كشف حساب الحريات:بقلم- عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مصر ليست منزلا نتركه ونستأجر غيره .. أو نهرا نستطيع بسهولة تغيير مجراه .. أو عود كبريت ننفخ فيه فينطفئ توهجه .. مصر هي حقيقة تاريخية وحضارية وجغرافية مستقرة وشامخة لا يمكن اللعب بها .. إنها الكلمة الطيبة التي لايمكن تخيلها على شكل زنزانة .. أو مشنقة .. هي حوار العقل .. ولايمكن تصورها على شكل مسدس أو قنبلة أو حربة, أو رصاصة إرهابية غادرة .. أو مجموعة من الغامضين الذين نسميهم زوار الفجر. لذلك تنفست الصعداء وأزحت ملامح الاكتئاب والقلق عن وجهي عندما تناول سلامة أحمد سلامة ولطفي الخولي في (الأهرام) ما جرى لأمين عام المنظمة المصرية لحقوق الإنسان (حافظ أبو سعدة) الذي استدعته نيابة أمن الدولة العليا كشاهد .. وفور مثوله أمام أحد رؤسائها وهو هشام بدوي أصبح متهما .. وبعد ساعات طوال من الاستجواب المرهق لم يعد الرجل إلى بيته وإنما أخذوه إلى محبسه لمدة 15 يوما في سجن القناطر على ذمة المحضر رقم 695 لسنة 98 - حصر تحقيقات أمن الدولة. وقامت الدنيا ولم تقعد في العالم كله .. وأصبحت مصر - على حد قول لطفي الخولي - موضع اتهام في حقوق الانسان .. وأتاح ذلك (لمن يساوي ولمن لا يساوي في الغرب وغير الغرب نصب مكلمة للقيل والقال) ويبدو أن هذه المكلمة التي اختلطت فيها اللغات واللهجات جعلت النيابة تفرج عن حافظ أبو سعدة قبل أن يستكمل الأسبوعين .. وهكذا أنقذت النيابة نفسها من مأزق أو مؤامرة دفعها إليها - حسب تحليل لطفي الخولي - بعض أصحاب الشعارات الجوفاء الذين يتاجرون في الله والوطن والحرية .. والذين انتشوا عندما اتخذت النيابة (هذا القرار المجحف في هذا الوقت بالذات) الذي يحتفل فيه العالم بالعيد الذهبي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي شاركت مصر في صياغته .. و(الذي تناقش فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع بيان لحماية نشطاء حقوق الإنسان .. وكأن مصر حريصة في هذا المناخ الدولي أن تجاهر بعدائها لحركة حقوق الإنسان) - الأهرام 5 ديسمبر 1998. وتبدأ الوقائع - التي لم يكن من الصعب استيعابها والحصول على مستنداتها - ببيان نشرته المنظمة المصرية لحقوق الانسان في يوم الأربعاء 28 أكتوبر 1998 عما جرى في قرية الكشح .. وهي القرية التي لعبت بها الصحفية البريطانية (كريستينا لامب) في تقريرها المنشور في صحيفة (صنداي تليجراف) حين ادعت أن أهلها من الأقباط صلبوا وعلقوا بدق أيديهم بالمسامير على أبواب منازلهم .. وهو ما استفز الشعب المصري كله .. فقام مسيحيوه بحملة إعلانية وإعلامية مضادة على حسابهم في أشهر الصحف الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد استخدم هؤلاء - كما استخدمت أجهزة رسمية في الدولة - بيان المنظمة - بوصفها منظمة أهلية مستقلة تعنى بحقوق الانسان منذ عام 1985 - في نفي أية شبهات للتعصب والطائفية فيما جرى في الكشح واستقر الجميع - حكومة وأهالي - على أن ما جرى هناك كان تجاوزات للشرطة بحثا عن الجناة في جريمة قتل عادية. كان عنوان بيان المنظمة .. (المنظمة المصرية لحقوق الانسان لم ترصد أية