اندونيسيا .. حالة نمطيّة: بقلم - توجان فيصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمثّل اندونيسيا حالة نمطيّة متكرّرة في العالم الثالث, وهذا ما جعلها جديرة بهذا الاهتمام العالمي, وهي حتما جديرة باهتمام ودراسة أعمق من العالم الثالث ذاته في محاولة لتبين مصير أو مصائر هذه الحالة النمطية وتجسداتها المختلفة . ومعالم هذه النمطية تبدأ مع بداية حكم سوهارتو بالذات, فهو جنرال يأتي لحكم دولة شرقية مستقلة حديثا, بعد استعمار غربي أوروبي, ويطيح بالرئيس السابق الذي قاد الاستقلال تحت ذات الذريعة المألوفة التي تضع البلاد في سلسلة التبعية الجديدة لأمريكا, ألا وهي (الإطاحة بمؤامرة شيوعية) وكالعادة تكون هذه المؤامرة آتية من الشعب ومن القطاعات الشابة والطلابية. وبعد ثلاثة عقود من التبعية للاقتصاد الرأسمالي الذي تقوده أمريكا ينهار اقتصاد البلاد ويبدأ التسليم المطلق لبرامج صندوق النقد, تلك القصة القديمة المتجددة وخلفية تلك القصة المهملة دائما من جانب صندوق النقد, هو الفساد السياسي والمالي, فالدكتاتور التابع للغرب يبدأ بنهب ثروات الأمة, هو وعائلته كما في النمط الشائع, وتتراكم المليارات المنهوبة في البنوك الغربية وتصب في استثمارات لا تطالها يد الشعوب فيما لو تحركت يوماً ما. وفي هذه الحالة النمطية حين لايكون الحكم متوارثا فإن انتخابات شكلية وديمقراطية مفرغة تماما من الفحوى تسمح بما يسمى بإعادة انتخاب الرئيس الأوحد, وتهيئة بنية قانونية ودستورية لتسهيل هذا الاحتكار للسلطة باسم الديمقراطية والشرعية, وفي اندونيسيا يسمح الدستور بأن يعيد الرئيس ترشيح ذاته بلا نهاية, والذي ينتخب الرئيس ونائبه ليس الشعب, بل مجلس تشريعي يُمهد لاختراقه عن طريق قانون انتخاب يسمح بأن يتحكم الحاكم الأوحد بتركيبته, وزيادة في الاحتياط يتم الاحتفاظ بمائة مقعد, أي خمس المجلس, للجيش لضمان القبضة العسكرية التي يقوم عليها هذا الحكم (الديمقراطي) !! وليس أدلّ على فساد قانون الانتخاب الاندونيسي من أن سوهارتو نفسه, في محاولة لإطالة عمره في السلطة وكسب الوقت لقمع الثورة الطلابية الأخيرة, اقترح ان تُجرى انتخابات تشريعية في ظل قانون انتخابي جديد. ومعنى هذا ان سوهارتو يعرف ويعترف بفساد القانون ويعرف ان تغييره هو مطلب شعبي رئيسي, فيدعي محاولة التلاقي مع هذا المطلب. ولكن هل تجرى الانتخابات في اندونيسيا بفعل القانون والدستور المتخلفين وحدهما أم أن هنالك وسائل أخرى لإحكام سيطرة الحاكم المطلق وقوى الجيش من خلفه على الشارع المدني العريض؟! عندما ترشح سوهارتو لفترة رئاسية سابعة قبل أشهر, بدأت الاحتجاجات الشعبية, عندها أعلنت القوات الأمريكية التي تواجدت في المنطقة صدفة - حسب ادعاء الأمريكان - استعدادها للتدخل, وكانت تلك رسالة واضحة للشعب الاندونيسي والقوى الديمقراطية فيه, ثم عندما ثار الشعب مجدداً بعد تنصيب سوهارتو لنفسه ثانية, عبر المجلس التشريعي المنتقى بعناية على يده, واتضاع إمعانه في الفساد رغم تدهور اقتصاد البلاد, عاد الجيش الأمريكي ليلوح بالتدخل (لوقف الاضطرابات) وأعلنت