الفضائيات العربية والمشاريع القومية: بقلم- توجان الفيصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

حتى عامين أو ثلاثة مضت كانت العولمة المتأتية من وسائل الاتصال الفضائية الحديثة تعمل ضد الصالح العربي مائة بالمائة مثلها مثل باقي مكونات ووسائل تلك العولمة. وتذكر كيف انه اثناء ازمة وحرب الخليج الثانية وما بعدها أثناء جر العرب الى مؤتمر مدريد واتفاقيات اوسلو ووادي عربة... كانت محطة الـ CNN وبضع محطات فضائية أقل انتشارا تتولى صياغة موقف العالم من كل ما يجري. وزادت على هذا بأن صاغت لنا نحن العرب الكثير من مواقفنا وبدلت لنا في المرآة صورة وجوهنا ووجوه اشقائنا التي نعرفها من زمن. واستغرق العرب ــ أو غالبيتهم العظمى ــ سنوات امتدت الى ما قبل ايام فقط حين أقيم المؤتمر/المسرحية الذي اعدت له قيادات صهيونية في البيت الابيض الى جانب الـ CNN وسمي بلقاء الادارة الامريكية مع الشعب الامريكي. وكان الشعب الامريكي هو الذي كشف ان هذه مسرحية دعائية واعلنها للعالم. وهو ــ الى جانب محطات اخرى لم تنل ذات الخطوة عند الادارة المتصهينة ــ الذي اعلن افتقار هذه المسرحية لمقومات الحوار وللحد الادنى من الموضوعية في الطرح في التغطية على السواء وليكتشف العرب تبعا لذلك ولاءات محطة الـ CNN الحقيقية!! وفي المقابل, فان المحطات الفضائية العربية بدأت تملأ الفراغ الاعلامي العربي ــ العربي وبات بامكان المواطن العربي ــ او تلك الفئة التي تملك مستقبلات للاقمار الصناعية ان تتلقى الخبر والتحليل من مصدر غير تلك التابعة للصهيونية وللغرب. ولان الجمهور المستهدف هو كامل الشعوب العربية ولان التنافس بين الفضائيات العربية اخذ في التصاعد فان هذه المحطات لم تعد تملك سوى ان تخاطب بحرية وحياد وصدق, العقل العربي والوجدان العربي. ولا نقلل هنا من جهد القوميين الصادقين القائمين على الكثير من هذه المحطات أو البرامج ولكننا نؤكد على اهمية العامل التجاري والمنافسة التجارية في اكساب برامج هذه الفضائيات العربية درجة اعلى من الموضوعية والجرأة ونسبة اكبر من الانصياع لرغبات وهموم الجمهور العربي وليس لمصالح وضغوط حكام وحكومات الاقطار التي تتبع لها هذه الفضائيات او التي تقوم على ارضها. هذا مع العلم انه بالامكان ان تقوم فضائيات عربية على ارض غير عربية تماما كما تصدر صحف عربية في دول غير عربية بل ان الاولى اسهل في الايصال الى الجمهور العربي كون البث الفضائي لا يمر على مراكز حدود وتفتيش كما تمر الصحف مثلا. ومن هنا لا تملك الحكومات العربية الا ان تنصاع لمتطلبات المنظومة الاتصالية العربية الجديدة, بتفاوت يعكس اما التفاوت في درجة التعقل المتوفرة لدى تلك الحكومات, او درجة الضغط الداخلي والحاح الازمات الداخلية التي لم تعد تدار ربما في السابق عبر اغلاق الحدود على العقول والافكار والحقائق كما على البشر والسلع. ولعل خير مثال على هذا ما حدث في الاردن مؤخرا, على أرضية التباين ما بين الموقف الرسمي الاردني والموقف الشعبي في ازمة العراق الاخيرة والتهديد الامريكي بتوجيه ضربة مدمرة لهذا القطر العربي الشقيق. وامتدت حوارات الفضائيات العربية لتستوفر الاراء العربية جميعها في الازمة ومنها اراء قيادات شعبية اردنية جنبا الى جانب مع الرأي الرسمي الاردني وبندية وفرص متساوية لا يوفرها الاعلام القطري المملوك من قبل الحكومة او المدار من قبلها بأكثر من طريقة. وحين تحرك الشعب الاردني في مظاهرات رغم منع الحكومة له في وسط عمان وفي مدن مثل اربد ومعان اصبح هذا الامر خبرا عربيا ودوليا لعلاقته الوثيقة بأزمة ابعادها عربية ودولية. وتناولت الفضائيات العربية الخبر بالعرض وايضا بالتحليل الذي ساوى ــ مرة اخرى ــ ما بين قيادات المعارضة الشعبية وما بين القيادات الحكومية. وكان رد فعل الحكومة الاول ــ كما جاء على لسان رئيس الوزراء ــ مهاجمة تلك الفضائيات علنا لافساحها المجال للقيادات غير الحكومية وحتى للرأي الاخر المستقر من رجل الشارع الاردني... وحين فشلت محاولات الصدام او الاحتواء السلبي لتلك الفضائيات لجأت الحكومة لمحاولة الاحتواء الايجابي وذلك عن طريق تحسين (علاقاتها العامة) مع تلك المحطات ومحاولة وتوسيع المساحة المعطاة للحكومة دون قيادات المعارضة... فكان ان استضافت الحكومة الاردنية محطة الاوربت على ارضها وعبر بثها التلفزيوني ايضا. وهذه الاستضافة هي بحد ذاتها تسليم بهذه الوسيلة الاتصالية الفاعلية سياسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا ومع ان الذين استضافهم برنامج (اوربت على الهواء) هم رجال النظام ومعارض واحد من حزب اعلن انضواءه تحت خط النظام وتحالفه معه لاربعين عاما مضت. واعلن النظام ذلك واكده اي ان الحوار هنا مع تيار واحد داخل الاستوديو والتيار (الآخر) حقيقة لا تبقى له سوى المساحات الضيقة التي يمكن افتتاحها عبر الاتصال بخطوط مشغولة بطريقة تثير الريبة وليس فقط اليأس. ومن هنا فان اول: انجاز لتلك الفضائيات انها اصبحت محاكم محايدة ــ او شبه محايدة ــ ترفع لها القضايا الوطنية والقضايا القومية العربية وتسمع فيها كافة وجهات النظر على السواء والحكم فيها للشعوب العربية المتلقية. والانجاز الثاني المتحقق من سابقه, هو انه لم تعد هنالك شؤون قطرية محضة غير قابلة للبحث عربيا وبعد ما كانت كافة القوى المعارضة من قومية الى يسارية الى شيوعية الى اسلامية تقوله عبر عقود من نضالها وكانت الانظمة الحاكمة ترفضه. وها هي الان ذات الانظمة تقبل ان تحاور بهذا الشأن امام جمهور عربي ان لم نقل عالمي وتسأل بل وتساءل. ولا يتم هذا الحوار وهذا السؤال والمساءلة في امور عربية مثل ازمة العراق الاخيرة وتواجد الجيوش الامريكية والضربة المزمع القيام بها ولا يقف في الامور الداخلية عند حدود الديمقراطية بعمومياتها التي تهم العالم العربي بأسره ومساحاتها المشتركة عربيا... بل تدخل ضمن خصوصية الحالة في كل قطر... وهذا هو الحوار الاجدى ان كان للقضايا المشتركة او المتشابهة عربيا ان تصل الى نتائج مرضية فالمشكلة كانت في التسليم بالخصوصية القطرية وكأنها امر مقدس لا يجوز البحث فيه إلا داخل القطر وداخل القطر يجري قمع اي بحث لا يعجب حكومة وحكام ذلك القطر وبالنتيجة هي ان القطرية تقوى وتتحصن بهذا التوافق العربي الرسمي وتكتسب عوامل عملية تطبيقية لتركيبها بينما تضعف بالمقابل الطروحات والمشاريع القومية بحصرها في اطار النظريات العامة وابعادها عن اي تطبيق في اي قطر وبما ان الاقطار العربية هي مختبر التطبيق الوحيد للمشاريع القومية فليست هنالك ارض مشاع للتجريب فقط فان الفشل المحكوم به مسبقا على هذه المشاريع يعكس على الفكر القومي ويجد الحكام ذرائع جديدة للتنصل من التزاماتهم القومية والايغال في التقوقع في النظرية بحجة (الواقعية) مقابل ما يسمى بـ (أحلام) القومية وعودة الى المثال الذي اوردناه وقد اخترنا ان يكون مثالا من عندنا ولغيرنا ان يورد مثله من القطر الذي ينتمي اليه كي لا يشكك احد في حقيقة دعوانا القومية فان طرح الديمقراطية وهي هم ومطلب واستراتيجية عربية عامة لم يقف عند هذه العموميات, بل امتد الحديث الى مقومات انجاح الديمقراطية في كل قطر بما يتيح في النهاية تحقيق ذلك المطلب الاستراتيجي العربي على كامل الارض العربية. واهم ما امتد اليه البحث وكان يعتبر من قبل احد الممنوعات التي لا يجرؤ اي اعلامي اردني الخوض فيها دون التعرض للملاحقة القانونية وغير القانونية نحو ما سأله مذيع الاوربت الاستاذ عماد الدين اديب عن مدى توافق النظام الملكي الدستوري مع مستلزمات الديمقراطية ومؤسساتها وعن مدى توفر الالية اللازمة ضمن النظام الملكي لتوفير حق المواطن الديمقراطي في ابداء رأيه في الحاكم... وهي اسئلة بغض النظر عن الاجابات المقدمة بشأنها تم التعامل معها على انها مشروعة بدليل الاجابة ذاتها وليس الرفض والشجب. لقد دأب دعاة التنوير والديمقراطية والحريات في العالم العربي على امتداد عقود مضت على اللجوء الى الصحافة العالمية ومنظمات حقوق الانسان والديمقراطية العالمية وذلك لغياب المنابر والاطر التي تتيح الحد الادنى من الحوار العقلاني الموضوعي بعيدا عن عصا السلطات. ولان توفر الفضائيات العربية منبرا يفوق كل هذا اهمية كونه سيمد الشرعية والدعم من الشارع العربي ذاته. ما تقوم به الفضائيات الان لا يقل عن اطلاق العقل العربي في فضاء الحرية الرحب وهو يتجاوز بحث القضايا القومية والقطرية الطارئة الى بحث الاساسيات اللازمة للمشروع النهضوي العربي وكل نهضة تسبق بتفعيل العقل وتفعيل العقل يبدأ بازالة حدود وقيود المحرمات والممنوعات من امامه ورفع عصا القمع عن اصحابه. لقد كان العالم العربي دوما اشبه بالقرية في تماثل واقعه الموضوعي والبشري وتقارب اهله. ولكن للاسف لزمنا ان يبدأ العالم بالتحول الى قرية صغيرة عبر وسائل الاتصال الحديثة لنكتشف اننا قرية واحدة, قرية صغيرة متحابة متكافلة. كاتبة أردنية*

Email