المبالغة في التغيير وآثارها الضارة:بقلم- د. تيسير الناشف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ان احد الافتراضات التي يقبلها عدد من المفكرين في العالم, وخصوصا في الغرب هو ان الحضارة الغربية المعاصرة عالمية وان تغير الظروف ــ الذي يصفونه بأنه جذري ــ نتيجة لوجوه التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حقق في العقود الماضية جعل تراث ما قبل العهد الصناعي لجميع الشعوب غير الاوروبية باليا. غير ان هذا الافتراض خاطىء وسنعمد في هذا المقال الى محاولة اثبات خطأ هذا الافتراض. للحضارة تعاريف مختلفة واحد هذه التعاريف هو ان الحضارة (طريقة العيش) ووفقا لهذا التعريف فان الحضارة الغربية الحاضرة ليست عالمية, اذ توجد شعوب لها طرق مختلفة للعيش, اي لها حضارات اخرى. ولكل حضارة جوانب مختلفة. وتوجد حضارات لها جوانب متشابهة وجوانب مختلفة. ولحضارات معينة جوانب اكثر عالمية من جوانب اخرى. فالجانب التكنولوجي للحضارة الغربية اكثر عالمية, والسبب الرئيسي في ذلك هو ان العنصر القيمي الذاتي في ذلك الجانب اقل وبالتالي فان تبني او تمثل الشعوب غير الغربية لذلك الجانب اكبر واكثر سهولة. ومن نافلة القول ان عالمية جانب من جوانب حضارة واحدة لا تعني عالمية تلك الحضارة برمتها. فالكشوف الغربية في مجالات التكنولوجيا والعلوم الطبيعية ليس سوى جزء من الحضارة الغربية. وثمة جوانب للحضارة الغربية لا تشكل جوانب لحضارات اخرى. ومن جوانب الحضارة الغربية الافراط في التأكيد الموضوع في الغرب ــ وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية ــ على قيمة التغيير والشباب والجدة باعتبار الغرب لها الشيء الحسن الاعلى النهائي والاهمال او الاحتقار الموازي لكل شيء قديم (بما في ذلك الناس المسنون) وللماضي والتقاليد. هذه النظرة الثقافية الغربية ليست عالمية. الافراط في التغيير ليس قيمة علامية. فلسفة المبالغة في التغيير وفي الدعوة الى التغيير ليست فلسفة عالمية فللشعوب من ثقافات وحضارات اخرى نظرة الى قيمة التغيير والجدة والى القديم تختلف عن هذه النظرة وعلى الرغم من ادراك شعوب ذات ثقافات اخرى لقيمة التغيير والجدة والشباب ومن ادراك وجود عيوب في بعض التقاليد التي خلفها الماضي فإننا لا نجد في تلك الثقافات ذلك الافراط في التأكيد الذي نجده في الثقافة الغربية. وموضوعيا ليس كل تغيير بالضرورة تحسينا على طريق التقدم, وليس الاجد بالضرورة افضل من الاقدم, وليست محاولة الدفاع عن معايير اقدم تعني التراجع الى وجود مقلص, وللظروف والاعتبارات الموضوعية. والذاتية للشعوب اثرها في تحديد مواقفها الثقافية من قيمة الجديد والقديم. فموضوعيا للماضي لدى الشعب العربي وشعوب أخرى غير غربية أهمية ثقافية أكبر من الأهمية التي يتمتع بها الماضي في الغرب. وذاتيا للماضي والتقاليد العربية مكان أكبر في تشكيل الشخصية العربية سواء كانت متجسدة في الفرد أو الجماعة, من المكان الذي يشغله الماضي والتقاليد في الغرب. والشعب العربي, على سبيل المثال, لايزال يمر بمرحلة التطور الاجتماعي والقومي الهام في ظروف تختلف عن الظروف التي مرت شعوب اخرى بها. وبالنظر الى اختلاف هذه الظروف فنظرة الشعب العربي الى الماضي والجديد والقديم لابد من ان تكون مختلفة عن نظرة شعوب مرت بهذه المرحلة. ويؤدي التغيير وظائف مختلفة, واحدى هذه الوظائف ايجاد الظروف التي تسهم في تحقيق الأهداف الطيبة للفرد والجماعة والمجتمع ونقل المجتمعات البشرية الى الحالة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يمكن فيها تحقيق التحسين الاجتماعي والاقتصادي. أحد جوانب الحداثة ــ كما نفهمها ـ هو تحقيق هذا التحسين. ونعتبر الموقف القابل للتغيير مقياسا من مقاييس الحداثة اذا كان غرض ذلك التغيير تحقيق ذلك التحسين. نرى ان مهمة التغيير تحقيق الحداثة اذا اعتبرنا ان هدف الحداثة هو تحقيق التحسين الاجتماعي والاقتصادي. وبالنظر الى النتائج الوخيمة المترتبة على المبالغة أو الافراط في التغيير فإن من الخطأ الجسيم اعتبار ذلك الافراط واعتبار الافراط في التجديد واعتبار احتقار القديم واحتقار التقاليد لمجرد انه تجديد وقديم ولمجرد انها تقاليد مقياسا من