القوة الناعمة: شعارها الأخلاق والثقافة اولا:بقلم - د. مصطفى المصمودي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ان التنمية المستدامة لن يكون لها قوام الا بالاعتماد على نماذج انمائية متطورة تدعمها القيم الثقافية وتساعدها على مجابهة التحديات الكبرى التي تنتظرها في القرن المقبل. فالثورة التكنولوجية ترفض مقاييس المجتمع الصناعي وتستوجب اعتبارات اخرى للرفع بالانتاج والانتاجية ولذلك فهي تحتم مراجعة جذرية للسياسات التقليدية في مجالات التنمية والثقافة والتربية والتأهيل الشعبي الشامل) . الامم المتحدة ومنظمة اليونسكو بالتعمق في بحث مستقبل التفاعل بين الثقافة والتنمية على ضوء التحولات التي يشهدها العالم وكان الامين العام الاسبق لهيئة الامم المتحدة رئيسا لها (1994 ــ 1995) وفعلا فقد جاء تقرير هذه اللجنة الاممية متضمنا مجموعة من الاعتبارات الجديدة والمؤثرة كما طرح تساؤلات اساسية عن العوامل الثقافية والاجتماعية التي ترتبط بالتنمية وعلاقة التراث بالحداثة وبالسلوكيات الفردية والجماعية, فقد اتسع مفهوم التنمية ذاته عندما أدركت المجتمعات ان المعايير الاقتصادية لا يمكن ان تؤلف وحدها برنامجا لكرامة الانسان ورفاهيته. وتوصل اعضاء اللجنة في بحثهم عن معايير اخرى الى تطوير مفهوم التنمية البشرية بوصفها عملية لتوسيع نطاق الخيارات المتاحة تتراوح بين الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفرص المتاحة للفرد في ان يكون سليما معافى ومتعلما ومنتجا ومبدعا يحترم ذاته وينعم بحقوق الانسان, وكانت هذه المفاهيم للثقافة غير واضحة في الاذهان الى ان بدأت اثارتها والاشارة اليها من قبل بعض اللجان الاممية مثل لجنة برانت ولجنة ماك برايد واللجنة المعنية بالبيئة والتنمية الا ان اصبح اليوم من الاكيد اعادة التفكير في مفهوم التنمية لادراج الاعتبارات الثقافية في الاستراتيجيات الانمائية الشاملة وفي وضع برنامج متكامل. المضمون العام للتقرير الأممي لقد أكد تقرير لجنة الثقافة والتنمية الاخير على انه موجه الى جمهور متنوع عبر العالم يتراوح بين العاملين على مستوى المجتمع المحلي والمسؤولين الحكوميين ورجال السياسة وهو يهدف الى اعلام قادة الرأي العام وارشاد القائمين على رسم السياسات الوطنية والاوساط الفكرية والفنية في مختلف انحاء العالم, والتنبيه الى ان الثقافة أداة لتطوير السلوك ومصدر ديناميكي للابداع والابتكار في كنف الحرية, فالثقافة بالنسبة للجماعات والمجتمعات مصدر للطاقة والالهام وادراك للتنوع. وان التحدي الذي تواجهه البشرية في ايجاد طرق جديدة للتفكير وللتصرف ولتنظيم المجتمع, يستدعي التشجيع على انتهاج مسارات انمائية مختلفة. ومن ابرز التوصيات التي وردت في تقرير اللجنة الذي يحمل عنوان (التنوع الثقافي المبدع) يمكن الوقوف على العناصر التالية: ـ استقصاء الاتجاهات الحديثة في مجال الثقافة والتنمية. ـ رصد الاحداث التي تؤثر على اوضاع الثقافات في شتى انحاء العالم. ـ تسليط الاضواء على الممارسات والسياسات الثقافية الجيدة المعمول بها على المستوى المحلي والوطني والدولي وكشف الممارسات السيئة وأنواع السلوك غير المقبولة. ـ تقديم تحليل لموضوعات محددة ذات أهمية عامة, وصياغة اقتراحات بشأن السياسات المطلوبة. ويقترح التقرير ان تضطلع اليونسكو بالتعاون مع الهيئات الدولية المختصة التابعة للامم المتحدة, استحداث برنامج دولي للبحوث يركز على دراسة اوجه التفاعل بين القيم الثقافية والعمليات الانمائية التي تشكل الديناميكية المعاصرة للتغير الثقافي ودراسة المؤشرات ذات العلاقة باحترام الثقافة المختلفة للأقليات وتقييم وضعية المرأة والخيارات الانتاجية