فلتسقط (العولمة) ... ولكن كيف: بقلم: شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدعوة من (مركز دراسات الوحدة العربية) اجتمع في بيروت أكثر من أربعين باحث من مختلف الأقطار العربية, للإسهام في ندوة عنوانها (العرب والعولمة) . عكست أوراق الباحثين ومداخلات المشاركين التي تناولت الموضوع من مختلف جوانبه, السياسية والاقتصادية والاجتماعية, قوس قزح من الخلفيات والتطلعات التي تعم الساحة العربية, والتي يمكن تصنيفها بأربعة أنواع: عروبية, اسلامية, يسارية ماركسية, وليبرالية. وعلى الرغم مما بين هذه النماذج الفكرية من تناقضات, وتباينات تاريخية وتقليدية, إلا ان من تابع أعمال هذه الندوة وقرأ الأوراق التي قدمت فيها, يجد ان الكثير من الحدود بينها قد انمحت وان الكثير من الأفكار اختلطت. ولولا معرفتنا المسبقة بالعديد من المشاركين, ولولا أصرار بعضهم على التمسك (بلغة) تشي بصاحبها, لاحتار أمرنا في تصنيفهم. لا أقول الأفكار كانت متطابقة, ولكنها كانت متوازية في توجهها, وفي تشخيصها (للعولمة) مع تباين في التفاصيل لا في الجوهر, وذلك بسبب التنوع في اختصاص كل واحد من المشاركين. ربما يرى غيرى من المراقبين غير ما رأيت, وربما عكس ما رأيت, فأنا أعرف ان الاستيعاب في العادة انتقائي, وأعترف اني كنت أتلهف لالتقاط المشترك مما أسمعه, سواء بالنسبة لتشخيص هذه الظاهرة أو لكيفية مواجهتها, حيث ثمة اجماع على اعتبارها ظاهرة خطيرة وتشكل تحديا يمس مصيرنا بصميم مقوماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وبالتالي مستقبلنا الثقافي كله. فالعولمة أو الكوكبة كما أحب الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله تسميتها, تعني في النهاية إلغاء الحدود الجغرافية والسياسية والقومية والدينية, وذلك بفعل الثورة العلمية التقنية البالغة التطور التي حولت الفضاء الى أوتوسترادات لاحصر لطولها أو عرضها, تعبر عليها قاطرات المعلومات والمعرفة بسرعة أدناها سرعة الصوت وأقصاها سرعة الضوء. انها بداية المحاكاة الانسانية لمعجزة الانزال والتنزيل التي قرأنا عنها في القصص الديني, وان اقتصرت على هذا الكوكب, فلن يهل القرن القادم حتى تمتد هذه الاوتوسترادات الى كواكب أخرى فينضم الى المنظومة كل من القمر والمريخ والزهرة... والله أعلم ما غيرها. هذه الثورة العلمية التقنية, التي تعتبر من أهم الطفرات في تاريخ الانسان منذ ان وجد, من يستطيع لجمها أوصد آثارها؟ حتى لو وجد من استطاع ذلك, فلماذا يلجمها أو يحد من اندفاعها؟ فالخطورة ليست فيها, ولكن في كيفية مواجهة آثارها. فهي أشبه ما تكون بالسيل العرم أو الطوفان الهائل, الذي يمكن ان يتحول الى شر لايبقي ولا يذر شيئا يعترض سبيله, أو الى خير بلا حدود إذا ما كان الانسان متهيأ لاستقباله بالسدود والخزانات والقنوات. هذه الثورة العلمية التقنية, ليست وليدة لحظتها, وإنما هي محصلة لتراكمات من الدراسات والأبحاث والتجارب استغرقت معظم سنوات النصف الأخير من القرن, ويخطئ من يربطها بانهيار الاتحاد السوفييتي ويعتبرها من نتائجه, لأن الحقيقة هي عكس