الوجدان الامريكي ... في المحرقة - بقلم: د. حسن ملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

ساندي بيرجر, مستشار يهودي في البيت الابيض لشؤون الامن القومي, قال ان هدف بلاده هو تحطيم قدرات العراق... لا في مجال اسلحة الدمار الشامل فحسب بل حتى في مجال الاسلحة التقليدية ليتفق في هذا السياق مع ما كان قد صرح به محمد حسنين هيكل اذا اكد بأن الغرض الامريكي من ضرب العراق هو انهاؤه كقوة عربية موجودة... تحقيقا للهدف الابعد المتمثل في (تسييد) اسرائيل في المنطقة. كيفوا انفسهم لرغبات امريكا المفجعة حتى وان صممت على انهاء كل الجيل العراقي الجديد, اذ ان الانباء ان هولت برقم المليون طفل الذين قضوا من جور العقوبات فإن هذا الرقم هو في كل الاحوال اكثر بكثير من نصف مليون طفل ولان المأساة مرشحة للتفاقم تدريجيا فإن رقم المليون ليس ببعيد حتما! صانعو السياسة في الشرق الاوسط هم قلائل اذا ما قصرناهم عن البيت الابيض , اولبرايت وكوهين وبيرجر وروس وانديك... وجميعهم من اليهود, اضافة الى بيل كلينتون (آخر الصهاينة) الذي يبدو وكأنه قد اصبح (مستهكا) فصدر القرار بانهاء خدماته عن طريق الفضائح اللا أخلاقية فمونيكا لوينسكي ومحاميها وليام جينسبرج هما من اليهود ايضا. ماهو مستغرب حقا هو ان امريكا, في الشرق الاوسط, تسعى على خطين متناقضين في آن واحد, فهي تسعى للحرب في ذات الوقت الذي تدعى فيه سعيها للسلام, وان احتجت مرارا بأنها في سعيها للسلام ليست اكثر من (ساعي بريد) تفسيرا لكلمة (رعاية) فإنها في سعيها للحرب هي الساعي والبريد معا, تصميم في الحرب وتهافت في السلام رغم ان في الناحيتين (مصالح قومية امريكية) مهدده او انها قابلة للتهديد, وهذا كله تبعا للتفريق بين العراق واسرائيل حيث في مرتكزات هذا التفريق بالذات قد تستطيع استخراج حجم وحيثيات اللعبة. الوجدان الامريكي واسع النطاق والارجاء ومع ذلك فانه لم يتسع على نطاق منطقتنا سوى للمحرقة اليهودية رافضا ان يسمع شيئا عن المحرقة العربية فالامريكيون شعب مختار... كاليهود والعرب ان اعتبرهم الله كذلك الا انهم في سلوكياتهم حتى الان لم يبرهنوا على التواضع بقدر ما برهنوا على ا لاستهانة والاذلال. رغم ان في شعاراتهم ادعاءات بسبق الكل الا ان الكل قد سبق , ولو انهم قد راوحوا في ذات النقطة لكانوا احسن حالا... لولا انهم في كبوات (تراجعية مستمرة) هي التي بررت لامريكا واسرائيل معها من أجل اقناعهم بجدوى (احتوائهم) . في قضيتنا لايوجد لا انهزامية ولا تباكي على الذات ندبا على الماضي بقدر ما نحاول التعرض للمأزق في محاولة اخرى لــ (نفض الغبار) عن الذاكرة. السلام هو مقابل الحرب الا ان مقابل الحرب لن يكون ابدا مقابلا للسلام, ومع ذلك فان حسابات الربح والخسارة هي دائما لصالح امريكا واسرائيل لا لصالحنا... على اساس اننا نحن الذين نسدد. وبالضحايا والمال ايضا. طبيعة الوجود الاسرائيلي فوق صدورنا تتطلب جر المنطقة الى حروب متجددة ولان الحرب تكلف اسرائيل كثيرا فقد قررت لها امريكا... قررت ان تكون الحروب عربية ـ عربية ظاهرة مبتذلة وبشعة الا انها تمثل واقعا حتى نحن العرب لم نعد نجهله. امريكا تراهن على حاجتنا اليها واسرائيل تراهن على حاجة العرب لامريكا فالعرب اذا ودعوا الحرب واختاروا السلام قد كشفوا للاعداد عن (ضعف) برعت حتى الان واشنطن وتل ابيب في استثماره لاحلال مزيد من الضعف واذا ما كان لهما ذلك... ولو على المدى الطويل انقلب الجميع الى (عراق) اذ ان في هذه النقطة بالذات يكمن سر امريكا وطاقم مسؤولياتها من اليهود المستهدف الاجهاز عن هذا البلد العربي. تلك هي اذن تتمة محرقة العرب المعاصرة التي بدأت باغتصاب فلسطين... ان لم نشأ الغوص في التاريخ والتي بعد ان قلصت من الارض اتجهت للتقليص من الناس والذاكرة معا, الى ان اخذنا نتقبل دفع الفدية في اطفال بني صهيون لا في اطفالنا ـ ان لم نشارك امريكا في قتلهم ـ استمرارا لماكنا تقبلناه في استبدال هياكل عظيمة يهودية بهياكل بشرية عربية لعلها تذكرنا دوما بالتولي يوم الزحف. تهمة ثقيلة الا انه لامناص منها ومن يرفضها هو كمن يرفض النظر الى نفسه في مرآة فاصحاب الخطوات الاولى في الخنوع ان لم تهمهم حتى انفسهم فكيف لنا ان نقنعهم