من هنا نبدأ! بقلم - شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

لاشك في ان الخامس عشر من مايو 1948 سجل واحدا من اهم الاحداث الاستراتيجية في تاريخ فلسطين, عندما تمكن المشروع الصهيوني من اقامة اسرائيل على انقاض فلسطين, وتسبب بالتالي باشعال فتيل الصراع الذي امتد خمسين سنة, ولا يزال مستمرا حتى لحظتنا الراهنة . وفي قناعتي ان الثامن والعشرين من هذا الشهر نفسه, مايو سجل في العام 1964 اول رد استراتيجي على هذا الحدث, عندما تمكن العرب من الاتفاق على اقامة مرجعية وطنية لشعب فلسطيني تستطيع النطق باسمه والتعبير عن مطالبه وحقوقه, ويحق لها قيادة مسيرته, فقامت منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى الرغم مما جابهته هذه المنظمة, برئاسة المرحوم احمد الشقيري من عوائق وعقبات في بداية نشأتها, منها ما كان فلسطينيا وعربيا, وبالطبع ما كان اسرائيليا ودوليا, فلقد استطاعت قيادتها أن تشق الطريق, وان تحسن في توجيه خطواتها الأولى على طريق الالف ميل, فنجحت في اقامة المؤسسات والحيثيات واللجان التي كان لابد من اقامتها لضمان استمرار المسيرة النضالية بمعزل عن مصير اي قائد او مسؤول. ومضت هذه المنظمة في النمو والنضوج حتى وصلت مرحلة تمكنت خلالها من انتزاع شرعيتها رسميا وشعبيا, فاعترف بها العرب, ومن بعدهم سائر المجتمع الدولي, بجدارة تمثيلها لشعب فلسطين الذي كان قد التف من حولها بما يقارب الاجماع. ولأن ميثاق المنظمة ونظامها الاساسي وهياكلها التنظيمية كانت ديمقراطية التوجه, فلقد تمكنت هذه المنظمة من مجابهة العواصف السياسية التي تعرضت لها المنطقة, وبخاصة بعد نكسة 1967. بعد النكسة المذكورة كان لابد من افساح المجال لآثارها وللمتغيرات السياسية التي افرزتها فتمكنت المنظمة من استيعاب ذلك كله, فاستقال الشقيري, وصلت محله قيادة مؤقتة برئاسة السيد يحيى حمودة ورفقة عدد من الشخصيات الوطنية, تمهيدا لنقلة جديدة في العملية النضالية تكون اكثر ملاءمة لمتطلبات المرحلة, وفي مقدمتها تصعيد النضال الشعبي ورفض الهزيمة في ظلال انحسار الصراع العربي الرسمي. لذلك فلقد كان طبيعيا, بل وضروريا ان تتسلم قيادة المنظمة رموز العمل الفدائي الصاعدة آنذاك, وتم تداول السلطة بأسلوب ديمقراطي, فانعقد المجلس الوطني للمنظمة, باعتباره اعلى سلطة سياسية وتشريعية بين مؤسسات المنظمة, وتم انتخاب لجنة تنفيذية جديدة برئاسة (ابوعمار) الناطق الرسمي يومها, لحركة (فتح) احد اهم الفصائل الثورية. اذكر, عن تلك المرحلة, انه كان هناك بين قيادات (فتح) وغيرها من الفصائل من لم يكن راضيا عن هذه الخطوة, مؤثرا المضي في العمل السري بعيدا عن المنظمة وموقعها الرسمي غير ان هذا الاتجاه لم يصمد اما الرأي الآخر الذي ارتأى اهمية ذلك (الزواج) بين ما سموه (الشرعية والثورية) . وقد كنت من انصار هذا الرأي, ولم تغير تجارب الثلاثين سنة الماضية من قناعتي هذه. فلقد كنت ولا أزال اؤمن ان منظمة التحرير الفلسطينية هي اهم انجاز وطني حققه شعب فلسطين منذ نكبته, وانه يجب بقاء هذه المنظمة حتى اليوم الذي تتحقق فيه مطالب شعب فلسطين وينتزع كامل حقوقه الوطنية بالعودة والاستقلال الوطني وتقرير المصير. منظمة التحرير الفلسطينية, في فهمي وفهم شعب فلسطين, ليست منظمة بالمعنى الشائع للكلمة, هي ليست حزبا او تنظيما محددا, وانما هي اطار سياسي لمجمل العمل الوطني بكل الوانه واشكاله, وهي في غياب (الدولة) تعتبر البديل المعنوي لها والطريق لتجسيدها وتحويلها الى حقيقة مادية. وهذا ما يشهد به تاريخ المنظمة رغم افتراءات جميع الفصائل الثورية, بما فيها (فتح) عليها, ومحاولاتهم