الخروج من الفضيحة! بقلم- عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من كان منكم بلا خطيئة فليرجم بيل كلينتون بمليون حجر.. ان كلينتون ليس هو الرجل الوحيد الذي أكله الذئب.. أو أكله الجنس.. ليس هو الرجل الوحيد المصاب بالسيكسومونيا .. أو جنون الجنس.. أو سرعة الخضوع لسلطان الجنس الآخر.. أو الرغبة في الايقاع بأي امرأة بمجرد رؤيتها.. فهذا المرض منتشر بين الصغار والكبار.. الحكام والرعايا.. الوزراء والبسطاء.. وتزداد حدة السيكسومونيا كلما امتلك الرجل القوة.. قوة السلطة أو الثروة أو الشهرة.. فالمرأة ضعيفة أمامها. والجنس هو كيمياء البشر لا كيمياء الملائكة.. وهو يلتهم نصف ساعات العمل في الشعوب الفقيرة.. ويلتهم نصف دخلها القومي.. وفي مصر تنفق 15مليار جنيه على المخدرات لأنها توهمنا بقدرات اضافية.. وفي العالم يستثمرون في كل ما يتصل بالجنس 800 مليار دولار.. وتستهلك قضايا مثل الاغتصاب والفياجرا والضعف الجنسي اهتماما أكثر مما تستهلكه قضايا مثل الفقر والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية. ولو حاكمنا الرؤساء والوزراء مثل كلينتون لوجدنا مليون مونيكا لوينسكي.. فغرف النوم الرسمية من زجاج.. ولكن رغم ذلك فالكل مستعد ان يضرب كلينتون.. انه النفاق.. أو المعايير المزدوجة التي اخترعها الأمريكيون في السياسية.. فطبقناها عليهم في الجنس.. وأنا أتمنى ان يحاكم كلينتون كرجل دولة.. لا كبلاي بوي. وقد توقفت عند مقال ساخر نشر في صحيفة باكستانية طالب فيه كاتبه كلينتون بأن يحصل على جنسية بلاده ليخرج من أزمته.. فلو حصل عليها أصبحت مونيكا جارية له.. لا تجرؤ على فتح فمها والا بيعت في سوق الرقيق.. أو لبست قضية ودخلت السجن. ولأن الجنس يسيطر على العالم فإن الذين قرأوا تقرير المحقق المستقل كينيث ستار عن اللقاءات الجنسية بين كلينتون ومونيكا في الاسبوع الأول لنشره ــ على شبكات الانترنت ــ أكثر من الذين قرأوا الكتب المقدسة في السنوات العشر الأخيرة.. ففي كل دقيقة كان يطلبه 400 ألف شخص. والسبب هو ان التقرير يعطي شرعية سياسية لقراءة محرمات جنسية يستحيل على أجهزة الاعلام الاقتراب منها والا وصفت بالعهر والاباحية والاصفرار.. مثل استخدام الفم والتليفون والسيجار في الجنس.. وهو ما لا نجده في كتاب (رجوع الشيخ الى صباه) .. أكثر الكتب الجنسية في تراثنا العربي.. ومن ثم فالتقرير أشبه بسيناريو فيلم (بورنو) يصعب تصويره.. وقد وجد الذين كتبوه ان من الضروري حذف 120 فقرة فاضحة منه.. وحذروا من تداوله ــ مثل السموم والمفرقعات ــ بالقرب من الصغار. وهناك سبب أهم هو ان التقرير يتناول الاسرار الجنسية لرئيس الدولة الأقوى في العالم.. وهو ما يرضي فضول الناس لمعرفة كيف يتصرف الرؤساء وراء أبواب مغلقة.. هل هم مثل سائر البشر يصابون بالاسهال؟.. وما الذي يثيرهم؟.. كيف يخلعون ثيابهم؟.. كيف ينامون؟.. ان الغموض الذي يلف الحكام يجعل الاشياء البسيطة التي نعرفها عنهم أساطير وحكايات. وفي كتابها الشهير (المرأة والسلطة) الصادر في لندن عام 1985 عن دار نشر فوتورا ـ ترى د. روزليند مايلز: ان الرجل ضعيف جدا أمام رغباته.. والرجل الذي في السلطة مهما كان قويا هو أكثر ضعفا.. لأنه في حاجة الى التحرر ــ ولو لبعض الوقت ــ من قيود الحكم.. وحصار الأمن.. وعيون الصحافة.. ورقابة البرلمان.. وتربص المعارضة.. انه مشدود.. متوتر.. مستعد للانفجار.. احيانا يلعب