واشنطن امكانية استعانة سوهارتو بأكثر من عشرة آلاف جندي أمريكي يشاركون في مناورات قبالة ساحل تايلاند, أي متواجدون (صُدفة) أخرى في المنطقة. وإذا كان هذا التهديد العسكري الأمريكي للشعب الأندونيسي مرتين في غضون أشهر قليلة أكبر دليل على ان هذا النظام مدعوم طوال قيامه من قبل أمريكا, فإن سحب الدعم الأمريكي حال ثبوت نهاية صلاحية هذا النظام لخدمة المصالح الأمريكية هو أيضاً تكرار لنمطية معروفة, فأمريكا تعامل عملاءها كما تعامل سلعها الاستهلاكية. وكل شيء عندها لاستعمال مرة واحدة ثم يلقى في القمامة, تماما كالمناديل الورقية والصحون البلاستيكية, وما يتسخ من الاستعمال الأمريكي لاتغسله أمريكا, والفارق الوحيد ان درجة الاتساخ المسموح بها خارج حدود الولايات المتحدة يفوق بدرجات الحد الأدنى لمستلزمات النظافة العامة, ولهذا طال حكم سوهارتو اثنين وثلاثين عاما. ومن النمطية ايضا ان قطع الخيط الامريكي الذي يتعلق به هؤلاء الحكام يأتي دون سابق إنذار, فما بين عرض أمريكا التدخل العسكري - أو التهديد به بالأحرى - وبين نصيحة أولبرايت سوهارتو بالتنحي أربعة أيام فقط, في اليوم الثالث منها كان الكونجرس قد عنف الحكومة الأمريكية على موقفها السابق وطالبها بوقف المعونات الاقتصادية لاندونيسيا, ومع اننا في عصر السرعة, فإن أربعة أيام هي بالفعل زمن قياسي لمثل هذا الانقلاب في السياسة الأمريكية, وهو مؤشر لكل من يهتم بهذا النمط ومصيره على امكانية التغيير السريع. وكما في الحالات المشابهة, فإن هذا الرئيس أو الحاكم الأوحد يبدأ بنشر اسطورة عدم وجود بدائل له وأنه (عامل الاستقرار) الأوحد في البلاد. وبالنسبة للاستقرار, جاء التفجر الحتمي للأوضاع السياسية بفعل العامل الاقتصادي الآني, ولكن المؤشر جاء ليحدد شخص سوهارتو كسبب أول ورئيسي لهذه الأزمة, وبالتالي لسقوط الاستقرار المكلف والمثقل لكاهل الاندونيسيين. وتبقى اسطورة البدائل المفقودة تماماً, والتي يدحضها المنطق العلمي المجرد, فما هي مواصفات سوهارتو التي لايجود الزمان بمثلها وتخلو منها اندونيسيا بالذات؟؟ الرجل العسكري الكهل أمضى جلّ حياته في قمع واستغلال الاندونيسيين, وأثرى وأسرته على حساب هذا القمع والاستغلال بحيث أصبح وأصبحوا من أغنى أغنياء العالم, في حين لم يعد الشعب الاندونيسي يجد قوت يومه, فهل هذه صفات عسيرة الوجود بين طواقم سوهارتو التي ذاقت بعضا من كعكة الفساد والنقود هذه, أم ان إحياء اسطو رة عدم وجود بدائل للدكتاتور الذي هرم هو تمهيد لتولي شبيه له لللسطة, سواء أكان نائبه حبيبي أم قائد الجيش أم صهره قائد الاحتياطي العسكري, وهو بالمناسبة ذات المنصب الذي شغله سوهارتو حين تحرك للإطاحة بسوهارتو تحت ذريعة وقف فوضى أخرى واضطرابات شعبية أخرى سابقة عام 1965. قد يكون هذا هو المخطط الأنسب للغرب, وقد تأمل أمريكا أن يوفر عليها الجيش الاندونيسي مهمة التدخل بتولي السلطة بنفسه, أمر بإعادة الاصطفاف خلف الرئيسي الجديد الأصغر سناً ولكن الذي لايختلف في شيء عن سابقه, وهذا التفكير الغربي هو أيضاً جزء من النمطية, والغرب