بين اعلام ملتبس ووعي كاذب أمريكا وأمن الخليج بعد اتفاق عنان: بقلم- الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فرض الاتفاق الأخير بين العراق والأمين العام للأمم المتحدة على أهل الخليج التفكير من جديد ــ وبجدية اكثر هذه المرة, وبعقل مفتوح ــ التفكير في الأمن الاقليمي, لا لأن العراق قد حقق نصرا من ذلك الاتفاق, وقد يعيد الكرة في طلب التسلط (وهناك البعض ممن يرون ذلك) , ولكن لأن بعض ما حدث في الأزمة الأخيرة بين العراق والأمم المتحدة يفرض علينا أن نتفكر في شؤون أمن منطقتنا من جديد. لقد خرجت اصوات عديدة, سياسية واعلامية, تشجب الموقف الامريكي من زوايا عديدة مختلفة, ليس في نيتي هنا الحديث عنها أو عن دوافعها بالتفصيل, ولكن ما يهمني ان أبين أن هذه الاصوات جاءت من خلال بعض وسائل الاعلام الرسمية في بعض دولنا الخليجية. سواء قال البعض عن حسن نية أو قلة معرفة أو غير ذلك, فالنتيجة واحدة وهي تصب في مجرى مضاد على طول الخط لمصالحنا الحيوية, بل وبقائنا ذاته, بعض دوافع هذا التوجه جاء في سياق نهج ثقافي تربى عليه جيل كامل في الخطاب السياسي والاعلامي الرافض للغرب بشكل مطلق, وهو خطاب مزدوج ومرتبك. وان كان التسامح حوله مقبولا في الأيام الخوالي لأن ضرره بعيد, فإن كشفه في هذه الأيام ضرورة لأن خطره قريب بل دان. ويكفي لبيان ارتباك هذا الخطاب وتناقضه, التذكير فقط بحقيقة قائمة وهي ان جميع دول الخليج قد عقدت اتفاقات أمنية بشكل أو بآخر مع بلاد عديدة منها القوى الكبرى في العالم, وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية, ولم تعقد هذه الاتفاقات حبا فيها ولكن لمعرفتها الأكيدة ان الطمع المغلف بأغلفة كثيرة للنيل من استقرار هذه المنطقة وتطور شعوبها من قبل قوى محلية, قد تخطى الآمال والأقوال الى الأفعال, ولا يزال قائما ومتربصا بالاستقرار في منطقتنا وبمصالح شعوبنا. كما أنه من المعروف ان الأمر المطروح ليس أمن دول الخليج فقط بل أمن المنطقة ككل وأمن العالم, والمصالح هنا ليست المصالح الضيقة للولايات المتحدة فقط, وهي حقيقة, إنما هي ايضا مصالح دولية اكبر, فالبترول الذي هو الثروة المهمة والذي تنتجه المنطقة الخليجية ويعتبر سلعتها الحيوية الاولى لا يذهب الا القليل منه الى تلك البلاد البعيدة, اي الولايات المتحدة ومعظم بترول الخليج يذهب الى جنوب شرق آسيا واليابان, ولكن الصحيح ايضا ان الولايات المتحدة والغرب عموما يهمهما كثيرا استقرار الاقتصاد العالمي ومنه اقتصاد جنوب شرق آسيا. وبما أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المؤهلة ــ مع دول قليلة اخرى ــ لاستخدام هيبتها ونفوذها, بعد أن اصبح العالم ذا قطبية واحدة, لتثبيت الاستقرار وردع المغامرين والعابثين بأمن العالم, كونها المسؤولة عن الأمن العالمي, ونحن لم نعد اليوم ــ ان صارحنا أنفسنا ــ قادرين او راغبين في أن نعرض أمننا للخطر وبقاءنا للزوال في ظل قوى اقليمية لا تضمر الشر فقط ولكن تمارسه ايضا, ليس على الجيران وحدهم ولكن على شعوبها, وليس بوسعنا والأمر كذلك ان نبقى مكتوفي الايدي نتفرج على انفسنا ونحن نذبح كالنعاج او ننثر في الأرض مشردين, لأننا نقدم مصالح الآخرين على مصالحنا. فما بالنا ننقد بقسوة ونطير النظريات التي ما انزل الله بها من سلطان في وجه من يريد مساعدتنا للبقاء احرارا في اوطاننا, ارضاء لما يطرب له العوام او مسايرة لمصالح آخرين, هم انفسهم يستجدون حتى الحوار مع الآخر وبعضهم يقيم معه افضل الصلات, أليس في ذلك ثنائية ممجوجة؟ بعض الخطاب الاعلامي والسياسي في بعض دول الخليج انساق وراء نوستالجيا عربية بعيدة عن التعبير عن مصالحنا الذاتية, وقد غاب عن وعي البعض ان الولايات المتحدة اليوم تقدم معونات كبرى لبعض الدول العربية الكبيرة اقتصاديا, كما ان القوات الامريكية تقوم بالمناورات المشتركة مع جيوش هذه الدول, بل ان قوات امريكية للسلام لا تزال واقفة على حدود بعض الدول العربية مع اسرائيل, تلك حقائق موضوعية يجب عدم القفز عليها. في جانب آخر نحن نشارك شجب الموقف الاسرائيلي المتعنت تجاه الحقوق الفلسطينية وكذلك السورية واللبنانية, كما ننقد الولايات المتحدة فيما نراه خطأ سياسيا ولكن ليس منا حتى الآن من وقع اتفاقات مع اسرائيل, كما اننا نعارض الدعم غير المحدود لاسرائيل من قبل