مع الناس:بقلم- عبدالحميد أحمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

مشهد هيكل عظمي يجلس بوقار على أريكة في وضع يوحي بالاطمئنان والدعة وأمامه شاشة تلفزيون تذيع أخبار العالم وبرامج الطبخ والأزياء والعلوم وعلى مقربة منه طاولة صغيرة عليها مجلة فرغ هذا الهيكل للتو من تقليب صفحاتها , ربما لا نراه أو نتصوره إلا في لوحة سريالية لواحد من الرسامين المشاهير كسلفادور دالي, لولا أن هذا المشهد من الواقع وليس من الخيال, ومأساوي وليس فنيا, وطبيعي تماماً وليس رسماً في لوحة. أما الهيكل فيعود إلى مواطن ألماني سمته أمه ذات يوم عند ولادتها له بجورديان, عثر عليه مؤخرا في شقته بمدينة هامبورج, كان ساعي البريد الذي يقوم بتوصيل الرسائل إليها كل يوم قد اشتكى من اكتظاظ صندوق الرسائل وعدم تمكنه من وضع المزيد, فأبلغ الشرطة التي بادرت بتحطيم الباب لتجد جورديان يشاهد التلفزيون, ولكن بعد أن صار هيكلاً عظمياً. ومن مجلة الاذاعة والتلفزيون التي تحمل تاريخ صدورها اكتشفت الشرطة تاريخ وفاة جورديان قبل خمس سنوات, دون ان يكتشف أحد ذلك, حيث يعيش وحيداً ومن الذين يتلقون معاشهم الشهري عن طريق البنك ويقوم البنك بدفع فواتيره وإلتزاماته شهرياً بطريقة أوتوماتيكية, فمات في صالون بيته لينتهي بعد خمس سنوات في مشهد أغرب من الخيال. ويستطيع فنان تشكيلي اليوم أن يضيف إلى المشهد بعض التوابل الفنتازية, كأن يضع قبعة على جمجمة الهيكل, أو يضع على عينيه نظارة طبية, أو يلف عنقه بربطة بابيون للسهرة, أو يضع في فمه سيجاراً كوبياً, لولا ان اية إضافة من هذا النوع تفسد المشهد الأصلي, حيث ينتهي إنسان في نهاية القرن العشرين ويتحلل جسده ويتحول إلى هيكل عظمي من دون أن يشعر به أحد أو يعرف عن ذلك أحد, فيكون حقاً أكثر لوحة سوريالية تعبيراً عن المأساة والغرابة. وغير بعيد من هامبورج, ماتت شابة مغربية في باريس جوعاً في شقة من شقق ذوي الدخل المحدود حيث كانت تعيش وحيدة مع شقيقتها الكبرى, نقلت هذه بدورها إلى المستشفى في حالة إعياء بسبب نقص التغذية منذ عدة أيام, فتم انقاذها, فيما فارقت الشابة الحياة, بعد ان علقت على باب شقتها لافتة: الرجاء عدم الازعاج. وهكذا فالمغربية في باريس لم تزعج أحداً حقاً لا في حياتها ولا بموتها جوعاً, حتى ان جارة لهما تسكن في الطابق العلوي لشقتهما تأسفت لحدوث مأساة من هذا النوع تحت بيتها مباشرة دون أن تشعر بمعاناة جارتيها, فتشكر هذه الجارة أيضا, لأنه لا يزال هناك من يستطيع أن يتأسف وأن يشعر بالأسى. طبعاً أخبار وفيات من هذا النوع في الغرب لا تتوقف, فمن موت مشرد على رصيف مقابل لأحد مستشفيات باريس الكبرى من موجة البرد الشديد إلى موت آخرين من المشردين بلا مأوى وجوعاً ومرضاً على أرصفة موسكو أو واشنطن أو برلين وعلى مقربة من فنادق خمسة نجوم أو مطاعم فخمة أو ملاهٍ ليلية, ثمة مشاهد متكررة لمأساة الانسان في القرن العشرين, يبقى منها مشهد الهيكل العظمي الذي يشاهد التلفزيون, عالقاً في الذهن بوصفه مشهد خراب الروح, لا موت الجسد وحده, كل هذا وسادة العالم يعلقون لافتة: الرجاء عدم الازعاج

Email