على ضفاف النيل مع: الأعمى الذي رأى كل شيء: بقلم- د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

على كثرة الذين قرأت لهم وتأثرت بهم, لم أتمن ان أقابل أحدا منهم كما تمنيت ان أقابل طه حسين, لقد تقاطعت بنا الطرق ذات مرة, حين كنت طالبا صغيرا للعلم في مدينة القاهرة وكان هو مازال طودا شامخا برغم سنواته الأخيرة , وكانت كلماته عن جعل التعليم كالماء والهواء تأخذ مجالها في حيز التنفيذ, ولم تكن الظروف تسمح بمقابلة الطالب الصغير للعميد الكبير, وبعد ذلك بسنوات حين عدت الى القاهرة كان قد رحل وسط خضم معارك حرب اكتوبر عام 1973 وكتب عنه صديقه اللدود توفيق الحكيم (لقد غادرت روحه الحياة بعد ان غادر اليأس روح مصر) . وبرغم ذلك ظللت أعتقد دوما انني سوف أقابله, وبهذا الاعتقاد سعيت منذ أيام قلائل الى الاحتفالية التي عقدت في القاهرة بدعوة من المجلس الأعلى للثقافة بمصر وكنت أدرك بحس خفي انه يرانا رغم الغياب. أجل.. طه حسين بصير وان فقد البصر. كانت هذه هي المداخلة الممتعة التي طرحها الصديق الناقد السعودي المتميز عبدالله الغذامي التي دلل فيها الكاتب على ما كتب طه حسين انه كان يكتب كي يستعيض القارىء بنعمة السمع على نعمة البصر, ولكن طه حسين بالنسبة لي بصير لعدة أسباب فوق ذلك, فقد حدثني الاستاذ المرحوم عبدالعزيز حسين, وهو من هو في رعاية وقيادة العمل الثقافي في الكويت, انه وقد كان مديرا للمعارف في مطلع الخمسينات قد طلب من الحكومة المصرية اعارة بعض المدرسين لمدارس الكويت, فكان ان أشار وكيل الوزارة آنذاك على الطلب بألا فائض من المدرسين لاعارته للخارج, ولكن طه حسين قلب التأشيرة السلبية وقرر ايفاد ثلاثة من أفضل مدرسي الوزارة. وحين ذكره الوكيل ان الكويت بلد حديث لا أحد يعرف عنه شيئا قال طه حسين: من أجل هذا يجب ان نرسل لهم الأفضل. الفكرة بسيطة ولكنها واضحة, فهي بمنزلة تأكيد آخر على سياسته ضرورة جعل التعليم كالماء والهواء للانسان, ليس للانسان المصري فقط, ولكن العربي ايضا, ولو كان بعيدا ــ بمعايير ذلك العصر ــ هناك في الخليج. والمفاجأة ان الكثيرين في ذلك المنتدى عن طه حسين في ذكرى وفاته الخامسة والعشرين لم يعرفوا عن تلك الواقعة, لفقد حافظها عبدالعزيز حسين, وهاأنذا أضعها لأول مرة على الورق وفاء للاثنين معا. تبين في الندوة ان ليس ثمة طه حسين واحدا, فهناك اجتهادات لطه حسين تتغير بتغير الزمن وبتغير الخبرات, فقد كان في بداية حياته منبهرا بالثقافة الغربية على وجه الخصوص, خاصة في السنوات الأولى بعد عودته من فرنسا التي اعتبرها في وقت ما هي عنوان الثقافة العالمية وكان يرى ان السبيل الوحيد للنهضة العربية هو تعلم اللغة الاغريقية واللاتينية لأن الغرب حين درسوها بدأت نهضتهم, ثم ما لبث ان أعاد قراءة التراث العربي الاسلامي واكتشف كنوزه ولكن باحساس المتشكك الذي يبغي ان يطرح كل شيء للبحث والنقاش وقاده هذا الى محاولة وضع صياغة جديدة للأدب العربي هي تكوين جديد بين الماضي والحاضر, صياغة محدثة ومجددة. ولكنه ككل مجدد وقع بين نارين, نار التقليد البحت, ونار التجديد المطلق, وعندما اشتد عليه الامر بين تلك النيران كتب يقول: أنا رجل وقعت بين كرسيين, ويقصد هجوم بعض الازهريين عليه حيث خلع العمامة مجازا ولبس الطربوش, وهجوم الشباب عليه الذي صنفه من ضمن المحافظين خاصة بعد ان صدر كتاب نظرات في الثقافة المصرية الذي كتبه (محمود أمين العالم, وعبدالعظيم أنيس) في نقد منهجه وافكاره. وككل رائد احتمل طه حسين الهجوم من الجانبين, فقد كتب طه حسين كتابيه (في الشعر الجاهلي) و(مستقبل الثقافة في مصر) فبدا للمحافظين بأنه ارتكب اثما كبيرا في حق الثقافة التقليدية, ومازال مع الأسف بعض من يقرأ العناوين فقط يرى ذلك ويحصره