سر التقدم هو الإنشغال بالمستقبل:بقلم- محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يسألونك عن الأمريكان وسر الهيمنة, وأحيانا السطوة التي يمارسونها على قضايا عالمنا ومسار الاحداث فيه وهل يكمن هذا السر, أو الاسراء , فيما حظيت به امريكا من تنوع في الموارد الطبيعية, أو الفخامة ــ النسبية ــ في عدد السكان أو في حداثة تاريخها (نحو 200 سنة أو تزيد قليلاً) أو في عدم تعرضها للويلات المباشرة الناجمة عن اثنتين من الحروب العالمية في عامي 1914 و1939. والشغف بمثل هذه الأسرار التي تحاول أن تفتش في مبررات التقدم وظروفه شغف قديم.. وهو يستدعي إلى الذاكرة كتاباً قديماً بدوره صدر في منتصف العقد الثاني من هذا القرن العشرين حول موضوع (سر تقدم الانجليز ــ السكسون) وبلغ اهتمام المصريين به الحد الذي نهض إلى ترجمته واحد من كبار الساسة في ذلك العصر هو أحمد فتحي زغلول ــ شقيق الزعيم سعد زغلول واحتفلت بالترجمة أوساط السياسة والثقافة في مصر أيما احتفال, لا لاهمية مثل هذه الكتب بالنسبة لمثقفي ذلك العصر وحسب ولكن لان أهل ذلك الزمن كانوا قد دأبوا على الاحتفال بما يصدر من آثار فكرية وابداعات واجتهادات ثقافية. وكم أقاموا من حفلات التكريم والاشادة والعرفان لدى صدور أعمال أدبية أو فكرية ذات شأن.. وهو ما فعلوه عندما أصدر سليم البستاني ترجمته لملحمة الالياذة لهوميروس اليوناني, وعندما أصدر لطفي السيد ترجمة كتاب الأخلاق عند ارسطو وعندما أصدر فتحي زغلول ترجمة سر تقدم الانجليز السكسون. وانت تستطيع أن تؤرخ لمثل هذه الحوليات البارزة في تاريخ فكرنا العربي المعاصر, لان واقع السجل السياسي العام وحسب, بل كذلك من ديوان الشوقيات لأمير الشعراء وبه قصائد جميلة وبليغة تؤرخ لتلك الابداعات وتشيد بصانعيها وهو ما يؤكد بدوره, من جديد, مقولة أن الشعر ديوان العرب.. الأقدمين والمحدثين على سواء. ونعود إلى الهاجس.. الامريكاني الذي يستبد بكل مثقف عربي في زماننا الراهن.. ما هو سر تقدم الامريكان؟ وعندنا أن ليست الاجابة بمقصورة على حكاية الموارد الطبيعية, فالبرازيل مثلا محظوظة بموارد غاية في التنوع وسخية في الثراء.. ولا هو في ضخامة حجم السكان.. والا فأين تروح أمريكا إلى جنب الهند أو الصين, ولا هو في تجنب أمريكا الكوارث والمعاناة المباشرة الناجمة عن الصراعات العالمية على نحو ما كابدته دول غرب أوروبا أو اليابان ــ فالسويد وسائر بلدان الشمال في أوروبا لم تذق يوماً نيران تلك الحروب, ولكنها لم تبلغ شأو الولايات المتحدة ولا مكانتها من اقدار عالمها ومقاليد عصرها.. بل أن نيرة الحداثة في التاريخ قد تضفي على الأمة أو على الدولة نوعاً من الفتوة أو اليفاعة ــ لكنها قد تحرمها من تراكم الخبرات التاريخية وعراقة الجذور الممتدة في تربة الزمان ومن ثم تصبح اليفاعة فجاجة في السلوك الدولي حيث يقسم سلوك الأمة أو الدولة بنفس ما يتسم به محدثو النعمة