الفضائيات العربية: إغواء أم إقناع؟ بقلم- د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل عقود من السنين عندما كان الكتاب هو الوسيلة الاروج للثقافة كان يقال ان القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبقية العرب يقرأون , اما اليوم في عصر الفضائيات التلفزيونية فيمكن ان يقال ان الفضائيات تبث والعرب كلهم يتفرجون, يختلفون او يتفقون على مايشاهدون, والفضائيات العربية هي نوعان اما ان تكون حكومية ذات صبغة رسمية وهي اصلا قناة داخلية يعاد بثها فضائيا, او هي ذات صبغة تجارية بحتة وتبث من الخارج يستثنى من هذه الثنائية القناة الفضائية القطرية وهي محطة الجزيرة, فهي حكومية التمويل تجارية الطابع, ولا اعرف ان كان ذلك في مصلحتها ام ضدها. على الرغم من ان كل الدول العربية اليوم تمتلك محطات بث فضائية, فإن البرامج المشاهدة بكثرة والتي يكثر الاقبال عليها خاصة الحوارية, تكاد تنحصر في محطتين او بالكاد ثلاث محطات هي حصرا قناة (الاوربت الثانية) و(الجزيرة) و(ابوظبي) الفضائية في وقت لاحق, فهذه البرامج اذن معدودة على اصابع اليد الواحدة, وان حسبناها بالدقائق والساعات فهي لاتشكل الا نسبة ضئيلة من ساعات البث لكل هذه المحطات, ومع ذلك فإن الحوار الساخن حول الفضائيات العربية هو حول هذه البرامج الحوارية لاغير. في الاسبوع الماضي حضر الى الكويت السيد عماد الدين اديب, واحتفل به المجتمع الكويتي المهتم, وبث من الكويت عدة حلقات حوارية ناجحة كان آخرها حول عذاب أسر الاسرى الكويتيين في العراق, وقال لي اكثر من صديق كويتي انه لاول مرة يسمع ويرى بوضوح وبقناعة ما تعانيه أسر الاسرى حيث شرحوا للاعلامي المتميز السيد اديب بوضوح كيف تم الاسر وظروفهم الانسانية البالغة القسوة في انتظار من يحبون. هذه الملاحظة لافتة للنظر, فقد تحدثنا في الكويت كثيرا عن الاسرى وعن غير ذلك من الموضوعات التي نعتقد انها موضوعات وطنية مهمة ومع ذلك لم تتح الفرصة لاطلاع الاقربين على هذه الموضوعات, واحتاج الامر ــ عند بعضنا على الاقل ــ ان تأتي قناة الاوربت مشكورة لالقاء الضوء الكاشف على مثل هذه القضايا وبثها دوليا, ومع ان هذه القتاة مشفرة اي ان نطاق وصولها الى جمهور عام محدود نسبيا الا ان المتابعين في الكويت شعروا بارتياح لما قامت به من عرض للحقائق. قبل اسبوع او اكثر كنت قد شاركت في برنامج حواري مع المذيع سامي حداد في برنامجه (اكثر من رأي) وعرفت فيما بعد البث مما وصلني من فاكسات ومكالمات تليفونية وكذلك من تعليقات في بعض الديوانيات التي ارتادها كم هي مؤثرة مثل هذه البرامج الحوارية, وفي الكويت ينقسم الناس بين مؤيد للتعاون مع محطة الجزيرة التلفزيونية وبين مطالب بالمقاطعة لان المحاورين من العاملين فيها لايتصفون بصفة الحيادية في نظر المطالبين بالمقاطعة, مثلان اردت ان ابدأ بهما حديثا ارجو ان يكون اعمق من التعليق اليومي السريع وهو حديث لايخصنا وحدنا فقط, وانما يخص العالم اليوم في السباق نحو بناء استراتيجيات عامة للدول وهذه الاستراتيجيات تتمحور حول اربعة محاور هي السياسة والمال والحرب والثقافة, وتحت الاخيرة تندرج استراتيجية الاعلام والفضائيات احدى اذرعها الفاعلة. منذ بدء التسعينيات وثقافة الصورة والبث الالكتروني يلفان الكون منذ بدأت الـ CNN غزو العالم بالصوت والصورة, وتبعها في ذلك شركات بث كبرى في اوروبا وآسيا وفي عالمنا العربي شهدنا منذ التسعينيات, شركات عملاقة مثل الاوربت والـ MBC والـ ART وغيرها من الشركات التي تبث البرامج التلفزيونية عبر الحدود, تبعتها دول وعواصم اطلقت محطاتها المحلية فضائيا وكثير منها بغير عدة ولاعتاد, ولم نشهد