بماذا تحتفل اسرائيل؟ بقلم- د. علي الدين هلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهد عاما 1997 و1998 سلسلة من الاحتفالات التي نظمتها اسرائيل, كان منها الاحتفال في 1997 بمرور قرن على انعقاد المؤتمر الصهيوني الاول في مدينة بال السويسرية, والذي ترتب عليه انشاء المنظمة الصهيونية العالمية . وقد كتب تيودور هرتزل في يومياته عنه: ان هذا المؤتمر وضع الاساس للدولة اليهودية, التي سوف تقوم بعد خمس سنوات او خمسين سنة, وهو ما تحقق بالفعل. ثم جاء الاحتفال بمرور نصف قرن على قيام الدولة ذاتها في 1948. والحقيقة ان هذه المناسبة تدعو المحلل الى عمل (جرد) او (كشف حساب) بما تستطيع ان تحتفل به, وبما لا يجوز لها ان تتناساه او تغفل ذكره. على جانب الانجازات, فقد حققت الحركة الصهيونية واسرائيل منذ 1948 الكثير مما وضعته من اهداف: كان الهدف الاول للحركة الصهيونية واسرائيل منذ 1948 الكثير مما وضعته من اهداف: كان الهدف الاول للحركة الصهيونية هو الحصول على (رخصة) دولية تعطي لليهود حق الهجرة (يسمونها العودة) الى ارض فلسطين. وقام زعماء هذه الحركة بالاتصال بالدول الاوروبية الكبرى, وقتذاك للحصول على هذه الرخصة. وفي البداية حاولوا اغراء الدولة العثمانية, التي كانت فلسطين احدى ولاياتها, للموافقة على هجرة اليهود اليها, فعرضوا المساهمة في تسديد جزء من ديون السلطنة, ولكن السلطان عبدالحميد رفض ذلك, وقاوم كل الاغراءات والضغوط, كما قام هرتزل بزيارة لمصـر في مطلع القرن, ذهب خلالها الى منطقة سيناء, على اساس ان تكون الهجرة الى منطقة قريبة من ارض فلسطين, ولكن جهوده باءت بالفشل, واخيرا وفي غمار الحرب العالمية الاولى, نجحت الحركة الصهيونية في اقناع الحكومة البريطانية باعلان (وعد بلفور) في الثاني من نوفمبر 1917, والذي التزمت بمقتضاه بريطانيا بانشاء (وطن قومي لليهود) في فلسطين وتم تضمين هذا الوعد في صك الانتداب الذي اصدرته عصبة الامم الى بريطانيا باعتبارها (الدولة المنتدبة) على فلسطين. ثم كان الهدف الثاني, هو تشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين ففي عام 1917 لم يكن عدد اليهود في فلسطين يتجاوز 90 الفا, وادركت الحركة الصهيونية انه بدون وجود يهودي فعلي على الارض, فان كل امال اقامة الدولة سوف تذهب سدى وبدأت المنظمة في جمع المال من خلال (الصندوق اليهودي) الذي كان من بين قواعد عمله, ان الارض التي يتم شراؤها تصبح (ارضا يهودية) لا يجوز ان يشتغل عليها, او يجني ثمارها, غير يهودي. وخلال العشرينات والثلاثينات, شجعت المنظمة اليهود على الهجرة الى فلسطين. وجاءت الدفعة الكبيرة لهذه العملية مع ظهور هتلر والنظام النازي في المانيا حيث استثمرت الحركة الصهيونية عداء النازي لليهود, وسياسة الابادة التي مارسها ضدهم لاتمام عملية هجرة كبرى هي تلك التي تمت خلال حقبة الاربعينات. ثم ارفقتها بعمليات هجرة مماثلة للجاليات اليهودية من بعض الدول العربية, وخصوصا من العراق الذي كان يعيش فيه اعداد كبيرة من اليهود. وخلال ذلك دخلت الحركة الصهيونية في علاقات معقدة مع بريطانيا ففي فترة سمحت الدولة المنتدبة بالهجرة اليهودية ولكن مع ازدياد الرفض الفلسطيني لذلك بدأت في وضع قيود عليها مما ادى الى مصادمات مع الحركة الصهيونية وبالذات خلال فترة الحرب العالمية الثانية, وبعد صدور (الكتاب الابيض) الذي حدد اعداد اليهود المسموح لهم بالهجرة الى فلسطين ووقتها رفع ديفيد بن جوريون رئيس الوكالة اليهودية شعار: (نحارب الكتاب الابيض, وكأنه لا توجد حرب عالمية ثانية, ونحارب في صف بريطانيا ضد المانيا, وكأنه لا يوجد كتاب ابيض) . وكان الهدف الثالث هو بناء مؤسسات الدولة اليهودية