اليابان وذكريات الحرب العالمية (2) بقلم - د. شفيق ناظم الغبرا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما ان اقتربت الطائرة من مطار هيروشيما الا ووجدت نفسي انظر الى زوجتي متسائلا بغرابة وتردد: كيف ستكون تجربتنا في المدينة التي اسقطت عليها الولايات المتحدة القنبلة النووية في السادس من اغسطس 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية. الهبوط في مطار هيروشيما يثير مشاعر متناقضة ويمتلىء بالاسئلة المرتبطة بذاكرة اليابانيين الخاصة بتلك الحرب وتجاه الذين هزموهم . وما ان ركبنا السيارة التي ستقلنا الى مدينة هيروشيما سألت مرافقتنا اليابانية هيروكوسان (هل دمرت كل المدينة؟) فأجابت: (نعم... دمرت كل المدينة ولم يبق منها سوى أطلال مبنى وحيد مازال قائما حتى اليوم) فأخذني الحماس وبدأت اسألها سؤالا وراء السؤال فأسكتتني برد هادىء: (سأرد على كل اسئلتك بعد ان نشاهد متحف هيروشيما الخاص بضحايا القنبلة النووية) هكذا سارت بنا السيارة من المطار عبر شوارع هذه المدينة الحديثة التي اعيد بناؤها بعد تدميرها وفق احدث اصول البناء . وفي المتحف شاهدنا صوراً مرعبة لآثار القنبلة النووية اذ نتج عن قنبلة هيروشيما مقتل 150 الف من سكان المدينة البالغ عددهم 300 الف فالقنبلة التي القيت من طائرة امريكية قاذفة انفجرت فوق المدينة على مسافة تبعد خمسمائة متر محدثة كتلة غطت كل المدينة من اللهب والنيران والرياح حرارتها الفا درجة مئوية وضغطها في المتر المربع الواحد يتجاوز ألوف الكيلوجرامات. لقد انتج هذا حرقا للمدينة ممزوجا بقوة رياح تدميرية انتزعت الابنية من شروشها مما ادى لمقتل عشرات الالوف. اما الذين لم يموتوا في الدقائق الاولى فقصتهم محزنة للغاية اذ هاموا على وجوههم وكأنهم في مشهد من مشاهد نهاية العالم يبحثون عن ذويهم وابنائهم بينما الدماء تنزف من كل جوانبهم وارجلهم وانوفهم واسنانهم ولكن القدر لم يمهل هؤلاء الهائمين على وجوههم اذ ماتوا بشكل جماعي اما متأثرين بالنزيف او بالحروق او بالاشعة بل ارتمى الالوف منهم في النهر الكبير الذي يقطع المدينة على امل ان تطفىء المياه جروحهم ولكنهم كانوا هناك على موعد مع الموت. ان دمار هيروشيما لم ينته مع الانفجار بل استمر الموت يلاحق من تعرض للاشعة اذ ان سكان المدينة واليابان لم يكونوا على علم بان القنبلة التي القيت كانت نووية لهذا فكل من عاد الى المدينة من سكانها ممن كانوا خارجها يوم الانفجار بهدف البحث عن اقرباء او اهل تعرض للاشعة القاتلة. ان نتائج هيروشيما كانت كارثية بكل المقاييس على اليابان ولكن نتائج الحرب العالمية كانت سيئة على اليابان: لقد فقد اليابانيون في تلك الحرب ثلاثة ملايين قتيل ودمرت كل مدنهم وصناعاتهم وموانئهم ومنشآتهم وجسورهم تدميرا كاملا باستثناء مدينتهم التاريخية: كويوتو. ولكن الدرس التاريخي الذي ترسيه اليابان للبشرية انها تحولت من بلد قدس الحرب والتوسع الى بلد يقدس السلام العالمي, فاليابان اليوم نموذج لدولة تحولت من الروح العسكرية والتوسعية قبل الحرب الثانية الى روح المنافسة السلمية والتفاعل بين الحضارات. وقد ترسخ هذا الامر من خلال شعور اليابانيين بانهم يتحملون جزءا من المسؤولية في كل ما حصل والاهم انهم في تحملهم هذه المسؤولية لا يقومون بتربية اجيال يابانية حاقدة على العالم وعلى الغرب وعل اعدائهم السابقين. بل ان متحف هيروشيما بحد ذاته يوضح ويرسل رسالة سلام تدين اسلحة الدمار الشامل وبنفس الوقت يشرح حقيقة ما حصل في الحرب العالمية الثانية بروح سلمية وحيادية تساعد اليابانيين على التسامح والتقدم. في اليابان وجدت امة تعلمت من تجربتها الاليمة وتجاوزتها بنفس الوقت لهذا تمارس اليابان عقيدة تنطلق من ان اساس القوة الانسانية تكمن في البناء الاقتصادي والعلمي والتقني لا العسكري والتوسعي والانتقامي وبينما تسير اليابان الى الامام في مجال الانفتاح على الحضارات وبناء التعاون مع شعوب ودول العالم ما زلنا في الشرق نقدس العسكرية ونقدس الذاكرة الانتقامية التي كانت اليابان تقدسها في الماضي. طوال زيارة هيروشيما كنت اتساءل يا ترى كيف ستنتهي ذاكرة الموت ورقصة الحرب في شرقنا؟ الدين والأخلاق في اليابان في هذه الزيارة الاولى لليابان ولمدن ثلاث فيها هي طوكيو وهيروشيما وكيوتو يكتشف المرء الكثير من الجديد وفي الحقيقة اننا في الشرق الاوسط نكاد لا نعرف شيئا ذا قيمة عن اليابان. ففي اليابان ديانتات متصادقتان الاولى هي ديانة اليابان القديمة المعروفة باسم الشنتو والاخرى هي الديانة البوذية, وفي الديانة المعروفة باسم الشنتو هناك الكثير من التقديس للطبيعة واعتبار الله موجوداً في كل تعبيرات من تعبيرات الطبيعة. ولكن هذه الديانة اليابانية الاصلية تحولت لدين الدولة منذ اواسط القرن الماضي واعتبر كهنتها واتباعها ان الامبراطور اله. كانت هذه هي حالة الدين في اليابان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وكتابة الدستور الجديد الذي فصل الدين عن الدولة ونزع (بقرار امريكي) الالوهية عن الامبراطور. اما البوذية فقد جاءت الى اليابان من الصين لكنها لم تتحول لدين رسمي وان كان اثرها الذي يركز على التواضع والزهد واضح في الحضارة اليابانية. والجدير بالذكر ان 1% من اليابانيين ينتمون للديانة المسيحية. اما اليوم فالذين يؤمنون في اليابان بديانة الشنتو والبوذية لا يتجاوزون الثلاثين في المائة من السكان اما ثلثا السكان فهم متأثرون بالديانتين دون ان يكونوا اتباعا لاي منهما فمثلا حين الوفاة تحرق الجثة في اليابان كما في التراث البوذي ثم يؤخذ جزء من الرماد المتبقي ويضم الى قبر موحد لنفس الاسرة. ولكن معظم اليابانيين يدفنون في مقابر عامة لا تخص مذهب ديني محدد. ان الدين في اليابان يتداخل مع حياة الفرد بنسبة قليلة وكل ياباني يعرفه بدرجة من الدرجات في الزواج او عند الموت, ولكن الدين بشكل عام كطقوس وكممارسة يومية وصلاة وفق دين محدد غائب في اليابان. في اليابان لا يوجد اذن تدين بالمعنى المتعارف عليه في تايوان او كوريا وفي الهند او في معظم مجتمعات العالم الا لنسبة 30% من السكان اما الصلاة للبقية فقد تكون من باب التأمل او الصلاة العفوية والفطرية. ولو راجعنا بسرعة اعياد اليابانيين واجازاتهم ابان السنة الواحدة لوجدنا ان جميع الاعياد الخمسة عشرة لا علاقة لاي منها بالدين فهناك مثلا يوم للطفل ويوم للخضار, ويوم تأسيس اليابان, يوم رأس السنة, ويوم الدستور, ويوم البحار, واخر للعجزة, ثم يوم الربيع ويوم الخريف, واخر للرياضة ويوم للثقافة والعلم وعيد ميلاد الامبراطور وهكذا. لا يوجد يوم واحد لموضوع ديني. اذن اين تقع مسألة الاخلاق في المجتمع الياباني؟ ان المجتمع الياباني فيه الكثير من الاخلاقيات التي توالدت من القيم الدينية البوذية والشنتوية والانسانية ايضا ومنها: اليابانيون لطفاء ولطفهم يجعلهم غير قادرين على التحدث بصراحة عن امر لم يعجبهم انهم يضبطون انفسهم كثيرا. اليابانيون يحترمون الكبار ويركزون على الاداب العامة واداب الكلام واداب التعامل والصدق والامانة ولا يقاطعون اثناء الحديث. والياباني لا يخرج صوته في وجه احد بسهولة وهم يقدسون النظافة ولا يأكلون اثناء السير في الطريق, واليابانيون لا يسلمون باليد فيما بينهم بل بهز الرأس والانحناء ولا يبنون منازلهم في اعالي التلال والهضاب وذلك لانهم يقدسون الطبيعة بل يبنون في السهول. وهذا دليل وجود معتقدات عديدة عندهم. واليابانيون يؤمنون بالعمل الجاد ويؤمنون بالمسؤولية تجاه الجماعة لحد التضحية الكاملة من اجلها. ولدى اليابانيون وطنية واعتزاز وطني بل لحد العبادة وهم مؤمنون باستمرار اليابان ولدى اليابانيون الكثير من التخطيط وقرارهم دائما يتم بعد مشاورة. اليابانيون يؤمنون بسيادة العلم والعقل والاخلاق المرتبطة بهما, فبالنسبة لحضارتهم هذا هو الاطار والمرجع وهم عاقدو العزم على تعظيم هذه المرجعية. قد نجد هذا غريبا علينا ولكنه جزء من حقيقة ان اليابان بلد له خصوصية تميز علاقة الدين بالمجتمع. بل في سعي اليابان للتفوق نلاحظ استلهاماً دائماً لخصائص اليابانيين الخلقية بل ان هذا السعي يتم في اليابان بطريقة متواضعة لا تثير الخوف او العداوة لدى الاخرين فهذا درس اخذه الياباني من الحرب العالمية الثانية. رئيس تحرير مجلة العلوم الاجتماعية قسم العلوم السياسية جامعة الكويت *

Email