والانجابية والجنسية ومشاركة المرأة في الحياة المدنية والثقافية والسياسية والاهتمام بالسياسات الغربية في مختلف انحاء العالم والبحث عن اسباب النزاعات الأثنية. التنوع الاعلامي والحقوق الثقافية ان هنالك ارتباطا وثيقا بين الاعلام والثقافة خصوصا بعدما اضحت وسائل الاعلام الجماهيري وعاء لثقافات الشعوب وقد اصبح الفضاء الخارجي يشكل جزءا من المشاعات العالمية ورصيدا مشتركا للبشرية جمعاء, كما ان الحاجة تدعو الى الانتفاع بتكنولوجيا الاعلام الجديدة وتوظيفها في خدمة مختلف الاهداف الثقافية الانمائية. وبالنظر الى سرعة تطور هذه التكنولوجيا وتدفقها عبر الحدود الوطنية بلا عائق فان هناك حاجة كبيرة الى الحث على اجراء نقاش عالمي يرمي الى تهيئة ظروف افضل لتفهم الجهود الوطنية وتنسيقها. ويمكن ان يؤدي هذا النقاش في نهاية الأمر الى نوع من الانضباط الذاتي من جانب المهنيين على المستويات الوطنية من شأنه ان يحمي البشر ولا سيما الاطفال والمراهقين من صور العنف الذي لا مبرر له وامتهان كرامة الانسان والاستغلال الجنسي وذلك مع احترام حرية التعبير. وقد تبنت هذه اللجنة جل ما كانت نادت به لجنة عالمية اخرى لجنة ماك برايد احدثتها منظمة اليونسكو للتعمق في بحث المشاكل الدولية للاعلام والاتصاب فيما بين 1977 ــ 1980. ويوصي التقرير الجديد بأن تسعى اليونسكو الى الترويج لمنتدى دولي للتفكير في مشكلة العنف والدعارة سوآء كان ذلك في برامج التلفزيون والفيديو او عبر شبكات الاتصال في الالعاب والخدمات الحوارية. ويشير التقرير الى أهمية صيانة التراث الثقافي واحترام الحقوق الثقافية للأقليات وضرورة ان يكفل المجتمع الدولي القدر الكافي من الحماية لهذه الحقوق. وفي المقابل توجه التقرير بدعوة الى لجنة القانون الدولي من أجل حصر الحقوق الثقافية بالاعتماد على كبار رجال القانون والخبراء والجماعات المعنية والاستعانة بخبرة اليونسكو, وامكانية انشاء مكتب دولي للتحقيق في المظالم الخاصة بالحقوق الثقافية وتحديد علاقة هذا المكتب بالآليات الراهنة لأعمال حقوق الانسان واحترام حقوق المرأة. وتعتقد اللجنة التي صاغت تقرير (التنوع الثقافي المبدع) ان الاساس الحقيقي لارساء اخلاقيات عالمية هو وجود التزام اخلاقي مشترك يقوم على مبادئ الديمقراطية والشفافية والمبادلة وحقوق الانسان ومبادئ الشمولية والمبادلة, ومن هذا المنطلق تقترح اللجنة على الدول الغنية فتح اقتصاداتها واجراء اصلاحات هيكلية فيها, قبل غيرها ومساعدة الامم الفقيرة على ذلك في مرحلة ثانية مع الاعتماد على ضوابط أخلاقية عالمية وتحمل الاعباء بالتساوي بين مختلف الاطراف الفاعلة. نحو قمة عالمية حول الثقافة والتنمية وانهت اللجنة التقرير بالدعوة الى عقد قمة عالمية بشأن الثقافة والتنمية في غضون السنوات الخمس المقبلة حتى يتسنى للبشرية استقبال القرن الحادي والعشرين بروح ايجابية. وأكدت على ضرورة تشريك أبرز المفكرين والمثقفين والفنانين وصانعي الرأي في العالم وممثلي الجمعيات غير الحكومية الى جانب رؤساء الدول والحكومات بحيث تتيح مجالات لتفاعل خصب بين قطاعات المجتمع كافة. وما الندوة الدولية حول السياسات الثقافية والتنمية التي ستعقد في ستوكهولم بالسويد نهاية شهر مارس المقبل بدعوة من منظمة اليونسكو وبالتعاون مع الحكومة السويدية الا مرحلة اولى ستكرس توصيات التقرير الصادر تحت عنوان (التنوع الثقافي المبدع) ودفع الحوار بين الشعوب والدول لبلوغ ثقافة ارقى وتفاهم افضل. فستعقد هذه الندوة تحت عنوان (قوة الثقافة) ومن الأكيد انها ستكرس مفهوم الثقافة كقوة ناعمة وكسلطة كبرى الى جانب السلطات التقليدية التي عرفتها الانسانية من قبل.

Email