المرتقبة, ووضع الاسس التنظيمية والادارية لها خلال الفترة ما بين 1917 ــ 1948 فتم انشاء (الجامعة العبرية) في 1925 ومن قبلها (معهد التخنيون التكنولوجي في 1916) ثم (معهد وايزمان للعلوم) في 1946 كما انشيء المسرح القومي والاوركسترا السيمفونية والنظام التعليمي, والقوات العسكرية واتحاد العمال (الهستدروت) واكتسبت كل هذه المؤسسات خبرة ادارية وتنظيمية قبل عام 1948. ومن الناحية السياسية كانت لليهود في فلسطين مؤسستان: الاولى هي (المجلس القومي اليهودي) الذي تأسس عام 1920 ليكون بمثابة (مجلس تمثيلي) او (برلمان) ويمثل يهود فلسطين والثانية, هي (الوكالة اليهودية) التي كانت بمثابة (الهيئة التنفيذية) او (الحكومة) وقد اعترفت بها حكومة الانتداب رسميا وفقا للمادة الرابعة من صك الانتداب, وكان هدفها العمل على انشاء (الوطن القومي اليهودي) في فلسطين وتنظيم الهجرة كما كانت بمثابة حلقة الوصل بين يهود العالم ويهود فلسطين. ومن الناحية العملية, امتلكت الوكالة كل صفات (الحكومة) فكان لها ميزانيتها وجهازها الاداري, وجيشها (الهاجاناه) كما باشرت اعمال الحكومات: فالادارة السياسية بها كانت تقوم بأعمال وزارة الخارجية وادارة العمال كانت تقوم بمساعدة المهاجرين في الحصول على عمل وادارة التعمير كانت تتولى مهمة انشاء المستعمرات الزراعية, والاشراف على عمليات الاستيطان, فضلا عن ذلك فقد انشأت (الوكالة اليهودية) ادارات متخصصة للدعاية والاحصاء والتجارة والصناعة والتعليم. والذي حدث في عام 1948 هو ان المجلس التنفيذي للوكالة اصبح هو مجلس الوزراء كما تحولت اداراتها المختلفة الى وزارات فمثلا بن جوريون, الذي كان رئيسا للوكالة اصبح رئيسا للوزراء وموسى شاريت الذي كان سكرتيرا سياسيا للوكالة, اصبح وزيرا للخارجية, واليعازر كابلان الذي كان امينا للصندوق اصبح وزيرا للمالية. وكان الهدف الرابع بعد اعلان قيام الدولة هو تثبيت الوجود وتكريسه, في مواجهة الرفض العربي السياسي والعسكري وفي الحقيقة فقد بدأ العمل لتحقيق هذا الهدف قبل 15 مايو 1948 ففي خلال عام 1947 وخصوصا بعد صدور قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947 بدأت الجماعات العسكرية الصهيونية في اثارة جو من الفزع والرعب بين الفلسطينيين, وذلك حتى يتم تفريغ مناطق كاملة من سكانها العرب, ثم استغلت فترات الهدنة العسكرية لتهريب السلاح وللتوسع على الارض, وعلى سبيل المثال فان القوات الاسرائيلية احتلت قرية ام الرشراش (ايلات حاليا) بعد وقف اطلاق النار بما في ذلك من انتهاك لقرارات مجلس الامن. كما قامت بالاستيلاء على المناطق المحايدة والمنزوعة السلاح التي حددتها الامم المتحدة للفصل بينها وبين القوات العربية وفي عام 1949 اعلنت اسرائيل ان عاصمتها القدس وقامت ببناء مبنى للبرلمان (الكنيست) فيها ثم شاركت اسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر مع بريطانيا وفرنسا وكان من شأن ذلك, حصول سفنها على حق المرور في خليج العقبة بعد تمركز قوات الطوارىء الدولية في شرم الشيخ التي تسيطر على الممر البحري. ثم جاءت احداث حرب 1967 لتعطي اسرائيل فرصة العمر التي انتظرتها لفرض الوجود والتوسع من خلال القوة العسكرية ففي الايام الستة التي اعقبت يوم الخامس من يونيو استطاع الجيش الاسرائيلي ان يحتل مساحة من الاراضي العربية تعادل ثلاثة امثال مساحة اسرائيل في صباح ذلك اليوم وهي مناطق: القدس الشرقية والضفة الغربية وسيناء والجولان وادى ذلك الى تحول كبير في الميزان الاستراتيجي في المنطقة لغير صالح العرب. واستتبع ذلك تحول الاهتمام العربي من موضوع (القضية الفلسطينية) الى موضوع جديد وهو (ازالة اثار العدوان) اي تحرير الارض