ثورة نوفمبر.. الذكرى والعبرة: بقلم الدكتور- محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان وهما وكان حلما بعيدا..ان نناجيك يا نوفمبر عيدا هذا ما قاله الشاعر في ثورة نوفمبر المجيدة, الثورة التي تحدت الاستعمار الفرنسي وحلف الناتو وانهت 132 سنة من الاستعمار والبطش والنهب والظلم , 132 سنة رأى خلالها الشعب الجزائري الشجاع أبشع صور التنكيل والتعذيب والنهب والبطش والسرقة والاغتصاب والتجهيل والاستيطان. أين هي الجزائر اليوم بعد 44 سنة من اندلاع الثورة المباركة؟ ما هي الدروس وما هي العبر؟ لماذا نجحت الثورة رغم تعنت الاستعمار الفرنسي وحلف الناتو؟ وما هي نقاط قوة هذه الثورة التي اصبحت قدوة لكل الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) في جميع بقاع العالم واصبحت قبلة الثوار والحركات التحررية في العالم؟ يستحضرني موقف بقي عالقا في ذهني عند الكلام عن ثورة نوفمبر المجيدة وهو موقف سيدة عجوز تتجاوز السبعين سنة لقيتها عندما دعاني ابنها لتناول الغداء معه في بيته بابوظبي وبعد ان انهينا الاكل وتناول الشاي جاءت الوالدة العجوز لتسلم عليّ, فوقفت وبادلتها التحية, وعندما علمت انني من الجزائر قالت لي (أهلا وسهلا بك يا ابن ارض المليون ونصف المليون شهيدا, انه لشرف عظيم لنا ان تخطو بيتنا) واردفت قائلة والدموع تكاد تنهمر من عينيها (لقد تبرعت بمجوهراتي وكل ما املكه لتدعيم الثورة الجزائرية والشعب الجزائري الشجاع اثناء ثورة التحرير المجيدة, ولقد زغردت ورقصت عندما سمعت ان الجزائر استقلت وقهرت فرنسا والحلف الاطلسي) . هذا الموقف بقي عالقا في ذهني وكم أثر في لعدة اسباب واعتبارات: موقف والدة صديقي يوحي لنا بتضامن الشعب العربي ووفائه للاخلاص والحق والعدالة, وانه شعب لا تفرقه الحدود والا الحواجز الجغرافية. ان الشعوب العربية يجري في عروقها دم الوحدة والتضامن والتحالف والمحبة, ولو رجعت الامور للشعوب العربية لما بقيت الحدود ولا الحواجز ولا القيود ولاصبح العالم العربي دولة واحدة موحدة. الموقف الثاني الذي بقي عالقا في ذهني هو وأنا اقوم بزيارة لامارة الفجيرة اكتشفت لوحة اعلانية كبيرة في مدخل مدينة كلباء تحمل اعلانا عن مدرسة بالمدينة باسم المجاهدة الجزائرية الشهيرة (جميلة بوحيرد) , قد يظهر هذا الموقف بسيطا وعاديا لأي اماراتي او اي مواطن عربي اما بالنسبة لي انا كجزائري فانه يحمل اكثر من معنى ومغزى, والسبب الرئيسي في هذا هو ان شعبية جميلة بوحيرد اكبر بكثير في دول المشرق ودول الخليج منها في الجزائر, وفي مسقط رأس جميلة بوحيرد ببلدية الحوانة ولاية جيجل وهذا في حد ذاته يعني الكثير والكثير. تحتفل الجزائر بالذكرى الــ44 لثورة نوفمبر المجيدة وهي تمر بظروف صعبة وبأزمة طال امدها, ظروف الجزائر في السنوات الاخيرة تعكس تناقضات ومشاكل تراكمت على مدى سنوات, ما هي العبر التي تستطيع الجزائر ان تستخلصها من ثورة نوفمبر لتعود اليها لعلها تستفيد منها في حل خيوط ازمتها الحالية؟ وهل يعقل لبلد مثل الجزائر التي انجبت بوعمامة والشيخ المقراني والامير عبدالقادر والامير خالد ومصالي الحاج والعقيد عميروش وعبان رمضان ومصطفى بن بولعيد وديوش مراد وزيغود يوسف والعربي بن مهيدي وفرحات عباس وهواري بوميدين ومحمد الصديق بن يحيى والقائمة مازالت طويلة, هل يعقل لهذا البلد ان يكون مصيره هذه الازمة التي يتخبط فيها؟ وقفتنا امام ثورة نوفمبر المجيدة تبعث فينا هذه العبر وهذه الدروس لعلها تفيد الجزائر اليوم للخروج من محنتها وهي تحتفل بالذكرى الـ44 لثورة الفاتح من نوفمبر: 1ــ استطاعت ثورة نوفمبر ان توحد الصفوف واستطاعت ان توحد مختلف التيارات السياسية الموجودة على الساحة من اقصى اليسار الى اقصى اليمين مرورا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. الكل نسي اتجاهاته الحزبية الضيقة وراح يفكر في المصلحة الوطنية, المصلحة العامة, الاستقلال الوطني, وهكذا اتحدت كل التيارات وانصهرت في بوتقة واحدة اسمها (حزب جبهة التحرير الوطني) التي لم تفرق بين الشرائح المختلفة للمجتمع والتي ضمت في صفوفها الغني والفقير والطبيب والفلاح وابن الريف وابن المدينة, كانت ثورة شعبية بالمعنى الكامل للكلمة. 2ــ اكد الشعب الجزائري للعالم بأسره انه شعب يتسم بالوحدة والتضامن والمحبة والتضحية بالنفس والنفيس من اجل سيادته وكرامته ومروءته ورجولته, وهكذا تنافس الجزائريون وتسابقوا للانضمام لصفوف جيش التحرير الوطني وصفوف جبهة التحرير الوطني للدفاع عن العرض والشرف وتحقيق الاستقلال الوطني. وهكذا انضمت مختلف شرائح المجتمع الجزائري الى جبهة القتال من فلاحين وتجار وعمال وطلاب ونساء وغيرهم. 3 ـ برهنت ثورة نوفمبر للعالم الخارجي انها ثورة تحترم كل ما تحمله الكلمة من معنى وليست فرقعة او مظاهرة او محاولة انقلاب على الاوضاع يقودها بعض الارهابيين او بعض قطاع الطرق. ثورة نوفمبر كانت لها ابعاد اسلامية وعربية وابعاد افريقية وابعاد دولية, ثورة نوفمبر اتسمت بالتخطيط والبرمجة والطرح المحلي والاقليمي والدولي. 4 ـ ثورة نوفمبر اعطت قدوة ومثالا للحركات التحريرية في العالم الثالث وفتحت الباب على مصراعيه للكثير من الثورات الاستقلالية في افريقيا واسيا لخوض غمار الكفاح المسلح كوسيلة لتحقيق الاستقلال والسلام والاحترام. 5ــ اكدت ثورة نوفمبر انها ثورة شاملة وكاملة لم تترك أي شيء للصدفة او للحظ ولذلك فانها اهتمت بمختلف الجوانب: عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا واعلاميا. وهكذا وبعد سنتين من اندلاع الثورة اجتمع قادتها في افري بضاحية مدينة بجاية وعقدوا مؤتمر (الصومام) التاريخي حيث وضعوا التنظيم التكتيكي والعسكري والسياسي والاعلامي لثورة نوفمبر. ويرجع نجاح الثورة بالدرجة الاولى الى تنظيمها المحكم على جميع الاصعدة وفي مختلف المجالات, الامر الذي جعلها تقهر الاستعمار الغاشم وقوته الكبيرة في العدد والعدة. 