مبسوطين كده:بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لتنشيط الذاكرة فقط.. جاءت نهاية القانون المشبوه الذي صدر لخنق الصحافة المصرية في اجتماع شهير عقده الرئيس مبارك مع عدد من القيادات النقابية وممثلي الصحفيين المصريين بمختلف اتجاهاتهم. وفي هذا الاجتماع اعلن الرئيس مبارك الاستجابة لمطالب الصحفيين والامة كلها, والغاء القانون المشبوه (رقم 93 لسنة 96) الذي صدر في ساعات وتبناه اعداء الحرية الذين تبين بعد ذلك انهم اعدى اعداء النظام.. حتى ولو كانوا بذلك جاهلين!. وفي هذا الاجتماع تم طرح العديد من الآراء والافكار التي كنا نظن انها اصبحت دستورا للتعامل في قضايا الحريات, وانها ستفتح باب الامل لتطورات ديمقراطية واسعة, تسقط فيها القيود التي لم تثمر الا مناخا يلعب فيه الفساد على راحته, وينمو فيه التطرف بلا مقاومة حقيقية! من جانبه اكد الرئيس مبارك انه لا توجد مشكلة بينه وبين الصحافة, وانه لا يشكك في وطنية احد من الصحفيين وانه رفض مرارا تحريض العديد من القوى الداخلية او الخارجية ضد الصحافة المصرية, وانه يترك للصحفيين المصريين انفسهم ان يصنعوا مواثيق الشرف التي تمنع اي انحراف. من جانبهم اكد الصحفيون ان نضالهم ضد القانون المشبوه لم يكن دفاعا عن امتيازات خاصة كما قيل وانهم لا يريدون ان يكون على رأسهم ريشة كما زعم المنافقون وكتبة امن الدولة بل انهم يتحملون مسؤوليتهم وهم يعلمون بأن ترسانة من القوانين المقيدة للحريات مازالت باقية وان اسقاط القانون المشبوه سوف يفتح الباب لمراجعة كل الامور, من اجل توفير المناخ الصحي لصحافة تليق بمصر التي لا شك انها تستحق افضل مما هي فيه من كل النواحي. كان الظن يومها ان الجميع قد استوعبوا الدرس وان الكل قد ادرك معنى اصدار القانون المشبوه وسقوطه. وانتعشت الآمال في ان ينعكس ذلك على كل الحياة السياسية بمزيد من الحريات, وعلى الحياة التشريعية بأنها خدمة فرقة (ترزية) القانون الذين يجيدون تفصيل القوانين حسب الطلب ووفقا للمقاس. حتى لو كان ذلك على حساب الوطن كله. ومن هنا تأتي الصدمة بتلك المادة التي دسوها على قانون الشركات, والتي تجعل الموافقة على انشاء شركات الصحف من اختصاص مجلس الوزراء, وتمنع الطعن امام القضاء في قرارات مجلس الوزراء بهذا الشأن.. اي تجعل من قرارالمجلس (او على الاصح رئيسه) قرارا نهائىا لا رجعة فيه. اسوأ ما في القرار ليس اننا نضيف قيودا جديدة في عصر تسقط فيه كل القيود, ولا اننا نهدر القانون ونعطل سلطته, ولكن اخطر ما في القرار هو اننا لا نريد ان نتعلم من دروس الماضي, ولا نريد ان نفهم احتياجات المستقبل, وان كل ما نسعى اليه هو ابقاء الحال على ما هو عليه. حتى ولو كان ذلك يعني اهدار اية فرصة للنهوض, وخلق كل الظروف التي يعيش عليها ويترعرع جيش الفساد وعصابات الارهاب. ها نحن مرة اخرى نشهد ريمة وهي تعود لعادتها القديمة. فيتم ادخال المادة التي تقفل الباب امام الشركات الصحفية الجديدة في السر, وتعرض على وجه السرعة, ويتم تمريرها كما يتم تهريب البضائع في الجمرك او تهريب المطلوبين