ذلك, اي ان السباق العلمي والتقني هو الذي ادي بالنهاية الى انهيار الاتحاد السوفييتي لعجزه عن الصمود في هذا السباق واحتمال المزيد مما كان يحتمله المواطن السوفييتي من حرمان من ضروريات الحياة وكمالياتها. وان كان ثمة علاقة بين الأمرين, فإنما تتصل بالتوقيت, بمعنى ان نجاح هذه الثورة جاء متلازما مع سقوط الاتحاد السوفييتي, مما جعل حركة العولمة حكرا لقطب واحد, وباتت (الأمركة) رديفا لها. وهنا مكمن الخلل, وسر الخوف, الذي لايقتصر على العرب وحدهم, وإنما يشمل كل الدول وكل التكتلات في القارات الأربع بما فيها القارة الأوروبية. اذ من الطبيعي ان من يمتلك أسرار هذه الثورة التقنية ويمتلك امكانية انتاج أدواتها, وصيانة وتطوير هذه الأدوات, سيكون قادراً على الهيمنة على السوق عبر ما تنقله أدواته من ألوان المعلومات والمعرفة, التي يروق لها بثها بما يضمن تفوقه والاستمرار بهذا التفوق. اذن, نحن وغيرنا, أمام ظاهرة من التحديات تختلف نوعيا عن كل ما سبقها من مظاهر التقدم التي شهدها الانسان وصولا الى اكتشاف الطاقة النووية. حتى الاحلاف العسكرية, مهما عظمت, لم يعد بمتناول آلياتها ان تقف في وجه هذا التحدي, كما كان عليه الحال أيام القطبين والمعسكرين في مرحلة الحرب الباردة وتوازن الرعب واستراتيجيات الضربة الأولى والثانية. هذه ظاهرة لايمكن ردها أو تحييدها أو التخفيف من آثارها التي قد تكون مريعة, الا بامتلاك أسرارها والتمتع بالقدرة على إنتاج أدواتها, وصيانة هذه الأدوات وتطويرها. ولعل امتلاك مثل هذه القدرة, على صعوبته وكلفته الباهظة, يبقى الجزء الأسهل من مجمل المطلوب. أما الجزء الأكثر صعوبة فهو (البضاعة) التي نريد نقلها وتسويقها عبر هذه الوسائل في حال امتلاكها. بماذا سنرد على سادة هذه الثورة مقابل ,ما يصدرون الينا من (ثقافة) , وأقول ثقافة لأنها كما يعرفها محمد عابد الجابري عن حق, هي هذا (المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والابداعات والتطلعات) التي تميز كل شعب عن آخر وكل أمة عن أخرى. ان العرب حتى اللحظة لايزالون في موقع المستورد المزدوج: المستورد لآلة البث وآلة الاستقبال, وللمادة المنقولة من الأولى الى الثانية, باستثناء محاولات متواضعة لن تستطيع الصمود ان بقيت دون تطوير تقني وانبعاث ثقافي جديد.. ان الاكتفاء بشتم العولمة والدعوة لاسقاطها باعتبارها تهديداً للخرائط القائمة, سياسيا واجتماعيا, ليس أكثر من عملية فرار من مجابهة حتمية لن تؤدي الى النجاة, انه كالتعاويذ التي يعتمدها الجهلة لمكافحة الأمراض. بدلا من الصراخ بإسقاط ما لم يسقط, علينا التركيز في البحث العقلي والعلمي لاكتشاف الوسائل القادرة على مواجهة هذا التحدي الوافد, والتعامل معه من مواقع القدرة على تكييفه والتكيف معه, وحصد ما فيه من خير, ودرء ما فيه من شر. كيف نحول (النقمة) الى نعمة؟ أولا وقبل كل شيء وحتى يكون لأي اقتراح أية قيمة جدية, علينا ان نقر ونعترف ونسلم بأن متطلبات الصمود في وجه هذا التحدي تفوق قدرة أي قطر عربي بمفرده على الاطلاق, إذ ان معظم هذه الأقطار, بمن فيها تلك الواهمة بثرائها, لاتملك ما بحوزة بعض مؤسسات أو شركات هذه (العولمة) , فما بالك بالدولة التي تهيمن على هذه المؤسسات والشركات! إذن من دون مجابهة قومية لامجال لأي حديث عن اي اقتراح. فإذا كانت دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وايطاليا اكتشفت أهمية انتمائها للهوية الأوروبية رغم ما بينها من تواريخ الحروب والخصومات, وذلك لتنهض في وجه هذا التحدي, فمن باب أولى ان تكتشف الأقطار المسماة عربية, حقيقة هويتها القومية وما تتضمنه من مقومات الأمة الواحدة تاريخاً وتراثا وحضارة ودينا وتطلعا. من دون مثل هذا الأطار القومي, لن يكون بقدرة أية دولة عربية, ان تجابه العولمة من موقع الند أو شبه الند, لأنها لن تكون قادرة لا على انتاج الأداة التقنية المتطورة ولا الثقافة التي تريد ترويجها عبر هذه الأداة! ولماذا نخدع أنفسنا, ونحن نرى هذه الأقطار - حاليا - وهي تلهث لمـلء شاشات تلفزيوناتها, فلا نجد غير هذا الغث الذي لايستحق العرض علينا, فكيف على الغير. ومن دون مثل هذا الإطار, بكل امكانيات أبنائه من أصحاب العقول والفكر, كيف يمكننا ان نحافظ على ثقافتنا القومية ونقود حركة التواصل مع الثقافات الأخرى لنواكب العصر ومتطلباته المتعددة. وهذه ليست بالعملية السهلة , لاسيما وان بعضا من مجتمعاتنا لاتزال تعيش في أجواء ما قبل الجاهلية الأولى, حيث الأرض لاتزال منبسطة والقمر لم تطأه قدم انسان, ان عملية التواصل المطلوبة مع ثقافات الآخرين لاتعني التخلي عن تراثنا, بل هي دعوة لبعث هذا التراث وكل ما في تاريخه من ابداع واشراقات, والافادة من كل مالدى الغرب من تحديث للوسيلة والأداة. نحن نرى تراثنا على شاشات الغرب إرهابا وقتلا بالفؤوس وتحقيراً للمرأة و... و... وكل التشوهات التي يريد الغرب الصاقها بنا. وعلينا ان نعترف بأن جزءا منها صحيح, ولكن يجب ان نتصدى له بالصوت العالي, نرفضه وندينه ونطيح بالمسؤولين عنه, وهذا يفرض علينا كأمة, وهذا بيت قصيد آخر, ان نعود الى أصالتنا وما ورثناه من قيم الحرية والمساواة والعدل والشورى, مما ينضوي اليوم تحت عنوان (الديمقراطية) . بعد زوال الحدود السياسية والجغرافية وغيرها, لايبقى غير الحد الثقافي الذي يجب ان يتحول من حائط الى جسر نعبر من خلاله الى ثقافات الآخرين ليعبروه هو بدورهم صوب ثقافتنا. ان حكوماتنا العربية تدرك هذا كله, وأكثر مما يتصور الكثيرون, والا لما كانت هذه الملفات القومية المتراكمة في أرشيف جامعة الدول العربية ومحاضر الملوك والرؤساء. ولكنها -- الحكومات - لا تزال أسيرة عقلية مندثرة, لاترى من سبيل للدفاع عن ذاتها غير القوقعة داخل حدودها كما السلحفاة داخل صدفتها. لا عاصم لأية دولة في عالم اليوم, من الغرق في محيط العولمة, ان لم تلتحم مع غيرها من الدول وتشكل (عولمة) صغيرة تكون قادرة على الابحار في هذا المحيط. انها مسألة تطور من أجل البقاء ليس بين الحشرات من هو أصغر من النملة, ولكن ليس في الغابة من هو أقوى من طابور منها متواصل متماسك, ففيه تصبح النملة افعوانا تفر منه الكواسر. فهل نعتبر من حكمة النملة!! كاتب فلسطيني *

Email