6 ــ استطاعت ثورة نوفمبر ان تجند بادىء ذي بدء الشعب الجزائري وان تواجه استعمارا استيطانيا كان من اخطر انواع الاستعمار في القرن العشرين, استعمارا كان يهدف الى القضاء على كل شيء اسمه الجزائر ثقافة وحضارة وتاريخا ولغة ودينا. ثورة نوفمبر استطاعت ان تمحي 132 سنة من الاستيطان, من الاستعمار رغم قلة الامكانيات على مختلف الاصعدة وفي مختلف المجالات, لكن رغم كل هذا ورغم مختلف الفوارق والتناقضات المتواجدة في المجتمع الجزائري استطاعت الثورة أن توحد الشعب وراء هدف سلمي وغال هو الاستقلال وتقرير المصير وهذا ما حدث. 7ــ استطاعت الثورة على الصعيد العربي ان تكسب ثقة الدول العربية بأسرها, ليس هذا فقط وانما استطاعت ان تكسب عطف ومحبة ومساندة الشعوب في هذه الدول العربية التي وقفت مع الثورة الجزائرية قلبا وقالبا حيث قدمت يد المساعدة ماديا ومعنويا. 8 ــ بعد سنة من اندلاع ثورة نوفمبر وقفت دول عدم الانحياز من افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية وجميع دول العالم مساندة ومباركة للثورة وهذا يعتبر انتصارا دبلوماسيا كبيرا, حيث فتح الباب على مصراعيه للنشاط الدبلوماسي للثورة. 9ــ على صعيد القارة السمراء والدول الافريقية استطاعت الثورة ان تكسب الرأي العام الافريقي وجلبت إلى جانبها معظم الحركات التحررية والدول التي حصل عدد كبير منها على الاستقلال بفضل الاعتبار الذي اعادته لها ثورة نوفمبر الخالدة. 10ــ اعطت ثورة نوفمبر المجيدة اعتبارا كبيرا للشعوب المستضعفة والشعوب المستعمرة (بفتح الميم) ودول العالم الثالث والحركات التحررية حيث اصبحت المحافل الدولية والهيئات والمنظمات الدولية والقارية والاقليمية والجهوية تعتني وتهتم اكثر واكثر بالشعوب المستضعفة واصبحت هذه الشعوب تجد فضاء لها في اجندة هذه المؤسسات, كما اصبحت الشعوب الفقيرة والمستعمرات تأخذ من ثورة نوفمبر قدوة لقهر الاستعمار ولقهر مختلف القوى التي تعمل على طمس هوية الشعوب ونهب ثرواتها وخيراتها. والجزائر اليوم تحتفل بالذكرى الــ 44 لثورة نوفمبر الغراء ما هي الدروس وما هي العبر؟ والعبرة هنا تكمن في التخلي عن الحقد والضغينة وتستوجب التحالف والتضامن من اجل الامن والاستقرار والطمأنينة وكما قال سليمان عميرات احد السياسيين الجزائريين رحمه الله لو خيروني بين الجزائر والديمقراطية لاخترت الجزائر, والجزائر وشعبها برهنوا للعالم بأسره في العديد من المرات عن المبادىء والقيم اقليميا وعربيا ودوليا وكم من مرة لعبت الدبلوماسية الجزائرية دورا استراتيجيا في حل نزاعات كادت أن تؤدي إلى فتن وحروب لا تحمد عقباها. لقد حان الوقت اذا لوقفه مع الذات وكفى سيل الدماء وكفى المجازر والجرائم المتتالية ولقد حان الوقت للتخلي عن الحزبية الضيقة وعن الانانية المتطرفة وعن الوصول إلى السلطة بأية وسيلة, لقد حان الوقت كما في نوفمبر 1954 للتفكير في جزائر واحدة موحدة وحان الوقت لتوظيف خيرات الجزائر وطاقاتها واطاراتها للخروج من المحنة وتحدي المشاكل الداخلية وكل من يتربص بالجزائر ويريدها ممزقة دامية راكعة على رجليها, لقد جاءت الفرصة ملائمة خاصة وان الانتخابات الرئاسية على الابواب لاختيار شخصية وطنية, شخصية الوئام الوطني والتحالف الوطني كرئيس جديد للجزائر يلم الشمل ويبرهن للعالم اجمع ان مبادىء ثورة نوفمبر مازالت تجري دماؤها في عروق الشعب الجزائري ومازال هذا الشعب قادرا على تحدي الازمات والصعاب فالشعب الذي قهر الاستعمار الفرنسي بالامس سيقهر الارهاب وكل القوى الغاشمة التي تحاول التربص به وبالجزائر اليوم. جامعة البيان قسم الاتصال الجماهيري

Email