من الأفراد من نزق ونرجسية, وحماقة القوة وغطرستها تأمل مثلاً سلوكها ازاء شعبنا في العراق وكله ناجم عن فظاظة راعي البقر وعن قلة خبرة أو قلة طهي كما يقول تعبير طريف دارج في عامية اخواننا المصريين. يسألونك إذن عن سر تقدم الامريكان.. ولك أن تلخصه في عبارات موجزة تقول" ــ النظرة التطلعية التي ترتقب المستقبل دون أن تنشد مكبلة بأغلال الماضي ــ هو ذلك الشغف الايجابي بما يأتي وما يطرأ وما يستجد في كل مجال من مجالات الكسب والنشاط الإنساني. ونحن نصفه بالايجابية لأنه ليس تطلعا إلى المستقبل على سبيل الرجم بالغيب أو قراءة طوالع النجوم أو فتح المندل وأوراق الكوتشينه (رغم أن أمريكا ــ لغرابة أطوارها ــ تحفل بدكاكين لها سجل تجاري وتبيع هذا الوهم المستقبلي لعامة الناس). بل هو شغف بالمستقبل يتوسل باستخدام أدوات العلم وأسلحة النظرة الموضوعية ويقوم على أساس من استجماع الارادة السياسية أو هو التوافق بين آراء قطاعات الأمة حول أخطر القضايا وأبرز المشاريع. ولعل أبرز النماذج التي تدلك على ذلك حالة أمريكا مع مطلع عقد الستينات. لقد كان العقد الخمسيني السابق عليه قد شهد ضروبا من الوهن أو الفتور الذي دب في البنية الأمريكية حيث تفوق عليها غريمها السوفييتي وخاصة في مضمار العلم وتحديات السياسة.. وتجسد هذا التفوق في قدرة السوفييت على التواصل مع حركات التحرير في القارات النامية الثلاث, وفي قدرتهم على استهلاك غزو الفضاء عندما أرسلوا إلى مداراته البعيدة ضروباً من الآلات وأصنافا من الحيوان وأفراداً من البشر ذكراً (جاجارين وتيتوف) وانثى (فالنتينا). وعندما دخل جون كنيدي إلى البيت الأبيض مع مطلع الستينات قرر أن يجدد شباب بلاده وأن يدفع بها إلى معمعة هذا التحدي مع الغريم الروسي, وخاصة في مجال الفضاء. هكذا أعلن كنيدي يومها قراره الشهير: سوف تصل أمريكا إلى.. القمر خلال عشر سنوات. ولم يكن الأمر ليتعلق بمرسوم جمهوري, ولا بقرار رئاسي بقدر ما كان يلخص تصميم أمة قررت فعالياتها العلمية ــ التكنولوجية ــ السياسية ــ الاقتصادية, وعلى أرضية من توافق الآراء ــ أن تحشد كل طاقاتها وأن تعبئ كل مواردها وأن يكون لها مشروعها القومي كما تقول أدبيات السياسة المعاصرة ــ فمثلاً في استكشاف وغزو كوكب القمر. ثم ان هذا التوافق ــ المشروع القومي الامريكي أطل على المشكلة من منظور تطلعي, ارتقابي مستقبلي, لا يكتفي بالحلم, والحلم أصلا سلوك مرغوب بل مطلوب, ولكنه يعمد إلى (برمجة) هذا الحلم إلى خطط عمل ومخططات للتنفيذ تقوم على الالتزام الواضح والمعلن بتوقيتات زمنية محددة لترجمة الحلم ــ القرار إلى واقع معاش وحقيقي وملموس. ولم يمض سوى ثماني سنوات, لا عشر حتى هبط أول إنسان على سطح القمر وهو كما نعرف ــ رائد الفضاء الامريكي (ارمسترونغ) وحين طالع العالم صورته المبثوثة بالتليفزيون وهو يثب مثل طفل خرافي بين جنبات الكوكب العجيب ــ جاء الحدث إيذانا بتحولات