قراءة أخرى لـ (تأمل مسيحي) بقلم - د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قصدت من الحديث ــ الاسبوع الماضي ــ عن مقالة الدكتور الانباء يوحنا قلته, النائب البطريركي للاقباط الكاثوليك, الاشارة الى بعض الدروس المستفادة من تلك المقالة . خاصة في زمان كثرت فيه الفتن وبرزت فيه نبرات عنصرية او مذهبية طائفية وذكرت في ذلك الحديث, الدكتور الانبا يوحنا ببعض ما يستحقه في ضوء ما اثبته في مقالته (رمضان كريم... تأمل مسيحي) المنشورة في صحيفة الاهرام في 21/1/1998 واثنيت على مقالته التي تضمنت عبارات ايجابية صريحة ذات صلة برسول الاسلامي محمد صلى الله عليه وسلم والتي تضمنت كذلك, وقفة متسمة بالاجلال والتعظيم لشخصية الرسول. وحيث ان تلك المقالة, كانت حافلة بتلك العبارات التي تعبر عن موقف طيب تجاه الثقافة الاسلامية فانها تستحق لفتة تنوه وتشيد بصاحبها ومضمونها ولكن يبدو ان ذكر الانبا يوحنا والثناء عليه وعلى مقالته لم يكن ليريح بعض الناس, ممن لازالوا ينظرون بعين الشك والريبة الى اي منتم فكري او ثقافي اخر. ويبدو كذلك ان هؤلاء مدفوعون الى ذلك من مبدأ وضع جميع الاخرين, دون تمييز, في سلة واحدة ومن ثم اطلاق الاحكام والاوصاف المقرونة بالفساد والشر على اولئك (الاخرين) . ولاشك ان هناك اسبابا عديدة وراء وجود هذه الازمة الفكرية التي اوجدت التباسا ظاهرا في الموقف من (الاخر) والتعامل معه سواء أكان هذا الامر منتميا الى عقيدة دينية كتابية كالمسيحية مثلا او كان منتميا الى اي مذهب فكري او ايديولوجية وضعية. ولعل احد ابرز واخطر تلك الاسباب هو القراءة الخاطئة, والفهم الخاطىء لما تفيده نصوصنا الشرعية, من القرآن والسنة وذلك بعد ان تقطع هذه النصوص من السياق الذي وردت فيه وتجرد عن الاسباب التي كانت وراء نزولها. او يكون ذلك بسبب عدم معرفة بخصوص تلك النصوص من عمومها الى غير ذلك من الشروط التي استقر عليها العلماء عند تفسير القرآن الكريم. وتتجلى خطورة هذا الامر بحسبانه موقفا عقديا دينيا من (الاخر) والذي هو في حقيقة الامر غير دقيق او غير صحيح البتة وذلك بالنظر لافتقادها للاسس السليمة الصحيحة التي اشرنا اليها, ولاهمية هذا الموضوع فان هناك الحاحا شديدا لبحثه ودراسته لتوضيح وبيان حقائق تلك الامور مما شابها من تلك الملابسات. بعد هذه المقدمة, احسب انه من الاهمية بمكان الاشارة والتأكيد مرة اخرى الى ما ورد في مقالة الانبا يوحنا قلته. واحسب كذلك انها قضايا هي بمثابة دروس مستفادة من وحي تلك المقالة. اولى تلك الفوائد, اغتنام تلك الاشارات الايجابية الصادرة عن المثقفين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والعقدية وذلك لاشاعة الثقة وبث التسامح او احيائه في اوساط العامة, سيما ونحن بصدد افتعال ازمات واشتباكات فكرية, لا تبرير دينيا لها. ولاشك ان منطق الشرع والعقل يستدعي استثمار صوت الحق والاعتدال أيا كان مصدره اسلاميا او مسيحيا ام غيرهما. ليسوا سواء يمكن اعتبار مقالة الانباء يوحنا (تأمل مسيحي) من الشواهد الدالة على انه ليس كل الاخر شرا وانما الوصف بالخير والشر يقوم اساسا على الاعمال التي يقوم بها المرء والصفات التي يحملها. ولا ريب ان المواقف التي يقفها الانسان تعكس في الغالب تلك الاعمال والصفات ومن ثم يكون من الطبيعي ان ينظر الانسان الى الغير