الاستراتيجية (الاسرائيلية) في جنوب لبنان: بقلم - الدكتورة سحر المجالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال أحد معلمي الاستراتيجية (هنالك أذكياء يرون كل شيء دفعة واحدة ولكنهم لا يرون الشيء الرئيسي). في يوم السادس من يونيو 1982 قامت القوات (الاسرائيلية) بهجوم واسع من البر والبحر والجو مخترقة الأراضي اللبنانية, مركزة أنظارها باتجاه بيروت والتي اعتبرت (نقطة التظبيط) كما تنص الاصطلاحات الاستراتيجية, ثم عادت وسحبت قواتها إلى نهر الأولى يوم 14 سبتمبر ,1983 وسحبت قواتها من صيدا وصور بتاريخ 14 سبتمبر 1983 و16 فبراير 1984 على التوالي, حيث تمركزت في الشريط الحدودي جنوب نهر الليطاني ولا تزال هناك, وهنا يأتي السؤال التالي: لماذا لا تنسحب (اسرائيل) من الشريط الحدودي؟ والاجابة على هذا السؤال تتطلب العودة إلى المعطيات الجيو - استراتيجية التي حكمت القرار الصهيوني باحتلال جنوب لبنان. لقد اطلقت (اسرائيل) على تلك العملية اسم (سلامة الجليل) ويمثل هذا الاصطلاح تورية كبيرة, فهل جميع الأراضي التي تسيطر عليها (اسرائيل) سالمة وآمنة ما عدا (منطقة الجليل)؟ الجواب كلا, بل ان هذا الاصطلاح هو معيار رمزي كبقية الاصطلاحات التي تطلق على العمليات العسكرية بما فيها المناورات والتمارين العسكرية, وهكذا ربطت (اسرائيل) هذا الاسم بالجليل وسلامته. لقد مهدت (اسرائيل) لهذا الغزو بعملية عسكرية محدودة سابقة هي عملية الليطاني يوم (14 مارس 1978), وقد كان الهدف منها هو زيادة اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية, وكنتيجة لتلك العملية دفعت (اسرائيل) معظم المقاتلين الذين كانوا متواجدين في الجنوب إلى المدن الرئيسية, وندرك السياسة الصهيونية بحتمية حصول الاحتكاك بينهم - الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية - وبين السكان المدنيين خاصة ما يتعلق بالطوائف المسلحة في الشمال وفي ظل ظروف حرب أهلية, وجاءت معطيات الأحداث كما توقعت (اسرائيل) حيث ازدادت الأمور تعقيدا خاصة في منطقة بيروت, وبعد أن تأكدت (اسرائيل) بأن مختلف الفئات والطوائف المسلحة غرقت في نزاعات مسلحة مريرة, قامت بعملية (سلامة الجليل). لقد كانت هناك أهداف كثيرة وراء غزو (اسرائيل) للبنان أهمها: أولا: شل فعالية المقاومة الفلسطينية إلى أدنى درجاتها وبصورة نهائية, وهذا ما تحقق. ثانيا: ضمان بقاء حكومة متعاونة مع (اسرائيل) حتى إذا ما قررت (اسرائيل) التوسع في السنوات المقبلة, حيث يمكن لقواتها أن تعمل في أرض (غير معادية) مما سيسهل عليها الاستمرار في عملياتها وتأمين خطوط مواصلاتها دون مقاومة تذكر, وهذا ما نشاهده الآن فيما يتعلق بالجنوب اللبناني. ثالثا: دفع خطر التهديد السوري المباشر, وقد تم الحصول على ذلك وبشكل جزئي. رابعا: ضم الشريط الحدودي إلى (دولة اسرائيل) وضمن الخط المار من (رأس اصبع الجليل وحتى جنوب صور). المعطيات الجغرافية للشريط الحدودي اللبناني والجليل: طبيعة هذه المنطقة جبلية, تنبسط عند الساحل وحول مدينة صور, وفي شماليها يقع نهر الليطاني, والذي ينعطف باتجاه الغرب عند مدينة المطلة ويستمر حتى يصب في البحر المتوسط, ومنعطف النهر لا يبعد عن رأس أصبع الجليل إلا بضع كيلومترات, أما أصبع الجليل فهو (أسفين) يدخل ما بين الحدود السورية اللبنانية وإلى عمق يصل إلى (20كم), وبعرض (10كلم) تقريبا. (وهذا الشكل في الحدود حدده البريطانيون والفرنسيون وعن عمد بعد الحرب العالمية الأولى). وتضم منطقة أصبع الجليل منابع نهر الأردن ومجاريه الثلاثة, (حاصباني, بانياس, الدان) وكما هو معروف فقد حولت (اسرائيل) مياه نهر الأردن قرب (بحيرة الحولة) إلى داخل فلسطين. ويمثل هذا الشريط الحدودي منطقة سهلة للكيان الصهيوني, وذلك للمميزات التالية: الميزة الاولى: التحكم بمياه نهر الليطاني, والذي يحاذي الشريط الحدودي, وخاصة عند رأس اصبع الجليل, حيث تشير المعلومات المؤكدة بأن (اسرائيل) بدأت بمشروع جر مياه الليطاني, وبهذا زادت (اسرائيل) من كميات المياه, والتي ساهمت في تعاظم قوتها البشرية خاصة المهاجرة اليها, والدليل على ذلك الحاح اسرائيل في الثمانينات على الاتحاد السوفييتي للسماح بهجرة اليهود, وقد اثير هذا الموضوع في اجتماع رئيسي اعظم دولتين في العالم آنذاك (ريجان وجورباتشوف), و(اسرائيل) بحاجة ماسة للقوى البشرية والتي ستضمن لها التفوق البشري والذي بالتالي يصب في المحصلة النهائية في القوة العسكرية القادرة على تنفيذ اهداف (اسرائيل) التوسعية. الميزة الثانية: ان (اصبع الجليل) يشكل تقعرا واضحا في الحدود بين لبنان و(اسرائيل) وهذا من وجهة النظر العسكرية ليس في صالح اسرائيل اذ ان اي هجوم تقوم به اي قوات من الشمال الى الجنوب ستمكنها من الاختراق وثم عزل اي قوات متواجدة ضمن منطقة (اصبع الجليل), او اي قوات في (هضبة الجولان) ومن هنا يمثل الشريط الحدودي نقطة استراتيجية مهمة للعسكرتاريا الصهيونية. الميزة الثالثة: لقد استفادت (اسرائيل) من الشريط الحدودي وذلك بضمها ما يقارب من (1225) كم2 الى اراضيها, وساعدها ذلك على تثبيت التوسع باتباع الخطوات التالية: أولا: القيام ببناء المعسكرات لقوات الامن (الاسرائيلية) بما فيها (جيش لحد) ثم بناء المستوطنات القائمة على اساس نظرية امن (اسرائيل) . مما تقدم نجد ان (اسرائيل) تعد اهدافها بدقة وعلى مراحل وتاريخ الصراع العربي ــ الصهيوني يذكرنا بالغزوات (الاسرائيلية) منذ عام 1948 والى يومنا هذا, فهي تقوم باستقدام المزيد من المهاجرين لرفد قوتها, اضافة الى تطوير اسلحتها في اللحظة المناسبة ثم تبادر لتنفيذ اهدافها العدوانية. ولو بشكل محدود. فاحتلالها الآن للشريط الحدودي في لبنان هو هدف محدود ولكنه يعطيها الفوائد والمميزات التي ذكرت سابقا. وموضوع الشريط الحدودي كان له حضوره في مفاوضات السلام التي جرت في مدريد على المسارين اللبناني والاسرائيلي. ولكن قضية الجنوب اللبناني المحتل عادت لتتصدر اجندة الاهتمامات الاقليمية والدولية, في الوقت الذي تشهد فيه (خطوط التماس) تصعيدا مقلقا للمواجهة, حيث تواصل قوات الاحتلال اعتداءاتها على مدن وقرى ومخيمات الجنوب, وبصورة تلحق افدح الاضرار بحياة المواطنين وممتلكاتهم. وترفع وتيرة المطالبات اللبنانية والعربية والدولية بضرورة التطبيق الدقيق والفوري للقرار الدولي رقم (425) الذي نص على انسحاب (اسرائيل) الفوري وغير المشروط من الجنوب المحتل. وفي اللحظة التي بدأت (اسرائيل) تتحدث عن استعدادها للقبول بتنفيذ القرار المذكور, وذلك على لسان منسق النشاطات (الاسرائيلية) في لبنان (اوري لوبراني) والذي اكد على استعداد بلاده لتنفيذ قرار مجلس الامن (425) من جانب واحد, ودون الحاجة لابرام معاهدة سلام مع لبنان, الا ان رئيس