يعتقد إلى حد بعيد بإمكانية اعادة استثمار النمط في البلد الواحد أكثر من مرة اضافة الى تعميمه على بلاد العالم الثالث ما أمكن. ولكن ما هو خارج الحسابات الغربية حتما هو الجانب الآخر من مستلزمات اكتمال النمط, وهو الجانب الشعبي الداخلي, فهل الاندونيسيون هم ذاتهم الذين استغل بعض العسكريين من أمثال سوهارتو ثورتهم ضد الاستعمار للقفز إلى القيادة العسكرية المطلوبة بشكل ملح في تلك المرحلة, ومنها الى القيادة السياسية بعد ان يتحقق الاستقلال ويعود المثاليون من الثوار - وهم الغالبية الساحقة عادة - إلى أعمالهم غير مدركين لمطامع القلة المتسلقة؟! حتما لم تكن اندونيسيا قبل الاحتلال الهولندي دولة ديمقراطية, وربما لم تكن قد سمعت بالديمقراطية, وبالتالي فإن جموع الشعب الاندونيسي الذي تحرك في الثورة الأولى كان يطالب بالتحرر من السيادة الغربية ليس إلا, فسهل بالتالي ايقاع هذا الشعب في شراك الدكتاتورية العسكرية. ولكن حتى هذه الدكتاتورية اضطرت لتغليف نفسها بغلاف من الشرعية رغم هشاشته الواضحة, فهنالك ادعاء بوجود غطاء دستوري وقانوني لسلطة سوهارتو, وهنالك قبل ذلك حاجة لدستور وقوانين انتخاب أدت إلى فبركة صيغ ما تحت هذه العناوين, وإن خلت هذ الصيغ من الفحوى الديمقراطي, ومعنى هذا ان بذور المطالبة الديمقراطية كانت قد بدأت تنبت في التربة الاندونيسية منذ حرب التحرير, وكل ما في الأمر ان الشعب ككل شعوب العالم الثالث كان حتما دون درجة الوعي اللازمة لمعرفة وسائل تحقيق هذه الديمقراطية, فهل يعقل ان هذا الشعب ما زال هو هو منذ أكثر من خمسين عاما مضت على التحرير, ومنذ اثنين وثلاثين عاما من حكم دكتاتور واحد أودى بالبلاد إلى هذه الهاوية؟! هنالك درس استقاه الأندونيسيون حتماً من تجربتهم الطويلة مع سوهارتو لايعرف الغرب تفاصيله ومدى ترسخه في وجدان ووعي الشعب الذي لم يتح له أبداً التعبير عن هذا الوجدان وهذا الوعي, حتى الآن وحتى لحظة الانفجار الأخيرة. وهنالك دروس عدة تعلمها الأندونيسيون أيضاً من العالم حولهم, وهو ما لايعرفه الغرب ايضا لأن الغرب يعتقد أن هؤلاء الشرقيين ذوي الوجوه السمراء المصفرة والباسمة والأخلاق الدمثة بأكثر مما يستوعب الفكر الغربي البرجماتي, هم مجرد سلع خدمية متشابهة في الشكل والمضمون - والغربي يجد صعوبة في تميز فروق الملامح الشرقية - معدة بالجملة لرفد الحاجات الغربية الصناعية والزراعية في الغرب وتقديم الخدمات السياحية محليا في الشرق الذي يصر الغربيون على تصور أنه ما زال غامضاً وقابعاً في دهاليز التاريخ والاسطورة. خلف هذه الوجوه الباسمة والمتشابهة وغير القابلة للقراءة الغربية, دروس متعمقة وأحلام أعمق لايعرف الغربيون عنها ما يكفي, وإن كانوا يعرفون الآن أن الدماثة يمكن أن توضع جانبا إن لزم الأمر, ولعل هذا التغيير في جزء أساسي من النمط الذي أعده الغرب للعالم الثالث, ومنه اندونيسيا, هو الذي سيقود التغيير الحقيقي في العالم الثالث. ان التغيير في صورته الأبرز للعالم الآن هو للحكام, ولكن التغيير الأهم والأوسع مدى والأعمق أثراً, هو ما لحق بالشعوب.

Email