في الغالب في الكتابين, فعندما يذكر طه حسين يتبادر الى أذهانهم توا انه صاحب الحداثة والداعي للاغتراب, وأول من زرع الشك في التراث العربي خاصة الجاهلي منه, وأول من اتهمه بالانتحال وأول من تحدث عن الحدود الفاصلة بين الاسطورة والحقيقة الدينية, وأول من سعى بكل جهده الى تبني الافكار الغربية, وأول من ذكر كلمات مثل العلمانية وتحدث عن ثورات العبيد في التاريخ الاسلامي وأهم من ذلك انه أول من طرح على نطاق عملي فكرة (التنوير) , (تبني الافكار الغربية) . فالمؤرخون الحداثيون لطه حسين يقرون في قراءة عجلى بأنه صاحب التنوير انطلاقا من بعض ما كتب ــ وقد أشرنا الى بعضه ــ ولكنه كتب ايضا بين سنتي 1949 و1960 (الفتنة الكبرى) في جزأين أرخ فيهما للعصر الجاهلي الاسلامي الأول, كما كتب في ثلاثة أجزاء في آخر سني حياته مؤرخا للأدب العربي من العصر الجاهلي الى العصر العباسي, فينظر الحداثيون في ذلك وغيره عنوانا على محافظة لطه حسين. طه حسين في الحقيقة مثله مثل أي كاتب ومبدع يستجيب لأحداث عصره ويكتب مدللا على أحداث المجتمع ـ مستجيبا أو رائدا في بعض الأوقات ــ لحاجات في المجتمع الذي يعيش فيه, مثله مثل أي رائد آخر يستطيع ان يكون طليعيا فيما يطرح ولكنه لا يستطيع ان يكون منفصلا عن مجتمعه, لذا فإن قراءة نتاج طه حسين الفكري والادبي يجب ألا تتم خارج مكونات هذا العصر. ورحلة طه حسين مع التراث العربي هي رحلة استكشاف طويلة, أخذت الشطر الأكبر من عمره ومات قبل ان يتم كل ما كان يطمح اليه, فقد كان على سبيل المثال يريد ان يكتب الجزء الثالث من (الفتنة الكبرى) ولعل هذا الكتاب كان سيلقي الكثير من الضوء على الفرقة العربية والاسلامية التي مازلنا نعيشها حتى الآن, كما انه غاص في الحياة الأدبية في صدر الاسلام وذلك من خلال كتابه (حديث الاربعاء) الذي أعاد الى الحياة كوكبة من الشعراء والعشاق والصعاليك أصبحت فيما بعد مادة خصبة للعديد من الكتابات والأعمال الدرامية. ثم تطرق الى السيرة النبوية وكان هذا الأمر هو دأب العديد من الكتاب الذين عاصروه مثل محمد حسنين هيكل وتوفيق الحكيم ولكنه تناول هذه السيرة من زاويته الخاصة حين ركز على الحياة العربية بمختلف صورها في اللحظة التي سبقت ميلاد الرسول الكريم, ثم اختار ان يترجم لأول الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق, اما قصته الشهيرة (الوعد الحق) والتي تناول فيها عذابات عمار بن ياسر في صدر الدعوة الاسلامية, فقد تحولت الى فيلم سينمائي شهير بعنوان (ظهور الاسلام) كان المتفرجون في بعض البلاد الاسلامية يخلعون الاحذية قل ان يدخلوا الى دور السينما ليشاهدوه. طه حسين حداثي في شيء ومحافظ في شيء آخر, ويجوز عليه ما يجوز على كبار المفكرين من نقد ايجابي أو سلبي الا ان قراءته اليوم تعطينا أكثر من زاوية للتفكير العميق في شخصه وأعماله. أولى هذه الزوايا انه قدم للثقافة العربية منهجا سماه البعض (منهج عقلاني) اكتشف فيه, وهذا هو الأهم, المدرسة العقلانية العربية الاسلامية التاريخية السابقة, والتي كادت ان تندثر تحت ركام هائل من القدرية, وبالرغم من انه قد اشتق جذور هذه المدرسة أو بالاحرى آلياتها من مفردات الشك الديكارتي في المدرسة العقلانية الغربية التي وجد نفسه في أحضانها طالبا للعلم في بلد النور ــ وقتها فرنسا ــ في الربع الأول من القرن العشرين, ولكنه اختار ان يؤكد جذور هذه العقلانية التاريخية في الفكر العربي الاسلامي, فبحث عن ابن خلدون واخرجه للعربية كامارة متقدمة للعقلانية في تفسير التاريخ, واتخذه موضوعا لرسالته في الدكتوراه, وفي ذلك اشارة لشغف هذا الرجل الكفيف ولوذه بالمكتسبات العقلية للمتقدمين. أما ثاني هذه الزوايا في طه حسين والتي شغلت بالي شخصيا ــ وربما