أساسية وعجيبة وبالغة الخطر والخطورة من حيث الكم والنوعية والأثر الناجم على مجمل حياة البشر فوق كوكب الأرض, لا من حيث تقدمهم العلمي أو المعرفي وحسب, بل من حيث أساليب تفكيرهم, وأنماط تواصلهم وطرائق حياتهم وسلوكهم وشبكات علاقاتهم وانساق ابداعاتهم في مجالات شتى) .. وهكذا بدأت العملية ــ وهي ما برحت بعد مستمرة بقرار رئاسي أعلنه جون كنيدي, وانطلقت ــ كما أسلفنا ــ من المنظور المستقبلي الذي تميزت به أمريكا وأتت أولى ثمراتها بعد ثماني سنوات من العمل الدؤوب الذي عمل على تشييد جسر واصل بين القرار الآني وبين الإنجاز المستقبلي الذي جاء ممثلاِ في استكشاف أو ارتياد وغزو القمر ومن بعده دخل العالم كله ونحن جزء منه.. في عصر الأقمار الذي جاء بثورة في عالم الاتصالات سواء من حيث البث المرئي أو التواصل الهاتفي أو المستندي (الفاكس) ومن بعده التواصل الشبكي أو الشبكاتي مجسداً في الانترنت واخواتها و.. البقية تأتي. والامريكان عيوبهم كثيرة كما لا يخفى على فطنة القارئين.. وأحياناً يكون ذكاؤهم قاصراً أو محدداً أو ضحلاً وخاصة في مجالات فهم شعوب الشرق والغرب وأساليب التعامل مع قضاياها القومية والوطنية, لكنهم, والشهادة لله, لم يقصروا في حق تلك المزية التي يتمتعون بها التي قد نسميها.. التوجه المستقبلي) وهم قوم براغماتيون بمعنى أن يحكمهم منطق المصلحة المباشرة العملية بعيداً عن المجاملات أو الأوهام. ولعلهم وجدوا أن هذا (التوجه المستقبلي) هو المفتاح السحري) إلى أبواب القرن الحادي والعشرين.. ومن ثم فقد عمدوا إلى هذا الشغف بالمستقبل فأنزلوه من أبراج العلماء العاجية أو ناطحات سحاب ملوك الصناعة أو التجارة أو أباطرة الاستثمار, أنزلوه إلى حيث رجل الشارع, المواطن الأمريكي العادي ــ وخاصة على مستوى الأجيال الناشئة.. بمعنى أنهم حولوا الشغف المستقبلي من تخصص مقصور بين دهاقنة التكنولوجيا أو كداولة السياسة ــ إلى حيث يصبح ثقافة شعبية أو وعيا عاما أو شأنا جماهيريا يشكل جزءا من العقل الجمعي للأمة على اختلاف عناصرها وطبقاتها ونوعيات أفرادها لا عجب مثلاً أن تعمد مجلة شعبية اسمها (ذي نيولوركر) فتصدر مع أواخر العام الماضي عددا ممتازا وخاصا يدور حول محور المستقبل وتلخصه المجلة بكلمة, واحدة نشرتها بتنويعات مختلفة على صدر غلاف العدد الخاص الذي جاء في 270 صفحة (!) والكلمة ببساطة هي: .. (القادم) أو هو التالي أو المرتقب أو الجديد.. إلخ. وتتراوح هذه التنويعات بين مواصفات الرئيس الأمريكي القادم وبين اوديسة الفضاء القادمة (بمعنى ملحمة الامعان في اكتشاف اسرار الفضاء كما سيشهدها القرن الحادي والعشرين) والاشارة هنا الى فيلم كان يحمل عنوان أوديسة الفضاء وكان من افلام السينما الطليعية في عقد الستينات وهي اشارة ضمنية ايضا الى ملحمة الأوديسة الاغريقية المنسوبة بدورها الى الشاعر القديم هو هوميروس وبطلها اوديسيوس يشكل رمزا في الوجدان العالمي