويهاجمها يساريون تنويريون لأنها تعترض على محاكمة المتطرفين أمام محاكم عسكرية, وعلى الاعتقالات الكيفية, وتضيق بها الشرطة لأنها تنتقد بعض ما يقوم بها افرادها من تجاوزات. في ظل هذا المناخ تصبح الحملة على المعونات الاجنبية التي تتلقاها هذه المنظمات أو المطالبة بوقفها, دعوة صريحة لاغلاقها, وتصبح المطالبة باعتمادها على التبرعات المحلية, نكتة سخيفة, ففي مجتمع تسوده ثقافة الاستبداد, لن يتبرع احد لمنظمات من هذا النوع, الا بشرط واحد, هو ان تدافع عن حقوقه وحده, وتبرر اهدار حقوقه لخصومه ومن يعتبرهم اعداءه, وهو ما لا يفعله الممولون الاجانب, لأنهم ــ في (أوروبا والدول المتقدمة) ــ قد وصلوا الى مرحلة (الانسان) التي يعترف فيها كل انسان بحق الآخرين, ويدافع فيها الجميع عن حقوق الجميع, اما نحن فإن الامور عندنا لم تصل بعد الى هذه المرحلة, وهو ما أكده لي المحامي (حسن سبانخ) ــ بطل فيلم (الافوكاتو) ــ الذي ما كدت أسأله عن تفسيره احتفالنا بالاعلان العالمي لحقوق الانسان بهذه الطريقة الغريبة, حتى قال لي: حقوق انسان إيه يا حيوان!

Email