الجولف.. واحيانا يلعب الجنس.. واللعبة الأخيرة لا تصلح لها الا امرأة من طراز مارلين مونرو.. امرأة تدلله.. لا تحاسبه.. تخلع هدومه وهمومه.. تبادله النكات الممنوعة.. تسقط الحواجز.. تلعن البروتوكول.. وتعامله كرجل لا كحاكم.. وفي هذه اللحظة يصبح محكوما.. وتصبح هي الحاكم.. انها تمنح الجنس وتأخذ السلطة.. تعطي المتعة وتحصل على القوة.. وهي احيانا تريد المال.. لكنها في الغالب تستمتع بالسيطرة. ولو لم تحصل المرأة على السيطرة هدمت المعبد فوق الحاكم.. وهو ما فعلته مونيكا بكلينتون.. فقد ربطته برباطة عنق من تصميم هوجوبوس التي أهدتها له ثم سحبته منها الى الفضيحة.. ومنها الى الهاوية.. ولو لم تفعل ذلك.. ربما قتلت.. أو أجبرت على الانتحار.. وهو ما فعلته المخابرات الأمريكية مع مارلين مونرو بعد ان عرف الناس بعلاقتها الخاصة مع جون كيندي. وفي اعترافات مونيكا.. ان كلينتون كان متماسك الاعصاب.. فقد رفض ان يمارس الجنس معها ممارسة كاملة (حتى لا يدمنها وتدمنه) .. وحسب القانون الجنائي الأمريكي.. وحسب تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.. لا يعد ما فعله كلينتون خيانة.. أو خطيئة توجب الاعتراف والغفران.. وحسب الشريعة الاسلامية واليهودية لا يعد زنا.. فالشروط غير مكتملة.. وهو ايضا ما يفسر ما قالته مونيكا على لسان كلينتون.. انه (منذ بلغ الاربعين بذل مجهودا مكثفا حتى يكون مخلصا) ! وفي علم النفس يوصف ما فعله كلينتون بأزمة منتصف العمر.. وفيها يعيد الرجل أيام المراهقة تمهيدا للاستقرار في مدينة الحكمة.. لكن المثير للدهشة ان كلينتون لم يمتنع عن أداء عمله وهو في أحرج الأوقات.. فقد كان يرد على المكالمات التليفونية لأعضاء الكونجرس ورجال الدولة, بينما تسيطر مونيكا على نصفه السفلي. والحقيقة ان هذا المشهد يلخص قضية كلينتون.. فهو حريص على نجاحه في عمله.. وفي الوقت نفسه هو ضعيف أمام نزواته.. هو بارع ومناور ومقاتل في شؤون الحكم.. وفي الوقت نفسه هو خفيف ساذج وسريع التورط في شؤون الجنس.. هو شخص يجمع بين حكمة العقل ومراهقة الجسد معا.. وهذه ليست حالة نادرة أو شاذة.. وإنما هي حالة شائعة بين السياسيين.. فالواحد منهم يستطيع ان يسترد حقوق بلاده من أنياب الأسد.. لكنه لا يستطيع ان يسترد نفسه من امرأة أخذته في همسة أو بسمة أو شهقة. لذلك لم تكن مفاجأة ان تكشف مجلة (صالون) ــ التي تصدر عبر انترنت امريكية ــ عن فضيحة مشابهة لرئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب الامريكي هنري هايد الذي ينظر في تقرير كينيث ستار.. فالكل في الهم مونيكا.. وهو ما عبر عنه جورج ماكجفرن المرشح السابق للرئاسة الامريكية في عام 1972 قائلا: ان لم تكشف الحقائق فإن مجلس الشيوخ الأمريكي الذي عرفته عن قرب 18 سنة, ليس منزها من العيوب وعن الخيانة الزوجية والعلاقات غير الشرعية.. والأمر نفسه ينطبق على أساتذة الجامعة ورجال الدين وأشهر الصحفيين والمعلقين في شبكات التلفزيون الذين لا يكفون عن سرد خطايا كلينتون الجنسية ليلا ونهارا. لقد جرت فضيحة كلينتون فضائح أخرى في حرب النار بالنار.. ومن ثم قد يجد المجتمع الأمريكي نفسه أمام ملاهي استربتيز متصارعة ومتنافسة على مزيد من العري.. وهي التي كانت تعرف من قبل بالمؤسسات الدستورية. والمعروف ان 9% من الامريكيين فقط يثقون في السياسيين.. وفي شفافيتهم.. وذمتهم المالية.. بينما تقفز النسبة الى أكثر من 65% بالنسبة