الى عملية البحث وتجوال الآفاق ورحلة الارتياد في عرض البحار. ثم يعرض العدد الخاص للمجلة الامريكية الى ما يسميه (المفكر الكبير القادم) والمملكة السحرية القادمة اشارة الى ما ينتظر ان يطرأ من تطويرات ومستجدات على امبراطورية, (والت ديزني) الشهيرة في مجال ثقافة الاطفال بل والكبار مستخدمة في ذلك ما يمكن ان نصفه بأنه (الوهم المصنوع بالتكنولوجيا) ثم تحفل قائمة المجلة كذلك ببند تحت عنوان (الازمة الداخلية القادمة) والمرض المنتظر انتشارة في المستقبل وبما سيؤول اليه حال الرئيس الحالي كلينتون في عام 2001 وهو اخر سني رئاسته ولعل اطرف ما في هذا البند تحليل مركز حول كلينتون مابعد التقاعد وهو بعنوان (الرئيس ــ السابق ــ القادم) وينطلق هذا التحليل من مقولة ان الرؤساء الامريكيين يكونون قد بلغوا من العمر عتيا عندما يتقاعدون عن منصبهم الرئاسي في البيت الابيض وقد سبق الى ذلك كل من رونالد ريجان وقد تقاعد في اخر السبعينات من العمر, ومن بعده جورج بوش وقد تقاعد في اخر الستينات من العمر ومن ثم كانت سلوكيات الرؤساء عند هذه المرحلة العمرية المتقدمة نمطية او تقليدية او يمكن التنبؤ بها, بعضهم يعيش في غلالة نسيان فرضها مرض (الزهايمر) وهو ذهان الشيخوخة (ريجان) او يعيش على ذكريات الماضي (فورد) او يعمل نجارا تارة ومبعوثا يدعو لحقوق الانسان تارة اخرى (كارتر) او يعيش باسلوب فتى يافع في الخامسة والسبعين كما يحاول جورج بوش ان يفعل وكانت احدث تظاهراته في هذا المجال هي هبوطه بالمظلة من طائرة امام عدسات الكاميرا وتخوف المعجبين. لكن الرئيس ـ السابق ـ القادم بيل كلينتون حكايته حكاية. سوف يتقاعد او من المقرر ان يتقاعد (والمستقبل عندنا بيد المولى سبحانه) في سن الرابعة والخمسين وهي مرحلة عمرية من الشباب النسبي بالمقياس الامريكي (نسبة الى متوسط العمر الاحصائي بين فئات السكان) وهو رجل يجيد فن التواصل والدعاية... فيه مواهب التمثيل والتأثير والاستمالة والنشاط الجم, المحموم في بعض الاحيان... ومثل هذه النوعية من الرؤساء المتقاعدين بحكم القانون, لن يرضوا بالتقاعد في حكم الامر الواقع... بل من دأبهم ان ينطلقوا الى انشطة واسعة النطاق وفي مجالات يمكن ان تتماس واحيانا تتعارض مع رؤية او توجهات الرئيس الشرعي ــ الحقيقي ـ الراهن ــ الجالس في المكتب البيضاوي بالبيت الابيض, وايا كان هذا الرئيس المرتقب جمهوريا او ديمقراطيا. وايا كانت الرؤى المستقبلية التي سجلتها مجلة (ذي نيويوركر) فنظن ان من حق القارىء العربي ان يكون على بينة من جوانبها, فهي تستمد قيمتها بداية من كونها رؤية, ومستقبلية ثم انها ثانية, تتعلق بدولة كبرى ذات شأن آلت اليها - هل نقول في غفلة من زمن- مقاليد الزعامة في عصرنا تماما كما كان الامر مع الدولة الرومانية منذ الفي سنة وتزيد. هذا الانشغال بقضية (القادم) يستحق اذن ان يتواصل مع التفاصيل الى حديث (قادم) باذن الله.

Email