انتهاكات ضد المواطنين بسبب هويتهم الدينية) وبالنص قال البيان: (ان المنظمة كانت في قلب أحداث الكشح من خلال بعثة تقصي الحقائق التي أوفدتها فور علمها بوقوع تجاوزات وانتهاكات واسعة النطاق, وقد انتهى تقرير البعثة بعدم رصد أية انتهاكات أو تجاوزات ضد المواطنين الأقباط بسبب هويتهم الدينية ولكن ما رصدته المنظمة - من تجاوزات لرجال الشرطة - يعكس (آلية عمل) أجهزة الأمن تجاه المواطنين أثناء التحقيق في القضايا) . واستطرد البيان: (ان توقيت إثارة اضطهاد أقباط مصر على الصعيد الدولي في الظروف الراهنة يجدد المخاوف لدى المنظمة من التوظيف السياسي لقضايا حقوق الانسان) . إلى هذا الحد كان بيان المنظمة واضحا في التحذير من الاستخدام السياسي لهذه القضية التي أصبحت تثير الحساسيات المرضية عند الجميع .. وإلى هذا الحد كان تقرير المنظمة واضحا في تبرئة الحكومة من تهمتي الاضطهاد والتعصب .. لكن هذا التقرير هو نفسه الذي حبس أمين المنظمة وجعله يدفع الثمن من حريته .. فقد قيل انه قدمه الى السفارة البريطانية مقابل مبلغ يزيد على 25 ألف دولار .. وكانت تهمته من النوع الثقيل وهي (قبول رشوة من سفارة أجنبية بقصد الأضرار بالمصلحة القومية وبث دعايات مثيرة وشائعات كاذبة) . وفي تصوري ان هذا التقرير ليس هو السبب في استفزاز النيابة والشرطة وانما السبب هو نداء منظمات حقوق الإنسان الى رئيس الجمهورية في الثامن من نوفمبر عن العقاب الجماعي لأهالي الكشح وعدم تحرك النيابة لتحقق فيما جرى 12 أسبوعا حتى انفجر الموقف عبر الصحافة الغربية .. ولو كانت الأمور أخذت مجراها الطبيعي لما فتح الباب على مصراعيه لإساءة استغلال ما حدث وتصويره على أنه شكل من أشكال الاضطهاد والتمييز ضد المواطنين الأقباط بسبب هويتهم الدينية. وبالنص قال النداء: (لقد قامت النيابة العامة بالتحقيق في الحادث وأيضاً في وقائع التعذيب وناظرتها وأثبتت بعضها في محاضرها .. الأمر الذي يعني أن المعلومات عن الجرائم التي ارتكبت ضد رجال ونساء وأطفال مصريين كانت متوفرة منذ وقت طويل لدى السيد النائب العام والسيد وزير الداخلية وبعد 12 أسبوعا اكتفى السيد وزير الداخلية بنقل بعض الضباط من سوهاج لعدم التأثير على التحقيقات) . وقد أبدى الموقعون على النداء دهشتهم من الغضب العارم من مقال نشر في الخارج وفي الوقت نفسه (لم يختلج لأحد وتر إزاء الجرائم الفعلية البربرية التي ارتكبت ضد المواطنين في هذه القرية) كذلك فان أحدا لم يحاسب. ويبدو أن هذا النداء إلى الرئيس دفع البعض الى الدفاع عن نفسه بعقاب المنظمة التي دعت باقي المنظمات الى توجيه هذا النداء .. ومن ثم جاء الربط المتعسف بين تقرير المنظمة المصرية عن الكشح وبين تلقي شيك من لجنة حقوق الانسان في مجلس العموم البريطاني عبر السفارة البريطانية لعدم وجود مقر للجنة مجلس العموم في مصر .. وهو ربط فيه تسرع وسوء نية لان الشيك خاص باستكمال مشروع (المساعدة القانونية للنساء والمعاقين) والذي بدأ تنفيذه في المنظمة في أول سبتمبر 1995 وقد سبق للجهة ذاتها تمويله في عام 1996 بمبلغ (17346) دولارا أي (58976) جنيها وظهر المبلغ في ميزانية العام الماضي للمنظمة