لكلينتون رغم الفضيحة.. والسبب ان كلينتون هو أول رئيس أمريكي يأتي من الجنوب الامريكي المتواضع.. وهو ينتمي الى الطبقة الوسطى.. وقد انتخب لمدة ثماني سنوات.. وجاء الى البيت الأبيض مدعوما من الفقراء والملونين والمهشمين الذين يوجد بينهم 80 مليونا يعيشون عند مستوى الكفاف.. ولا ينال أبناؤهم القسط والوفر من التعليم.. والذين يوجد بينهم 41 مليونا لا يتمتعون بالتأمين الصحي.. إذ يعجز أغلبهم عن دفع رسوم التأمين التجارية المتصاعدة.. وكانت هناك مشكلات أخرى في انتظار كلينتون على عتبة البيت الأبيض مثل انهيار السوق المحلية للقمح والحبوب.. والمعركة المستمرة بين أصحاب المشاريع وأنصار البيئة.. والتوصل الى تسوية مع شركات السجائر لحماية الاطفال على الاقل.. وضرورة تنقية الحملات الانتخابية والسياسية من فوضى التمويل.. بخلاف مشاكل السياسة الخارجية السابقة واللاحقة.. مثل انهيار عملية السلام في الشرق الأوسط.. والتفجيرات الارهابية.. والانهيار الاقتصادي في آسيا.. والأزمة في روسيا.. وترسانة الحرب الباردة التي أصبحت في أيدي الكثير من الجهات المنغلقة. ان كل هذه المشاكل لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت به بقعة كلينتون على فستان مونيكا.. لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت به عملية الجنس بالسيجار بين (الحلوة) و(الوسيم) وتجاوزت الفضيحة الجنسية كل الاعتبارات السياسية وانجازات كلينتون الاقتصادية والاجتماعية.. وأصبحت الفضيحة الجنسية بفعل أجهزة الاعلام قماشا شعبيا يلبسه الجميع.. ورغيفا ساخنا يتناولونه.. وبدت جماعات المصالح تمارس سلطة مجتمع الديوك التي تنفش ريشها ليلا ونهارا.. هي تظن ان الصباح لا يطلع من دونها. لقد تربصت قوى اليمين في السياسة الامريكية بكلينتون منذ اليوم الأول لتوليه السلطة.. والمعروف ان كينيث ستار ينتمي الى هذه القوى.. والمعروف ايضا انه المستشار القانوني لشركات السجائر التي أجبرها كلينتون على دفع 400 مليار دولار تعويضات للمدخنين.. والمعروف انه وافق على قبول عمادة جامعة بيبردين بعد ترك وظيفة المدعي الخاص.. وقد منحها له البليونير اليهودي ريتشارد ميلوف سكاييف الذي يمول كل الحملات المضادة لكلينتون.. وهو ما جعل جورج ماكجفرن يتساءل: هل يصدق أحد ان سكاييف ويمينيين آخرين لن يغمروا ستار بسخائهم عندما ينجز مهمته الأشبه بمهمة شرطي مكلف بضبط الجنس في البيت الأبيض والتي تكلفت 40 مليون دولار؟ ان وظيفة المدعي الخاص.. أو المحقق المستقل ظهرت الى السطح بعد فضيحة (ووترجيت) التي أجبرت الرئيس ريتشارد نيكسون على الاستقالة في عام 1974.. وقد كانت هيلاري زوجة كلينتون واحدة من المحققين فيها.. ولاتزال مونيكا تسكن في هذا المبنى المشؤوم الذي يقع في مدينة واشنطن والاشبه بجراج متعدد الطوابق ويحمل اسم ووترجيت.. وهو اسم أصبح رمزا للفضيحة في الولايات المتحدة وفي العالم. ولا جدال ان وظيفة المحقق المستقل مهمة لأنها تسمح لصاحبها بفحص أخطاء وجرائم الرئيس دون ضغوط من داخل المؤسسات السياسية والادارة الأمريكية.. لكن.. بشرط ألا تشوب هذا المحقق أية شائبة.. أو تثار حوله الأقاويل.. أو يصبح طرفا في صراع الديناصورات.. وهو ما ينسب الآن الى كينيث ستار الذي يتوقع الأمريكيون انه سيكون آخر من يتولى منصب المحقق المستقل.. فهناك نسبة لا تقل عن 45% من الرأي العام ترى انه أساء استعمال سلطته.. وانه بحث عن أدلة ادانة الرئيس