المستمرة للاستئثار بموقعها ومردودات هذا الموقع عليها. ولولا العقلية الحزبية الضيقة وترجيح المصلحة الفئوية على المصلحة الوطنية لكان باستطاعة المنظمة ان تصبح التنظيم الواحد, والفريد بنوعه لشعب فلسطين, ولما آلت احوالها الى ما آلت اليه الآن بعد ان اضحت أسيرة لفصيل واحد, هو بحد ذاته اسير قيادة فردية. ولكن مع ذلك ومن واقعها المرير الراهن, فإن منظمة التحرير الفلسطينية لا تزال ضرورة ملحة للنضال الفلسطيني ولحركة الشعب العامة على مختلف الجهات. ولقد اثبتت السنوات الخمس الماضية, والتي تلت التوقيع على اتفاقية اوسلو, وما سببته من شرخ في الجسم السياسي الفلسطيني, انه ما من سبيل وما من بديل غير العودة الى هذا الاطار, وليس هناك منطلق لمسيرة جديدة بغير رد الروح الى هذه المنظمة بكافة مؤسساتها السياسية والثقافية والتنظيمية. فالموالون لاتفاقية اوسلو, كما للمعارضين لها, لا غنى لأي منهما من العودة للمنظمة وبعث الروح فيها من جديد. ولعل الموالين لاتفاقية اوسلو ولنهج سياسة الحل السلمي, مصلحة في تفعيل المنظمة اكثر بكثير من المعارضين. خصوصا وانه لم يعد في ايديهم من اوراق الضغط على العدو الصهيوني غير العودة الى الجذور. من هنا كانت دعوتنا الى ضرورة التحرك مجددا من اجل بعث المنظمة واخراجها من الغيبوبة المفروضة عليها فبالاضافة الى ما قلناه ولا نزال لأخوتنا في الفصائل المعارضة حول هذا الموضوع وأهميته, قلنا وكتبنا للاخوة في (فتح) ولا سيما للأخوين فاروق القدومي ومحمد سليم الزعنون, باعتبار الأول ــ معارضا لاتفاقية اوسلو ــ ولا يزال محتفظا بموقعه كرئيس للدائرة السياسية للمنظمة, وامين لسر اللجنة المركزية لحركة فتح, وباعتبار الثاني رئيسا للمجلس الوطني الفلسطيني وعضوا في اللجنة المركزية لنفس الحركة. ومع ان هذه الدعوة وجدت من يرفضها, هنا وهناك, غير انني استطيع القول, بكل الثقة, انها وجدت ما يكفيها من الموافقة والدعم لدى العديد من القيادات والفعاليات الفلسطينية. ولكن ما من ردود فعل عملية حتى الآن ابواللطف يسعى ويحاول, ويحرص على شعرة الاتصال مع الجميع, وابوالاديب الزعنون يعرب عن رغبته في التحرك ولكن ببطء لم يعد مقبولا. ان الامور وصلت دركا من الانحطاط والتدهور لا يحتاج الى دليل او برهان, ومازلنا نسمع مر الشكوى من ياسر عرفات ورفاقه حتى باتت اتفاقية اوسلو اشبه بحائط المبكى مع الفارق بين الباكين من حوله. ولا اعتقد انه لا يزال بيننا, عرب وفلسطينيون, من يعلق اية آمال على ما يسمونه (بانفراج) او عودة جادة لاستئناف المفاوضات ولو وفق ادنى حدود الشروط الدنيا لهذه المفاوضات. فاذا كانت الامور قد وصلت الى حد التدخل المصري لدى اسرائيل لتقبل ما تقترحه عليها الولايات المتحدة, فليس امامنا سوى ان نضحك من شر البلية. اذن لابد من العودة الى الينابيع, الى الجذور الى منظمة التحرير الفلسطينية. وليس امام شعب فلسطين من سبيل لتدبر الكارثة الوافدة غير وحدته الوطنية واسترداد الاطار الفسيح لجميع قوى الشعب الفلسطيني, بفصائله واحزابه وكافة هيئاته الوطنية والمدنية والمهنية, لكي نمارس وحدتنا من خلال تنوع مجد وضروري ومطلوب. ومن اجل ذلك نرفع الصوت مجددا, ونناشد كل ذي رأي وصاحب موقع ان يتحركوا من اجل التحضير لتشكيل مجلس وطني جديد, بالتوافق والتراضي وبغض اي محاولة لالغاء الاخر, تمهيدا لعقد دورة عاجلة يتم خلالها استعراض الوضع على حقيقته, واستخراج ما يجب استخراجه من عبر واتخاذ ما يجب اتخاذه من قرارات. لن نمل من تكرار هذه الدعوة فلعل وعسى... ان نغير ولو بعض ما بأنفسنا حتى يغير الله ما نحن عليه من اوضاع.

Email