الحكومة الامريكية,ليس فقط من اجل الحقوق العربية ولكن ايضا حفاظا على امننا الذي نرى من خلاله ان اية دولة في الشرق الاوسط تحتفظ بقوى تدمير شامل هي خطر علينا. ولكن الخطر القائم فوق رؤوسنا هو خطر مجرب في استخدام اسلحة الدمار الشامل, ويزداد الخطر ان كانت هذه الاسلحة في ايدي قوى سياسية لا ترجع الى شعوبها, اي حكومات غير ديمقراطية ضاربة في التكبر والدكتاتورية, والمقارنة واضحة, فالرئيس الايراني على سبيل المثال نعرف جميعا انه بعد اربع سنوات سيعود من جديد للشعب الايراني ليقرر ان كان سيعيده الى السلطة ام يستبدله بآخر, وهو بالتأكيد لن يكون هنا في السلطة بعد ثماني سنوات, وكذلك نتانياهو على صلفه, نعرف ان الاسرائيليين سيقولون كلمتهم فيه بعد انقضاء مدة رئاسته بل ربما قبلها, ولكن متى يمكن ان يعود صدام حسين مثلا لصناديق الانتخاب الحر وغير المشروط ليعرف الرأي الحر للشعب العراقي فيه, لا احد يعرف على وجه الدقة؟ لقد فوجىء العقلاء منا بأطروحات اعلامية وسياسية في الآونة الاخيرة تنتقد بشدة من جاء للمساعدة ولو في جزء ضمن مصالحه, وتبرر في نفس الوقت لمن اضمر العدوان وقال به ليل نهار وتصرفاته واقواله تدل على ذلك, وكأن الامر ــ في رأي هؤلاء ــ ان وقعت الواقعة سيجعل النظام العراقي يفرق بين من ناصره ومن نقده, هذا النظام مع الاسف يعاني من اعاقة داخلية ومن استحقاقات فات زمانها لشعبه في الحرية والتعددية, ولا يزال يعيش حتى اليوم اجواء الحرب الباردة, وفي الوقت الذي سقطت فيه الشمولية في العالم لا يزال متمسكا بهذه الشمولية في أسوأ أشكالها وممارساتها, كما انه لا يملك اية اجندة سياسية, وهناك الكثير من الشواهد على ذلك, أليس هو النظام الذي كان يحتفظ في الاردن سنة 1970 بعشرين الف جندي ومائة دبابة, وعندما استجار به الفلسطينيون في ذلك الوقت لم يجرهم, بل وكشف مؤخرة انسحابهم, أليس هو النظام الذي ارسل قواته سنة 1973 للحرب على الجبهة السورية, وبعد ايام سحب الجيش بحجة انه لا يوافق على قرار 338 الذي قبل به المتحاربون, أليس هو النظام الذي فضل تصدير نفطه عن طريق تركيا بدلا من سوريا, وقائمة طويلة تؤكد للعاقل ان الموضوع (القومي) الذي يتقول به النظام العراقي ويتلقفه البعض عن جهل, ما هو الا خرافة, وليس هناك مثل اكثر وضوحا لاختراق نظام صدام حسين الامن القومي العربي مثل غزوه واحتلاله للكويت غدرا في اغسطس سنة 1990. ان قيام بعض الاقلام في الصحافة والاعلام الخليجي بخلط الاوراق تحت شعار ما يسميه البعض (بالمصلحة القومية) في فترة الازمة الخطيرة, هو في حقيقته المساعدة في اشاعة وعي كاذب ومضاد للمصالح العليا في هذه المنطقة, بل وتهديد لبقائنا, فلم يفكر البعض بالمصلحة القومية صراحة عندما وقعوا معاهدات مع اسرائيل, بينما يطلبون منا اكثر مما نحتمل, وها هو النظام العراقي يوافق على ان تكون ما اسماه بمناطق (السيادة) مفتوحة للمراقبة الدولية, بل ويطلب عن اكثر من طريق الحوار مع الولايات المتحدة, ويوافق على ان تقوم لجان من الامم المتحدة وبها بريطانيون وامريكان (سماهم جواسيس في فترة سابقة) بالاشراف على استلام المال العائد من بيعه النفط وبمبالغ كبيرة لتراقب صرفه على الشعب العراقي, بينما اجواء العراق منزوعة السيادة, فهل يعني ذلك انتصارا أم خسارة قومية بالغة العمق. لعل ما حدث اخيرا من موقف اعلامي وسياسي وهو في البعض منه مضاد للمصالح الحيوية لدول وشعوب الخليج يدفعنا من جديد لاعادة حسابات عناصر امننا القومي في هذه البقعة من العالم, فاذعان العراق الأخير لم تحققه دبلوماسية عنان ولا خطابات الترجي التي طارت الى الرئيس العراقي من بعض العرب, فهو آخر من يحترم رغبة او رجاء العرب او يحترم الدبلوماسية, ما حقق الانتصار الدبلوماسي الذي يرحب به كل عاقل هو قعقعة السلاح المكدس في الخليج والذي جاء من اماكن بعيدة, وان منعنا هذا السلاح من القدوم فلن يحمينا من الثأر الذي يعشقه صدام حسين حاجز. لذلك لابد من اعادة النظر في خطابنا الاعلامي والسياسي على مستوى الخليج واعادة النظر في ترتيبات الامن الاقليمي الذي طال تلكؤه, ولابد ان نعرف ماذا يمكن ان نفعل من الآن وصاعدا لحماية انفسنا حماية جماعية, اعلاميا وسياسيا, قبل ان نفكر في الصياح مع الصائحين واللعن مع اللاعنين. رئيس تحرير مجلة (العربي) الكويتية*

Email