التي خرجت من مكتب المحاسب القانوني سعد عبد العزيز .. كما ان التقرير السنوي للمنظمة تضمن تلخيصا لما جرى تنفيذه من المشروع في الصفحات من 81 الى 84 وتضمن كذلك خطة عام 1998 التي ستمول من الشيك الأخير الذي قررت المنظمة رفضه إذا كان يسبب الصداع .. كما قررت تجميد نشاطها إذا كان هذا النشاط ينتهي الى السجن. ونحمد الله ان السفارة البريطانية لم تقدم للتحقيق عملاً بالمبدأ القانوني الذي يقدم الراشي والمرتشي الى النيابة. إنني ممن لا يطيقون سيرة التمويل الأجنبي وأخشى دائما من سوء استخدامه رغم ان الدولة تقبل بالهبات والمعونات الخارجية ورغم ان العالم الفقير يطالب العالم الغني بمزيد من المساعدة والمساندة لتحقيق العدالة المفقودة بين الشمال والجنوب .. (بل ان المكاتب المحلية التابعة لجهاز إعلام رسمي في الدولة تحصل على مساعدات من هيئات أجنبية) كما يقول سلامة أحمد سلامة في الأهرام في 3 ديسمبر 1998 .. وكان قد قال أيضاً: اننا نعلم والذين دبروا هذه الحملة يعلمون أن كثيرا من المشروعات الاجتماعية والمدنية في مجالات العمل التطوعي للأسرة والطفل والبيئة والمعاقين ومكافحة الفقر وغيرها - والتي تسهم فيها الدولة - يتم تمويلها من هيئات أجنبية) . والشيك - الذي أصبح دليل الاتهام - أرسلته لجنة حقوق الانسان في مجلس العموم بتاريخ 18 يونيو 1998 أي قبل أحداث الكشح التي وقعت في 14 أغسطس 1998 أي بعد شهرين تقريبا من تاريخ الشيك .. كما ان الشيك وضع في حساب المشروع في البنك العقاري ورقمه 25251 وأمين المنظمة المتهم حافظ أبو سعده ليس له وحده حق التصرف فيه وإنما يشاركه في هذا التصرف رئيس المنظمة عبد العزيز محمد وأمين صندوقها إبراهيم الشربيني .. والحساب الخاص بالمشروع بعيد عن حساب المنظمة في البنك الوطني - فرع (ثروت) بناء على طلب جهة التمويل التي ترى أن ذلك يمثل ضبطا بنكيا لكل ما ينفق على المشروع .. يضاف إلى هذا أن تكلفة تقرير الكشح الذي أثار الكارثة لم تزد تكلفته عن 300 جنيه مصاريف السفر فقط .. لأن الجهود البشرية تطوعية على حد بيانات المنظمة. إنني أخشى أن يكون الظاهر غير الباطن في هذه القضية .. كما انني أشعر بالتسرع فيها دون ادراك ان سمعة البلد يمكن أن تكون الثمن .. وربما كان الدليل على ذلك إفراج النيابة المبكر عن الشاهد الذي أصبح متهما وهو قرار يستحق التقدير .. لكن القضية أكبر من حبس أحد نشطاء حقوق الانسان على ذمة القضية أو نوع من شد الأذن .. القضية هي إعطاء فرصة لخصومنا في العالم كله للإساءة إلينا والصيد في الماء العكر والضرب تحت الحزام وقد كنا في غنى عن ذلك .. وهو ما يعني ضرورة توافق النظرة السياسية والنظرة الأمنية .. وربما كانت النظرة السياسية في مثل هذه القضايا أهم. لكنها فرصة للكلام عن حقوق الإنسان في اليوبيل الذهبي لإعلان هذه الحقوق .. فقد كان هذا الإعلان في 10 ديسمبر 1948 .. وقد قدم الوفد المصري إلى المؤتمر البرلماني الدولي الذي انعقد في موسكو في سبتمبر 1998 دراسة تستحق الانتباه بهذه المناسبة .. ويقول المستشار فتحي رجب عضو مجلس الشورى ومستشار الوفد المصري في هذه القضية : إن الدراسة المصرية التي أشرف عليها الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب قالت: إن على المجتمع الدولي اليوم وهو يقف على أعتاب نقلة حضارية هائلة ألا يكتفي بالاحتفال بإعلان حقوق الإنسان باستعراض نصوص الوثيقة فقط لان حقوق الإنسان لا تزال تعيش أزمات حادة ومتعددة في كثير من بلدان العالم ولا يزال ملايين من الناس في الشرق والغرب مجردين من حقوقهم الأساسية. وبجرأة متناهية قالت الدراسة المصرية أيضاً: انه لا يمر يوم واحد دون أن يعاني البشر في بقعة ما من بقاع العالم من الحروب والمجاعات أو الاعتقالات التعسفية أو التشريد أو التطهير العرقي .. ان 63 دولة من دول العالم تسجن الخصوم السياسيين وانه يوجد مليون ونصف المليون سجين في العالم بسبب انتقاداتهم للحكومات او بسبب الدفاع عن حقوق الانسان.. وبخلاف 15 مليون لاجىء هربوا من اوطانهم لأسباب سياسية.. كذلك فإن 41% من سكان العالم (أكثر من مليون شخص) يعيشون في ظل انظمة غير حرة تمارس درجات عالية من القمع وتنتهك حقوق الانسان وحريته.. وان 80% من سكان العالم ما زالوا يعيشون في ظل انظمة تمارس درجات عالية او متوسطة من القمع.. كما ان هناك انتهاكات للمرأة والطفل.. ويوجد مليون طفلة تدفن حية كل سنة.. وتتعرض النساء للتشويه والضرب حتى الموت.. ويتم تداولهن بالبيع والشراء ويسخرن لأغراض الخدمة المنزلية والجنسية. وقد انتهت المناقشات التي شارك فيها كمال الشاذلي الى ان ثمة دور هام ينبغي ان تلعبه البرلمانات الوطنية من اجل حماية وتقرير حقوق الانسان بأن تعمل البرلمانات على ملاءمة تشريعاتها الوطنية للاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها. ايضا لابد من تنفيذ قرارات المؤتمر البرلماني الدولي في دورته الــ 85 في بيونج يانج في عام 1991 والتي نصت على دعم لجنة حقوق الانسان في الاتحاد البرلماني الدولي.. وان على الحكومات ان تستكمل التدابير التشريعية والخطط والبرامج اللازمة لهذا الدعم. وفي المؤتمر نفسه تقدمت مصر باقتراح ــ صاغه المستشار فتحي رجب ــ ووافقت عليه معظم الدول ويقضي بانشاء المحكمة الجنائية الدولية التي سيكون من مهامها محاكمة الدول التي ترتكب جرائم جماعية أو فردية ضد حقوق الانسان. ولكن الاقتراح الاهم على مستوى الداخل للمستشار فتحي رجب هو لماذا لا ننشىء لجنة لحقوق الانسان في البرلمان المصري؟ ان معظم برلمانات العالم فيها هذه اللجنة.. وهي التي تقوم بالتحقيق وتقصي الحقائق في انتهاكات وتجاوزات حقوق الانسان.. ولو اتسمت بالحياد والموضوعية فإنها ستنال احترام وتقدير العالم كله.. وهي فرصة لأن نسد الثغرات المفتوحة في المنظمات الأهلية لحقوق الإنسان .. إن اللجنة البرلمانية لحقوق الانسان يمكن أن تتعاون مع هذه المنظمات وترشدها فتغلق بذلك أبواب الاتهامات الجزافية التي تفتح علينا أبواب جهنم. وهذا الاقتراح له سند من دستور 1971 الذي استبعد التمييز بين المصريين وجعل كل اعتداء على الحرية الشخصية أو الحياة الخاصة أو الحريات العامة جريمة لا تسقط بالتقادم. ان المجتمعات الحيوية هي التي تعالج أخطاءها في حركة متدفقة إلى الأمام نحو التغير والتقدم ولا تعالج أخطاءها بمزيد من الخطايا.

Email