آخرين ــ فهي كيف تسنى لهذا الرجل الذي فقد بصره وهو طفل صغير ان يقوم بما قام به من تأليف كثيف في موضوعات جادة شغلت الناس وأثارت النقاد الى يومنا هذا, ليس على صعيد المهتمين بالثقافة العربية من العرب فقط بل من كبار النقاد في العالم, لقد كسر هذا الكفيف حاجز الجغرافيا فأسقطها من طريقه وشقه الى العالمية بسهولة ويسر دون أن يكتب بكثافة بلغة أخرى, لقد حطم هذا الحاجز شخص مثل ادوارد سعيد, ولكن ادوارد مبصر اولا وثانيا كتب في أغلب مساهماته النقدية بلغتهم فسهل عليهم فهمه. وتتجلى بصيرة طه حسين الأخاذة في اقتحامه الدائم ميادين لا يراها حتى المبصرون, فقد اهتم بالمسرح الى حد كبير, وترجم عن اليونانية مسرحيات سوفكليس, ولم يكتف بذلك ولكن يبدو انه كان زبونا دائما على عروض المسرح الفرنسي, واحتفظ في ذاكرته بالعديد من حكايات هذه العروض نشرها جميعها في كتاب كبير هو (من هناك) كان يريد من خلاله رفع قيمة الفن المسرحي العربي, كما انه احترف كتابة الرواية وهو فن يحتاج الى ذاكرة بصرية قوية يحرك فيها شخصياته عبر جغرافيا المكان, وما زالت (دعاء الكروان) واحدة من أفضل تجارب اختراق الظلام ومحاولة تشكيل الواقع, بل ان بصيرته النافذة امتدت ايضا الى الفنون التشكيلية وانشاء أول محترف لهذا الفن في مصر في احد القصور الرائعة على النيل هو قصر (المنسترلي) وكذلك اتخذ لنفسه مقرا مؤقتا وسط آثار مصر القديمة في تل العمارنة وكان ينهض كل صباح يزور قبور الفراعنة الذين صنعوا أول ثورة عقلية في التاريخ المصري حين نادوا بالتوحيد, لقد أبصر كل هذه الأشياء وعاش معها وكتب عنها وبدا أحيانا كأن العمى ستار أسود شفيف يجعله يرى العالم برهافة أكثر ودون ألوان فاقعة. أما ثالثة الأثافي فهي ان طه حسين ربما كان محظوظا في تكوينه الأول فلم يكن عصره عصرا متمذهبا, ان قيمة طه حسين الفكرية التي سوف تبقى في نظري للتاريخ ولفترة طويلة في تاريخنا الثقافي العربي انه لم يكن متمذهبا, فالتمذهب والادلجة هي مضادة بطبعها للعلم, فالأخير حر والأولى مقيدة وحبيسة السياسة, يعيب التمذهب انه لايقبل الاختلاف ويعيش حبيس فكر واحد, ولم يعش طه حسين بدايته الفكرية ولم يقبل بعد ذلك في نضجه ان يحبس في اطار متمذهب كما عاشه من لحقه من بعض المفكرين العرب, لقد كان رفضه للحبس الفكري كرفضه للحبس المكاني (كونه كفيفا) قويا وواضحا, لذلك عندما تغيرت الأحوال في مصر في الخمسينات ابتعد عن المعارك الثقافية واتجه للتأصيل فيما لا خلاف عليه, خوفا من ان يقاد الى التمذهب الذي قاومه طوال حياته. شهرة طه حسين اصبحت عائقا معرفيا لما كتب وألف من فكر وأدب, فقد انقسم معظم الناس حوله بسبب شهرته الى قسمين, احدهم لم يقرأ له بتوسع, فقد سمع عن بعض نصوصه فرفضها وصنفه على شاكلة, وبعضهم الآخر سمع عن نصوص اخرى فقام بتمجيده وتصنيفه على شاكلة اخرى, دون قراءة مستفيضة وواعية, فوقع الاثنان في خانة ما كان يسميه القدماء بـ (الجهل المركب) وهو الذي عبر عنه بصورة عميقة وعنيفة طه حسين نفسه, حيث جاء التشبيه من ــ كفيف ــ انه وقع بين كرسيين, وما أعقده من موقف انساني. اراد طه حسين ان يدخل مصر ــ ومعها بقية العرب ــ في العصر الحديث, وقد كان لآرائه صدى, وتحول بعضها خاصة في التعليم الى واقع, ولكن هذه الآراء لم تكن كلها بالضرورة صالحة لكل زمان, فقد كانت صيحة (العلم للجميع) صيحة مقبولة في وقتها, ولكنها أصبحت عبئا بعد ذلك, عندما أصبح الكم وقد تجاوز على الكيف في التعليم العربي كافة, لقد وجد هذا الكفيف القادم من ريف مصر العنت من بعض معاصريه, ولم يتركه من بعض من لحق بهم, ولكنه ككل العظام قد ترك لنا تراثا عربيا نفخر به, وهو الالتزام بالعقلانية المتصلة بتراثنا, والبعد عن التمذهب, ويكفيه ذلك.

Email