عن ذلك الورم الذي انفجر في الاقتصاد الآسيوي:بقلم: د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

(ورم ينفجر في الداخل ولا يبدي عرضا يعلل موت صاحبه) . ذلك ما قاله (هاملت) بطل احدى روائع شكسبير في حومة من الفتن والتردد والتآمر. أما الذي حملني ان انقل اليك تلك المقولة فهو هذا الورم الذي انفجر داخل الاقتصاد الأسيوي. لقد كان, كما يبدو لناظره, صحيحاً معافى, حتى بات مضرب المثل على متانة التسيير, وتسارع التنمية, وانتقال الأموال, واستقرار السوق. اما الورم فقد كان في الداخل, ولن يستطيع الناظر المتسرع ان يكتشف ان حمرة الخدين تخفي تحتها الداء الدوي, إنها تكاد تماثل حمرة خدي المصاب بالدرن, أو ذاك الذي احتقنت شرايينه من ادمان شرب الكحول فانعكس الاحتقان على صفحات الوجه حمرة كاذبة. في المسرحية ذاتها يضع شكسبير على لسان احد ابطالها هذا القول الذي سار مسار المثل: (في دولة الدانمارك فساد وعفن), وتلك اذن هي المسألة, الفساد والعفن يختلطان مع الورم الداخلي. على مستوى العالم, ثمة اكثر من صحيفة ادانت في افتتاحياتها النخبة, أصحاب الحل والعقد في سيئول بسبب استغلالهم الطفرة الاقتصادية التي شهدتها البلاد من اجل المزيد من الثراء. وبعد ان اخذت رائحة العفونة تزكم الأنوف شرع أصحاب الغنى الوفير يبحثون عن اماكن تخفي سياراتهم الفارهة, وأساليب لنقل ارصدتهم من حساب الى حساب, ووسائل لغسل المال غير المشروع. اضطر انفجار الورم كوريا الى ان تبدو عارية. ثمة نقص فادح في الاحتياطي الأجنبي الذي في قدرته ان يسند النظام المالي الوطني. لقد أخذ هذا الاحتياطي بالتناقص حتى وصل ادنى مستوياته في ديسمبر الماضي حين بلغ ستة مليارات فقط, في حين بلغت الديون الأجنبية المستحقة على المدي القصير مائة مليار, ووجه تقلص السيولة النقدية ضربة مؤلمة للشركات الوطنية. ولقد اعلنت بعض هذه الشركات افلاسها بسبب ما تعانيه من عجز في تسديد الديون المستحقة عليها. ان الورم انفجر في الداخل, فهل تستطيع ايقاف استفحاله الأجراءات المتسارعة من ديون خارجية, وتعويم للعملة الوطنية ازاء الدولار, وايداعات بالدولار في الفروع الخارجية للبنوك الوطنية التجارية, ورفع الحظر عن تحديد نسب الفوائد بالنسبة للايداعات قصيرة المدى؟ ربما يكون في ذلك نفع, وقد يكون ثمة نفع آخر بالاستفادة مما اتبعته المكسيك من خطوات للوصول الى السوق العالمية بعد ان كادت ان تعصف بها الأزمة المالية. واذا كان هناك من تشخيص لأسباب الفساد والعفن ونشوء الورم, فإن الاقتصاديين ركزوا من جانبهم على عاملي الديون والسرية وأكد السياسيون من جانبهم على عامل فساد ذمم النخبة. يقول الاقتصاديون ان الحكومات والبنوك المركزية في الدول الآسيوية كانت وراء هذا المأزق وذلك باخفائها الأخطار المحدقة بتلك البنوك. فقد كانت تتستر على خسائر مغامراتها المالية بنقل الديون من مجموعة حسابات الى أخرى. يجري ذلك كله, والديون بالدولار تواصل افساد السوق الآسيوية حتى وصلت بها الى حافة الانهيار. وهكذا نرى شيوع الظاهرة التي يمارسها المدينون في اكثر من بلد, ظاهرة بيع العملة الوطنية للحصول على الدولار الذي يمكنهم من تسديد ديونهم. ويستمر الاقتصاديون في