الوزراء الاسرائيلي (نتانياهو) اشترط فيما بعد نزع سلاح (حزب الله) وضمان امن شمال (اسرائيل) . في حين رفض لبنان وعلى لسان وزير خارجيته (فارس بويز) العرض (الاسرائيلي) , واشار الى ان القرار يجب ان يتم بدون شروط. وبالمقابل اعتبر الاعلام الرسمي السوري المقترحات (الاسرائيلية) بأنها (فخ) للبنان وسعيا للانفراد بسوريا, كما بدأ وزير الخارجية السوري زيارة للبنان يوم الرابع من مارس 1998 للتباحث مع المسؤولين اللبنانيين حول المقترحات الاسرائيلية. الا ان المقترحات الاسرائيلية قوبلت بالترحاب من قبل الولايات المتحدة واعتبرتها خطوة على الطريق الصحيح, في حين أكد ناطق بلسان الحكومة الفرنسية ان بلاده لا تستطيع الطلب من لبنان تنفيذ اي امر لا يرغبه, وابدى الاستعداد لرعاية اي حوار بهذا الشأن من الجانبين الامر الذي اعتبره المراقبون موقفا متحفظا وليس رافضا كما حصل عندما طرحت نفس المقترحات عام 1996. وعودة الى نص مقدمة قرار مجلس الامن رقم 425 والذي نص على ان مجلس الامن اذ يعرب عن اهتمامه بتدهور الوضع في الشرق الاوسط, ومضاعفاته على السلام الدولي, واعاقته لعملية السلام في المنطقة, الا انه يخلو من المميزات الشرطية النابعة من الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة (عمل عدواني, خرق للأمن الدولي, وتهديد السلام) حيث تضمن فقط الاعراب عن القلق من تدهور الوضع الامني ومضاعفاته على السلام الدولي, وجهود السلام في الشرق الاوسط, دون اشارة للطرف المعتدي, وبالتالي فان هذا القرار يندرج تحت الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة, والذي يدعو الى حل المنازعات بالطرق السلمية وعن طريق مفاوضات سلام حسب التفسير الاسرائيلي وقياسا لما ترتب على قرار مجلس الامن 242 الذي يندرج تحت نفس الفصل, واعقبه مفاوضات سلام عن طريق وسطاء (المبعوث الدولي جونار يارنج عامي ,67 1968) واخرى مباشرة كما يحدث الآن منذ مؤتمر مدريد 1991. تهدف اسرائيل من وراء هذه المقترحات الانسحاب من طرف واحد من الجنوب اللبناني لتحقيق عدة غايات اهمها: أ ــ العمل على فصل المسارين السوري واللبناني. ب ــ احداث الانقسام على الساحة اللبنانية بين مؤيد ومعارض لهذه المقترحات ادراكا منها بأن جهات حزبية لبنانية قد تمارس ضغوطا لقبول هذه المقترحات. جــ ــ تحويل الانظار عن عملية السلام على المسار الفلسطيني وضمان تجميدها على المسار السوري. د ــ خلق الانطباع لدى المجتمع الدولي باستعداد اسرائيل للرضوخ لقرارات الشرعية الدولية من خلال تطبيق القرار 425 كما حصل للقرارات المتعلقة بالعراق وبالتالي فقدان الحاجة لممارسة اية ضغوط دولية عليها, واسقاط مقولة ان الولايات المتحدة تكيل بمكيالين. هــ ــ تدرك اسرائيل بأن انسحابها من الجنوب اللبناني يضع القيادة السورية بموقف حرج حيال تواجد قواتها داخل لبنان. لذلك يبدو ان المقترحات الاسرائيلية الاخيرة والتحركات التي اعقبتها وبشكل خاص الترحيب الامريكي ستضع الجانب السوري ــ اللبناني في موقف حرج, وبالتالي فانه من المتوقع ان تمارس ضغوطات امريكية ودولية كبيرة لتسويق وتنفيذ القرار, وفسح المجال امام المزيد من التوتر في المنطقة, وبشكل خاص بعد الاتفاق الاخير بين العراق والامم المتحدة الذي قد يفضي الى حل الازمة في الخليج وذلك باعادة ما يسمى (بتأهيل) العراق لدخول المجتمع الدولي.

Email