الجديدة التي احتلتها اسرائيل. ومن جانبها فقد استثمرت اسرائيل هذا الوضع للافصاح عن طموحاتها التوسعية فيما يسمى بـ (ارض اسرائيل الكبرى) فقامت بضم مدينة القدس واتبعت سياسات ترمي الى تهويدها ثم شجعت الاستيطان اليهودي في كل المناطق المحتلة وخصوصا في الضفة الغربية التي اطلقت عليها اسما عبريا هو (يهودا والسامرة) بل وقامت بانشاء مستوطنات في سيناء التي اسعادتها مصـر في اعقاب اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 واستعادة طابا بالتحكيم بعد انهاء الخلاف الذي ثار بين البلدين بشأنها فاننا نجد ان بقية الاراضي العربية المحتلة ظلت تحت السيطرة الاسرائيلية لمدة ربع قرن حتى تم التوقيع على اتفاقية اوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير, ومعاهدة السلام بين الاردن واسرائيل, ومازالت اجزاء كبيرة تحت الاحتلال حتى الآن. وعبر الحقب الخمس التي تلت انشاء الدولة العبرية, حرصت اسرائيل على ان تمتلك قدرة عسكرية تعادل مجمل القدرات العربية التي يمكن ان تواجهها في اي حرب محتملة, ويكفي ان نذكر انه في كل مواجهة عسكرية بين العرب واسرائيل باستثناء حرب 1973 فان اسرائيل نجحت في ان تقذف الى الجبهة بعدد من الجنود يفوق عدد القوات العربية المواجهة. وقد تنامت القوة العسكرية التي تمتلكها اسرائيل في الخمسينات من خلال التعاون النووي مع فرنسا, والذي اسفر عن انشاء مفاعل ديمونه, ثم من خلال تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة, التي اصبحت منذ منتصف الستينات, المصدر الرئيسي للدعم العسكري والتأييد السياسي, حتى اصبح احد اهداف السياسة الخارجية الامريكية تجاه المنطقة هو الاحتفاظ بالتفوق العسكري الاسرائيلي على اية دولة عربية منفردة وضد اي تحالف عربي قد يتشكل بين دولة او اكثر. واستطاعت اسرائيل ان تحتل هذا الموقع, لدى الولايات المتحدة من خلال عمل دؤوب ونشط جوهره التأكيد المستمر على ان اسرائيل هي خط الدفاع الاخير عن المصالح الغربية في الشرق الاوسط وانها الدولة الوحيدة التي تأخذ بالنظام الديمقراطي الغربي, اضف الى ذلك نجاحها في تأسيس جماعة ضغط (لوبي) يناصر قضاياها ايا كانت المواقف التي تتخذها او الممارسات التي تقوم بها, واستطاع هذا اللوبي ان يتغلغل في اروقة الحكم, والسياسة والاقتصاد والاعلام بحيث اصبحت وجهة النظر الاسرائيلية هي وحدها المطروحة على الرأي العام الامريكي. وساعد على ذلك, ان هذا (اللوبي) يخاطب المجتمع الامريكي بلغته وبمنهج التفكير نفسه في التفكير, فيقدم صورة لاسرائيل باعتبارها (امريكا الصغيرة) في المنطقة ويعقد الشبه بين الاستيطان اليهودي في فلسطين والاستيطان الامريكي في العالم الجديد ويصور نموذج المستوطنات الزراعية (الكيبوتز) على انه يماثل روح (الاتجاه غربا) في التاريخ الامريكي. هذا, هو ما تحتفل به اسرائيل هذه الايام وهو المسار الذي نجح في تحويل (الفكرة) الى (دولة) ثم نجح في تثبيت وجود (الدولة) وفرضها بالقوة. ولكن هذا الاحتفال يغفل جانبا آخر لصورة اسرائيل ولسجلها, وهو جانب لا يمكن الاحتفاء به, او اعتباره مبعثا للفخر, هذا الجانب يتضمن الاستخدام المنظم للعنف والارهاب تجاه الابرياء والمدنيين, ويكفي ان نشير الى ان اقامة اسرائيل تضمنت حرمانا لشعب آخر من حقه في تقرير مصيره ان اسرائيل فضلا عن ذلك لم تنجح ــ رغم قوتها العسكرية الطاغية ــ في تحقيق الامن والامان للانسان الاسرائيلي, بل انها فشلت كمجتمع في ان يحسم مسألة (من هو اليهودي) وتلك مسألة وثيقة الصلة بهوية اسرائيل ومستقبلها, وهذا الجانب المظلم من الصورة هو موضوع المقال القادم ان شاء الله. عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية*

Email