حتى الآن نهاية لهذا السباق العربي الفضائي الدولي, فنحن نعرف ان دبي مثلا تقوم بالتخطيط لمحطة فضائية عملاقة ستكون متوافرة في سوق الفضائيات العربية بعد فترة وجيزة من الزمن, ونحن نرى البدء وان لم نتبين خط النهاية فهو بعيد. ثقافة الصورة وبلاغتها تخطت بلاغة الكلمة, وهي حالة جديدة من الاستقطاب الثقافي والسياسي, والاحتمال الاقرب في المستقبل مع جبل المدمنين على الشاشة الصغيرة, او زهاد الشاشة كما تسميهم بعض الادبيات الحديثة من الجبل القادم, ان تصبح الصورة الالكترونية والومضة السريعة هما المرجعية الاساسية لثقافة الاجيال المقبلة. ولكن السؤال الذي لم نجب عليه حتى الآن لماذا يتجه المشاهد العربي بشكل عام او لا اقول بشكل حصري الى الفضائيات الاخرى متخطيا البث الوطني الحكومي؟ ولا اقول ذلك رجما بالغيب ولكن الدراسات بين ايدينا تقول لنا ذلك, ففي دراسة لمصلحة مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية في ابوظبي ــ شاركت فيها ــ ومن خلال عينة كبيرة لابناء دول مجلس التعاون وصلت الدراسة الى ان الاغلبية من المشاهدين يفضلون متابعة المحطات الفضائية الخارجية اي غير الحكومية, وفي مؤتمر عقد في نهاية العام الماضي في مدينة الحمامات في تونس توصل المجتمعون الى ما سموه انقطاع حبل السرة الذي يربط بين محطات التلفزيون الحكومية وجمهورها, ذلك غيض من فيض من الدراسات العلمية, وبين ايدينا الكثير من الدراسات التي تؤيد هذا المنحى, فما السر في ذلك؟ بعض السر يكمن في أن هذه المحطات التي يقبل عليها الجمهور قادرة على ان تتعامل بحرية أكبر مع قضايا الاختلاف وهي كثيرة ومتعددة في مجتمعنا العربي, بعكس المحطات الرسمية التي تتهيب تناول قضايا الاختلاف وتبتعد عن الخوض فيها, والاختلاف هو سنة الحياة من جهة وسمة العصر من جهة اخرى, تلك الفلسفة العامة وراء طرح قضايا الاختلاف, اما تفاصيلها فان الامر يحتاج الى مساحة من التدريب والابتكار والدعم المادي والمرونة الفائقة في اتخاذ القرار والتي تفقدها بالضرورة المحطات الرسمية, التي كثيرا ما يديرها بيروقراطيون وموظفون خاضعون للوائح وسلم درجات وهم مقموعون بطبيعتهم الوظيفية بعيدا عن الابتكار والتنويع, لذا فان الاقبال الكبير على المحطات الفضائية الخارجية ليس لأن هذه المحطات محايدة او تقدم الافضل, بل هو في اغلبه هروب من واقع أليم تعيشه الاجهزة الاعلامية المحلية ويستطيع توصيفه اي عامل متفتح في هذه الاجهزة. وهناك معادلة اصبحت معروفة لأهل الشأن الاعلامي, تقول انه كلما ضيقت المحطات المحلية على المواطنين في تقديم الحوارات النافعة والترفيه الممتع والجديد في العالم, اتجه الجمهور المحلي الى المحطات الفضائية الخارجية, ودليلنا على ذلك انه حتى المنازل المتواضعة في عالمنا العربي تجد من أساسيات ساكنيها تركيب اللاقط الفضائي فوق اسطحهم او في شرفاتهم, فأصبحت سمة من سمات الفخر بين الناس ان يلحقوا بالعصر الالكتروني المتفجر. يشارك التلفزيون اليوم في تعديل شبكة الاتصال التقليدية ويساهم في التنشئة الاجتماعية والسياسية والاخلاقية للشعبو, ويلقن اصول وقواعد الانخراط الاجتماعي في المجتمع, كما ان التقدم الهائل في تقنية البث وما تقذفه علينا التقنية ومن ابتكارات ووسائل وطرق للاستقبال تتغير كل فترة وجيزة بشكل جذري, وتساعدنا على التقاط البث الخارجي الذي تصبح اجهزته اسرع واصغر كل يوم, ويفرض علينا هذا كله تحديات لا تتيح حتى التروي. ولكن السؤال المطروح علينا جميعا هو: هل هذه الفضائيات الموجودة اليوم والتي تبث الساعات الطوال, هي لاقناع المواطن بالصواب من الامور أم اغوائه بتحسين المنكر السياسي, خاصة في برامج الحوارات السياسية والاجتماعية؟ هل الشكل المبتور من المعلومات الجزئية والسريعة التي تقدم دون قدرة للمشاهد ولا وقت للتدقيق الصحيح تصب في (دمقرطة) الجمهور ام زيادة ردم قدرته على الحكم الصحيح عن طريق غمره بالعبث الغوغائي؟ هنا تدخل عوامل كثيرة تحدد مخرجات ونتائج البث, فالفارق بين الدمقرطة والغوغائية هو فارق دقيق تفصله شعرة, وتعتمد هذه الشعرة على فلسفة القائمين على المحطة وثقافة المقدمين للبرامج وفلسفتهم الاجتماعية. في عالمنا العربي تختلط متطلبات الاثارة والاستعراض بالمعلومات المضادة وبالسباق لحشد المشاهدين, لذلك اصبح الموضوع الكويتي ــ خاصة في تناول محطة الجزيرة له ــ موضوعا يثير حساسية واتهاما بعدم الحيادية في العرض, و بصفتي من المهتمين والقائلين ايضا بشعار التعاون مع النقد, فقد طفقت ابحث عن اسباب هذا التحيز لدى بعض المقدمين للمادة الخاصة بالكويت في محطة الجزيرة, فوجدت في ارشيفي موضوعا عن مستقبل التفاوض بين اوربت والمحطة التلفزيونية العربية الصادرة من الـ BBC ويعود الى سنة 1993 وقتها كانت المفاوضات جارية بين الاوروبت والـ BBC العربية للنقل الفضائي, وكانت الامال معقودة على تراث هذه المحطة في التوازن الاخباري الذي يمكن ان يقدم للمشاهد العربي من محطة تلفزيونية تتكئ على تراث من الموضوعية, نقل المحرر حديثا لسامي حداد الذي وصفه المحرر بأنه أرفع الموظفين العرب رتبة, وتطوع لبث النشرات الأولى التجريبية بنفسه نظرا لخبرته وقال حداد للمحرر وقتها (نحن نعمل في هذه المهنة منذ خمسة وعشرين عاما ونعرف ما يثير المشاعر وما لايثيرها .. ولم نتلق حتى الآن اعتراضات جذرية حول ما نتحدث عنه, ولن يختلف الأمر في برامجنا العربية, وأريد أن أؤكد أن هيئة الإذاعة البريطانية اكتسبت شهرتها لأنها تركز على الحقيقة والوقائع ولاتختلق الأخبار وهذا ما سنستمر في فعله) هذا ما قاله حداد وقت ذاك, ونحن نعرف بعد ذلك ما آلت إليه تجربة الأوربت مع الـ BBC التي انتهى جل عامليها للعمل في محطة الجزيرة في الدوحة. ولا اعتراض لي ولا يحق لغيري أن يوجهه, فأنا أعرف قبل غيري أنه لايوجد إعلام محايد, وقد نشرنا في سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب في الكويت منذ زمن كتابا سماه مؤلفه الأمريكي (المتلاعبون بالعقول) وكان إثباتاً حيا على عدم حيادية الإعلام الأمريكي الموجه للمجتمع الأمريكي نفسه, فما بالك والبيئة الثقافية تختلف كليا, ومع إيماني المطلق بأن الحوار لايفسد للود قضية, إلا أنني أتمنى أن تسود أخلاقيات مهنية متعارف عليها حتى يمكن الركون إلى بقايا تجربة (هيئة الإذاعة البريطانية) ويكون فيها مقدم البرنامج حياديا ما أمكن, خاصة في وجود متحاورين اثنين أو أكثر لهما بالضرورة وجهات نظر متعارضة, هنا يكون التكافؤ في الفرص مطلوبا, وحتى لو قبلنا أن يثير قائد الحوار خلافات تتعلق بموضوع ما يقدمه مع أطراف الحوار فإن المفترض أن يكون ذلك بشكل متساو بين الطرفين ولايظهر المحطة التي يمثلها بأن لها وجهة نظر مسبقة في الموضوع المطروح, وخوفي أن يكون تراث الـ BBC قد افتقد بسبب افتقاد المرجعية التي كانت تحدده, وخوفي الأكبر أن يدعي البعض أو يظن خطأ أن لامرجعية أو تراث للحوار في الجزيرة. قلت هذا الكلام للاخوين فيصل القاسم وسامي حداد في الدوحة, وقاله غيري لغيرهما ربما احتفاء وحبا وتصميما وغيرة على نجاح تجربة يحتاج اليها الجمهور العربي, وقد جاءتني رسائل كثيرة من مشاهدين محايدين لاحظوا عدم الحيادية في المقدم, وارسلت بعضها لسامي حداد طمعا في ان يعرف ان الجمهور لديه وعي أكثر منا وان تكون الجزيرة الخارجة من الدوحة دوحة للحوار البناء لنا جميعا.

Email