في الثياب الداخلية وفي دواوين الشعر الرومانسية في اشارة الى كتاب (أوراق العشب) لوالت وانتمان الذي أهداه كلينتون لمونيكا. والمعروف ان وانتمان الأكثر رومانسية بين شعراء الولايات المتحدة الآن.. ويتبادل أشعاره العشاق.. وتستخدم قصائده في الاعتراف بالحب.. فهو يقول ان المرأة التي يحبها تصبح جميع نساء العالم.. وان هذه هي معجزة العشق التي لا معجزة أكبر منها.. فالعشق يعجن كل النساء في امرأة واحدة.. ويرفض وانتمان العشق الشفهي.. والمشاعر غير الغارقة في نيران التجربة, ويقول: لكي يكتب الانسان عن الحرب لابد ان يحارب.. ولكي يكتب عن الهند لابد ان يعرف شيئا عن تاريخ التفاح وعن كروية الأرض.. ولكي يكتب عن تفاصيل العشق يجب أن يموت عشقا. لقد فتش ستار عن أدلة اغتيال كلينتون معنويا في مثل هذه الكلمات الحسية لشاعر تتجاوز شعبيته شعبية الرئيس والكونجرس والمخابرات المركزية.. وقد استغل كلينتون ذلك في مغازلة الرأي العام الذي يعشق الشعر ويكره السياسيين.. والمعروف ان كلينتون هو أكثر الرؤساء الذين حكموا أمريكا لجوءاً الى الرأي العام عندما تسد أمامه الأبواب.. وهو يرى ان الرأي العام ليس غولا.. ولا حوتا.. ولا تمساحا.. ولكنه مرآة يرى فيها الرئيس وجهه.. وبوصلة تحميه من الضياع.. وبطانية الصوف التي يلتف بها حتى لا يموت من البرد.. أو من الفضيحة.. فالرأي العام في النهاية هو مصدر الشرعية والسلطات. ان كلينتون يملك مقدرة خارقة على الفوز بعد الهزيمة.. والنجاح بعد الفشل.. والتصرف بثبات في أشد المواقف اضطرابا.. لذلك سيواصل القتال بضراوة.. وسيصر على البقاء في منصبه.. وسيحاول ان يظل قويا رغم محاولات اضعافه من ناحية الحزب الجمهوري الذي سيطر على الكونجرس.. ويسعى الى اضعاف الرئيس وشل حركته وتحويله من أرنب بري الى بطة عرجاء. وقد استغلت اسرائيل هذا الموقف وقامت ببناء 600 مستوطنة في الخليل.. وسئل نتانياهو: ماذا سيفعل لو ضغط عليه البيت الأبيض؟.. فقال سأحرق الأرض من تحتهم.. في تهديد واضح بأن يضغط الكونجرس على كلينتون حتى لا يضغط على اسرائيل.. مع ان ادارة كلينتون ــ بدون الفضيحة ــ هي أفضل ادارة أمريكية لاسرائيل منذ اعلانها في عام 1948. وسيحاول كلينتون الضعيف ان يحقق مكاسب في السياسة الخارجية.. وسيبدأ بالضغط على الفلسطينيين.. وبالاستفادة من لقاء زعماء الاكراد في واشنطن.. لكنه سيتحدث عن الارهاب بصوت منخفض بعد ان أثبت الجمهوريون في الكونجرس ان مصنع الدواء الذي ضرب في السودان لم يكن ينتج أسلحة كيميائية. على ان أهم ما في هذه الفضيحة انها كشفت عورات النظام السياسي والدستوري الأمريكي.. وبدأ الكلام يزيد عن تغيير النظام الرئاسي السائد الى النظام البرلماني الذي تأخذ به أوروبا.. كذلك بدأ الكلام عن تأثير الفضيحة على القيم الرأسمالية التي فرضتها الولايات المتحدة على العالم.. مثل الحرية والعولمة وقوانين السوق.. وقدرة الاحتكارات والشركات متعددة الجنسيات على فرض نفوذها وشروطها على السياسات والحكومات. وهي فرصة لدول العالم الثالث لتسترد استقلالها في عصر العولمة والهيمنة.. فتشارك الحكومات الناس خبزهم وحزنهم وفرحهم وضجرهم ودموعهم وصراخهم اليومي من أجل الحصول على كسرة خبز.. أو كسرة حرية. ان الحضارات تزدهر وتسقط.. والغايات تخضر ثم تيبس.. والأنهار تمتلىء ثم تنشف.. والقوى العظمى تتمدد وتنكمش.. تتقدم ثم تتراجع.. ولا يبقى على الأرض سوى ما ينفع الناس.

Email