بأن العراق عربي وان اطفاله هم اطفالنا وان التبرء منهم هو اشبه بمن يتبرأ من جلدته, الا اذا نحن صدقنا مقولة بيل كلينتون في انه اذا ما سمح لصدام باعادة بناء ترسانته العسكرية دون منع فلن يكون اطفال المنطقة بمأمن وهذا صحيح اذ ان صدام هو الذي ارتكب مجزرة قانا وهو الذي هشم عظام الفلسطينيين ليمنع ايديهم من قذف الحجارة. حرب من اجل السلام وحرب من اجل الابادة وهذه وتلك مرشحتان للنيل من المستسلمين والمتمردين معا, اذا ما نحن سألنا صدام عن حرب الابادة فمن الاجدر لنا ان نسأل عرفات عن حرب الاستسلام فهو الافضل تجربة حتى وان لم يرضى بعد لامريكا ولاسرائىل! عندما ضاقت الدنيا بصدام اباد بـ (كيماوياتة) اكراد حلبجة وعندما انفرجت له بأساريرها احتل الكويت. نتانياهو من جهته قد ضاقت به الدنيا فنفض المواثيق والقى باتفاقيات السلام في المزبلة... واذا ما انفرجت له بأساريرها فلا نظنه سيفعل اقل من صدام لابالعراق فحسب بل بدول اخرى. حتى الان فان الدنيا منفرجة بأساريرها لامريكا فلا غرابة ان تتجة لتأكل الاخضر واليابس لتصلب الناس او لتشرب من دماء اطفالهم... فتلك امريكا التي لن تفرط في حضارتها حتي لو اضطرت الى دفن شعوب الارض جميعا في بئر واحد. اولبرايت قالت بانها ستعيد العراق الى العصر الحجري, ساندي بيرجر قال بانه سيحطم قدراته في اسلحة الدمار الشامل والتقليدية معا, وليام كوهين في سريرته لامانع لديه من محو العراق من الوجود اما بيل كلينتون فاذا ما ضاقت به الدنيا بفعل حصار فضائحة الاخلاقية فانه على استعداد للاقدام على اية عملية انتحارية تحذف العراق وكل من حوله من الخارطة البشرية, لكي لاتبقى سوى اسرائيل فاسرائيل بمن فيها من القتلة والمهووسين والمتطرفين والمرتزقة المستوطنين جميعهم (شعب مختار) اختارهم الله وامريكا تختار فوق الارض من تريد, احياء لنظرية الحق الالهي الكنسية. نتانياهو وعقب اتفاق عنان في بغداد قد تأسف اذ فوت على اسرائيل الفرصة لتشهد دفن العراق تحت الرمال ومع ذلك فانه لم يقطع الامل نهائيا وينتظر الا تذهب صلواته امام جدار المبكى هباء واذا ما حدث فانه سيعيد الخيار لاسرائيل ان شاءت ضربت بدلا من امريكا وان شاءت لم تضرب وفي الحالتين نظن بأن كوفي عنان يستعرض خاصة وان اتفاقه لم يرق لمادلين اولبرايت, اذ هددت بالغائه واذا قررت امريكا سد بعض ثغراته التي لم تعجبها فأن سد الثغرة الكبرى تبقى من اختصاصات القول بالحرب... وبالسلام ايضا. هوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا يقول بان زعزعة استقرار العراق سيكون تصرفا غير مقبو ل بسبب عدم الاستقرار الذي تعيشه منطقة الشرق الاوسط. فرنسا وفضلا عن فيدرين دائما تخشى تفجيرا محتملا في ظل المشكلة الكردية والمصالح النفطية والتغييرات التي لم تتضح بعد في ايران وتعطيل عملية السلام واشياء كثيرة تعرفها فرنسا مثلما تعرفها امريكا وروسيا وانجلترا والصين.. وحتى اسرائىل ولكن لمن الكلمة الاخيرة ياترى؟ امريكا لم تحقق ماتريد واسرائيل ايضا الا ان امريكا لن تمنع اسرائيل من ان تحقق ماتريد, فالعرب في المفهوم (النتنياهي) لا يفهمون الا (لغة الردع) ولغة الردع لابد وان تمر من العراق اولا.. انطلاقا من (مسودة التسويق) الامريكية التي لم يعرف ريتشارد باتلر كيفية التعامل معها بدبلوماسية لبقة وكأنه لايملك ذات الصبر الذي كان لإكيوس. غطرسة السياسة الامريكية قد تمكن كوفي عنان من تكميمها ولكن الى اجل الا ان امريكا لن تفوت له هذا التطاول فهو اما انه مع امريكا واما انه ضد امريكا كأمريكا ذاتها التي هي اما مع اسرائىل واما مع اسرائيل.. اي انها لن تكون ابدا مع العرب ولا بأي حال (من الاحوال ولقد افهمتهم امريكا هذا الموضوع الا انهم يصرون على الايفهموا.. فما هي الاسباب ياترى! اسرائىل قد اغتصبت الارض العربية وامريكا قد اغتصبت منظمة الامم المتحدة اسرائيل لم تترك شيئا للعرب وامريكا لم تترك شيئا للعالم. وكلاهما يتزعم حربا بلا نهاية وكلاهما ايضا باسم الامن القومي حيث ان قيل بأن العرب يهددون ما يختص باسرائيل... فقد نفهم الخلفيات في ذلك اما وانه يقال بأنهم يهددون ما يختص بامريكا فأننا لانفهم حتي وان اصبحت خلفيات مزمنة تتشدق بها متى شاءت وكيف شاءت وحين شاءت.

Email