في المطار! وها نحن نشهد مجلس الشعب (يبصم) على المادة المشبوهة وفقا للتعليمات.. وملعون ابو الصحافة والحريات وسمعة المجلس نفسه. او ما تبقى منها بعد حكايات نواب القروض ونواب الكيف والنواب المطعون في شرعية انتخابهم! وسوف نسمع ونقرأ الكثير حول عدم دستورية القانون الجديد, وحول عيوبه القانونية, وحول آثاره السلبية, وحول اهدار حق نقابة الصحفيين في ان تبحث مشروعات القوانين الخاصة بالصحافة قبل اقرارها حفاظا على حقوق الصحفيين وعلى مصلحة الصحافة, وسوف يقال الكثير عن عودة فرقة (ترزية) القانون لممارسة نشاطهم وبكفاءة نادرة ولياقة تثبت انهم لم يتوقفوا عن التدريب على مهمتهم, وسوف يقال الكثير ايضا عن اعجوبة ان يكون مجلس الوزراء هو المسؤول عن التصريح للصحف التي يفترض فيها ان تنتقده.. وربما تعارضه! وكل ذلك صحيح وخطير, ولكن الاخطر منه هو تلك النظرة الى الصحافة التي يكشف عنها القانون الجديد. وتلك الرغبة الجامحة في السيطرة على الاعلام الى الابد, وتلك الرؤية التي تصر على بقاء الحال على ما هو عليه, وانه ليس في الامكان ابدع مما كان. نعرف ان اطلاق حريات الصحف في بلد كمصر لابد ان تصاحبه الضمانات الكافية لكي تبقى صحافة مصر تؤدي دورها الوطني والقومي والمستقل ولقد وضعنا من خلال نقابة الصحفيين كل الضمانات المطلوبة, فلم يتكرم علينا احد من المسؤولين بمناقشتها. الآن يقال ان القانون الاخير صدر حتى لا تتسلل تأثيرات ضارة بأمننا القومي. والغريب ان من يقولون ذلك هم الذين يحولون صفحات الحوار القومي في اهم صحفنا القومية الى صفحات للحوار مع الليكود ورجال الموساد. وهم الذين سمحوا بسقوط صحافتنا مرة في قبضة الريان ومرة في شباك الفاسي. والآن يقال ان المستفيد الوحيد من اطلاق حرية اصدار الصحف وبالشروط الصعبة الموجودة في القانون, سيكونون هم رجال الاعمال واصحاب الثروات. ويقال ذلك في الوقت الذي نفتح الابواب على مصراعيها لبيع كل شيء لهم.. من شركات الصناعة الى الفنادق الى صفحات الصحف القومية وغير القومية التى تؤجر مفروشة لمن يدفع, بينما تذهب العمولات المشروعة وغير المشروعة لاصحابها لتفسد الصحافة وتشوه سمعة الصحفيين. ويقال ذلك وكأن مجلس الوزراء الذي يفصل القوانين ليسيطر مستثمر واحد على السينما المصرية, سوف يمنعه هو وامثاله من اصدار الصحف او السيطرة على السوق الصحفية! المشكلة الاساسية في كل ما يجري ان المسؤولين مبسوطين كده!! وتغمرهم السعادة بصحف قومية ادركتها الشيخوخة, وبصحف حزبية محاصرة, وبصحف تحصل على التراخيص من قبرص, وتدفع المعلوم لتطبع في القاهرة, ولا تستطيع الاقتراب من القضايا الحساسة لانها ستصادر, وباستثناء قليل ونادر. فالكل غارق في قضايا الآداب بدلا من قضايا الوطن, وفي حكايات الجن والعفاريت وانتقالات لاعبي الكرة الذين لا يستحقون الا البيع في سوق الكانتو.. اما مشاكل الشباب وتحديات المستقبل ومحاربة الخرافة ونشر العلم والدفاع عن الفقراء والكفاح من اجل العدل والحرية.. فتلك مسائل تستحق ما هو اكثر من الترخيص من قبرص او موافقة مجلس الوزراء!!

Email