وفق هذا التصور وبصرف النظر عن انتمائه الديني والعقدي, فذلك امر يتولى رب العالمين الفصل فيه. وانسجاما مع هذا التصور فانه يجب ذكر ما يقوم به الاخرون من اعمال حسنة ومبادرات طيبة والاشادة بها. وقد جاء مضمون مقالة الانباء يوحنا من حيث موقفه من شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في اطار تلك المبادرات الايجابية. وكذلك كان موقف البابا شنودة بابا الكنيسة القبطية من التأكيد على مشروعية الجهاد لتحرير ـ القدس ــ باعتباره الوسيلة الوحيدة لطرد المحتلين اليهود منها وكذلك كانت تأكيدات البابا شنودة على مسألة منع اقباط مصـر زيارة اسرائيل ولو بهدف الحج حيث ان هذا الحظر له اثر اقتصادي وسياسي على اسرائيل ولاشك ان هذه المواقف لا تستدعي منا الا التنويه والاشادة. ويحضرني بمناسبة الحديث عن (ليسوا سواء) ما اسهم به عالم امريكي متخصص في القانون الاسلامي والذي الف كتابا فيه (اي في القانون الاسلامي) عنوانه (البحث عن القانون الالهي) وقد عنى به القانون الاسلامي بمصادره المتعددة القرآن والسنة والاجماع والاجتهاد وما ابتكره علماء الاسلام في ذلك من القواعد والاصول الدالة على سعة افق وبعد نظر وفقه دقيق وعنوان الكتاب ــ بلا ريب ــ دال على مدى تقدير المؤلف لموضوعه ومحتواه. ادب الخلاف مقالة الانبا يوحنا فيها تأكيد على الاسلوب الحضاري الذي ينبغي اتباعه مع المختلفين في الرأي والنظر. وهو ينطلق من مبدأ احترام (الاخر) بصرف النظر عن مدى الاتفاق والاختلاف معه. وقد كان الانبا يوحنا موفقا في تطبيق هذا المبدأ, وتجلى ذلك في الادب الحافل بالاعجاب والتواضع لشخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولعل خاتمة مقالته التي قال فيها سيدي نبي الاسلام, رسول الحضارة, تقبل حبا واجلالا من مسيحي في الشهر المبارك, تعبر عن ذلك بوضوح. ولاشك ان اوساطنا الثقافية بحاجة ماسة الى شيوع مثل ذلك الاسلوب عندما يبدو الخلاف في الرأي او المذهب. واذا كانت ساحتنا الفكرية تفتقد في كثير من الاحيان روح التسامح ويسود فيها الفكر الاستئصالي ويغيب عنها ادب الخلاف, فان مرد ذلك الى الفجوة الهائلة بين مبادىء الشريعة وثوابتنا الثقافية وبين الواقع المعاش من حيث الالتزام بما تقتضيه تلك المبادىء والثوابت. وهي الفجوة التي اسهمت الى حد كبير في غياب المشروع الحضاري للامة ومن ثم في احداث ذلك الخلل المشهود. ولعل نظرات فاحصة فيما يحويه مصدرنا الفكري الاول, القرآن الكريم, كافية للتعرف على اسباب تلك الظاهرة. من تلك النصوص, قول الله عز وجل (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن) وقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم, ان الله يحب المقسطين). وعلى افتراض وجود خصومه مع (الاخر) فان ذلك لا يعني بالضرورة الاعتداء عليه كما ان ذلك لا يعني الحاق الاذى والظلم به تحقيقا لقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى). عندما تأملت في هذه النصوص, وقارنتها بما كتبته في الاسبوع الماضي حول ما ورد في مقالة الانباء يوحنا. وجدت في ذلك انسجاما تاما مع روح تلك النصوص. ولم أجد ــ حسب تحفظات (البعض) ــ اي جنوح نحو موالاة من نهى الله عن موالاتهم في كتابه العزيز. بل على العكس من ذلك تماما فان الاشارة والاشادة بتلك الاقلام هي المطلوبة شرعا وعقلا.

Email