تحليلاتهم قائلين, بأن هبوط قيمة العملة الوطنية, يجعل المدينين مضطرين الى زيادة مستمرة في كمياتها لخدمة ديونهم. وكحصيلة لذلك يتعثر الاقتصاد الوطني وتتوالى كبواته. ولم يكن ذلك ليكون لو توفرت لدى المتعاملين في اعمال التجارة والاستثمارات معلومات جيدة عن أوضاع البنوك المالية. ان المعلومات تلك من, غير ريب, ليست بالخافية على البنوك, ولكنها تستأثر بها موظفة اياها لاستعمالاتها الخاصة. ان هذا الاستئثار واحاطتها بالسرية يتناقضان والقول للاقتصاديين كذلك, مع ما تتطلبه الأسواق من شفافية, شفافية لا يمكن بدونها ان تتعايش الأسواق بالصورة التي يتحقق تحت ظلالها تبادل البضاعة وانتقال الرساميل, على نحو يتسم بالطمأنينة والثقة في عصر تيسر فيه التكنولوجيا انتقال المعلومات بالحد الأعلى من السرعة والبعد عن التخوف. ان الديون من بنك لآخر في جو يفتقد الشفافية قد تشيع, كما حصل فعلا, طمأنينة مزيفة بالنظام المالي في حين يكمن الخطر, كل الخطر, في تعرض المقترض لفقدان عاجل لمصداقيته لدى اكتشاف ما يعانيه من اضطراب مالي. ولنعد الى ما يقوله السياسيون من ان كل ذلك تنجز تفاعلاته تحت خيمة السياسة, وان المتسببين في الاخطاء يحاولون تصحيحها بأخطاء, وما كانت السرية في ديون البنوك بالسرية لدى أهل الحل والعقد. انهم طالما راهنوا في ترشيحاتهم الانتخابية على ما في الاقتصاد من متانة, وما عليه الوضع المالي من ازدهار. وهم بذلك يخفون ان تلك المتانة قائمة على اساس هار وان حمرة الصحة على الوضع المالي ماهي الا حمرة كاذبة, حمرة تعلو وجوة المحمومين والمدمنين. يذكرنا السوسيولوجي. سي. رايت ملز بأن وعي الجمهور يمكن ان يذبل ويسحق ويغدو ذلك الجمهور مفتقرا لانتمائه السياسي حين يفتقد الوسيلة التي تمكنه من ادراك هذا الانتماء. يقترح ملز اكثر من أسلوب, من اجل تكوين الجمهور الواعي, يعتمد مبادئ الديمقراطية القائمة على ارتباط الخدمة المدنية بالمعرفة والحس بالمسؤولية, وعلى تنظيمات تناقش, بشكل مفتوح وبوضوح ما يواجه الأمة والعالم. يظل ذلك صحيحاً, لكي تظل مسؤولية السياسي مرتبطة بمدى قدرته على التعامل بشفافية مع الجمهور. ان سمعة السياسي لا يمكن ان تكون خلوا من عنصر اخلاقي بين المعالم. وربما يكون هذا العنصر اهم ركائز قوته. قد يربح السياسي النفوذ من خلال التوجهات غير السليمة حينا, وقد يربح رجل الأعمال المال حينا من خلال السرية. ولكن التوجه غير السليم يتعرى وغطاء السرية يزول أمام الريح العصوف التي يقذف بها واقع التعامل مع ممتلكات الناس بل وانصبتهم من نعيم الحياة. وإذا كنت مولعا بالسياسة فإنك لا تنسى كيف لجأ الى التستر رئيس دولة كبرى حتى إذا ما هبت عاصفة (واترجيت) سقطت عنه اوراق التستر, وإذا ما كنت مولعا بالاقتصاد فإنك لاتنسى كيف انهارت (سوق المناخ) حين تقلب المناخ! وهبت الرياح بما لا تشتهي السفن! (لو عاملت كل امرئ بموجب استحقاقه, فمن ينجو من الجلد بالسياط) ؟ هكذا قال شكسبير في مسرحية (هاملت) التي سبق ان استشهدت بطرف مما ورد فيها. واعتقد انك لن تتردد. كما لم اتردد, في التمثل بهذا القول عندما تتعرف على ما يجري في عالم الاقتصاد والسياسة من سرية وفساد ذمم! خبير اعلامي عربي *

Email