مقاييس الحداثة. بالافراط في التغيير يجري تجاوز التحسين الى ما هو غير ذلك, وذلك لأن الافراط ـ وهو ما نشهده في الغرب اليوم ــ يتضمن تجاوز ما يتطلبه موضوعيا السياق القائم. بالافراط في التغيير يجري تجاوز الحدود البنيوية للتغيير المتوخى. بذلك الافراط لا يعود الفكر يخدم الهدف المتوخى, وتنقطع الصيغ الفكرية عن الهدف المتوخى, وقد تحدث الفوضى الفكرية أو التحلل الفكري الاجتماعي. وبالافراط في التغيير يمكن ان يتحقق ما هو مناف للهدف المتوخى. ليس من المضمون مطلقا ان تضمن الصيغ أو البنى الفكرية المنقطعة عن سياق الهدف المتوخى تحقيق ذلك الهدف. واشاعة وتبني مثل هذه البنى الفكرية يمكن ويحتمل احتمالا كبيرا ان يكونا مسببين للتعاسة البشرية أو لاحتضان فلسفات لا تؤدي الى تحسين ظروف الحياة ولكن تؤدي الى الضباب الفكري أو الأوهام الفكرية. والافراط في الاسراع بالتغيير يجعل طول علاقة الانسان بالاشياء وبالبيئتين الاجتماعية والطبيعية اللتين حوله قصيرا. وهذا الافراط يفقد الحس بالدوام بين الانسان وما حوله, وبين الانسان والانسان في الغرب, وبين الانسان وماضيه وتراثه. وبروح هذا الافراط تشيع في الغرب ثقافة نبذ الاشياء أو طرحها, ويشيع اقتصاد نبذ وطرح الاشياء والتراث والماضي والحاضر وربما حتى المستقبل. وفي ظل ثقافة الافراط في التغيير يتعلم الطفل بسرعة ان البيت مجرد آلة للمعالجة: في تلك الآلة تتدفق الاشياء ومنها الانسان وتدخل وتخرج بمعدل أكبر من السرعة. في الغرب ذي الثقافة هذه قد يزداد عدد الناس الذين يتصل الفرد بهم ولكن مدة هذا الاتصال قصيرة. ذلك كله يبين ان الافراط في التغيير يؤدي الى التحلل الاجتماعي والقيمي والى تدمير الروابط الانسانية. في هذا السياق, سياق موقف الغرب من التغيير والجدة والقديم, الحضارة الغربية, كما اسلفنا, ليست عالمية, موقف الغرب من التغيير والجدة والقديم تابع من الخلفية المعرفية الثقافية التاريخية الغربية المختلفة كما هو معلوم عن خلفيات شعوب المناطق الاخرى, كما ان تلك الخلفية الغربية اوجدت دوافع سياسية واقتصادية تروج لهذا الموقف, ولم توجد الخلفية غير الغربية, التي تختلف عن الاولى, دوافع مماثلة, والشعوب غير الغربية يمكنها ان تحقق معايير الحداثة دون ان تتبنى الموقف الغربي المتخذ من القديم والماضي والتقاليد والجديد والتغيير, وهو الموقف المتسم بالمبالغة في التغيير وفي استحسانه وفي احتقار ومعاداة الماضي والتقاليد والقديم. وللمجتمع مصادر سلطة مختلفة وتوجد مراجع مختلفة للقضايا البشرية, وعندما يقوض نتيجة للمبالغة في التغيير, مركز الماضي باعتباره احد مصادر سلطة المجتمع, تقويضا مفاجئا وجذريا جدا, وعندما يكف الماضي عن كونه احد المراجع الموثوق بها للقضايا البشرية يبدأ اساس هام مكن اسس صحة الانسان بالانهيار لما يحمله الماضي من بعض الرموز والمعاني ذات الاهمية لسلامة المجتمع وللحفاظ على توازنه وتماسكه. ويتضمن الماضي قيما روحية واجتماعية وحضارية طيبة تسهم في التماسك الاجتماعي, والانقطاع السريع المفاجىء عن الماضي نتيجة الافراط في التغيير من شأنه ان يؤدي الى ضياع تلك القيم, مما يؤدي الى اضعاف التماسك الاجتماعي, ومما قد يؤدي الى الانحلال الاجتماعي والثقافي والخلقي. وبالنظر الى ان الشعوب العربية ــ شأنها شأن سائر الشعوب النامية ــ تمر بمرحلة التطور الاجتماعي والاقتصادي وبمرحلة بلورة الانتماء القومي فان من المعقول القول ان من اللازم ان تكون لقيم روحية وثقافية وحضارية مستمدة من ماضيها اهمية كبيرة في حياتها, فبالمحافظة على تلك القيم يجرى التعويض عن القيم التي تفقدها تلك الشعوب من جراء عملية التغير التي تنطوي على فقدان بعض القيم, وبالتالي فان المبالغة في التغيير ــ التي تسهم في فقدان التماسك الاجتماعي ــ تشكل ضربة قوية لهذه الشعوب. ويبين تعريف الحضارة الذي سقناه سابقا العلاقة العضوية بين الحضارة, من ناحية, والماضي والتراث والعادات والتقاليد, ان مفهوم التغيير المعجل به وغير المقيد باعتباره الشيء الافضل هو الذريعة التي يتعلل بها لتبرير محاولة التدمير التام والعشوائي للحضارات غير الغربية ولتبرير محاولة الارساء العام للسيطرة الثقافية الغربية.

Email