أخطأت .. يا مولانا: بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

احدى مشاكلنا الأساسية اننا نقول ما لا نفعل, ونفعل مالا نقول .. والنتيجة أن يفقد كل شيء مصداقيته, وأن تسود الفوضى في شتى جوانب حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية , وأن تتوالى الصدمات على المواطن .. مرة تحت شعار الصدمات الكهربائية, ومرة تحت شعار التصحيح والمراجعة, ومرات بدون حتى أن نبرر له ما يجري! تقول الدولة أنه (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) ولكن الدولة نفسها هي أول من يخالف ذلك وينقلب عليه ثم تشكو من النتائج المرة. ولقد كان في مصر عرف سياسي عظيم يحدد خطوط التشابك والانقطاع في هذه القضية الشائكة واستمر ذلك تحت حكم الوفد ثم في ظل ثورة يوليو, حتى جاء السادات فاكتشف فجأة ان اسمه (محمد) ورفع شعار (العلم والإيمان) وأطلق (الزبيبة) الشهيرة على وجهه, ووزع الخناجر والمطاوي على الصبية في الجامعات لضرب القوى اليسارية والوطنية, ولما كبروا انقلبوا - كالعادة - عليه وذهب السادات وبقي العنف باسم الإسلام الذي أطلقه من عقاله وهو يردد (لا دين في السياسة) !! ورغم قسوة المحنة التي ما زلنا نعاني من آثارها, فما زال هذا النهج ساريا حتى الآن رغم ما يؤدي إليه من كوارث في كل المجالات, وما زالت الدولة - حين تريد - تستدعي رجال الدين ليحاربوا معركتها, وما زال البعض - حين يعجز سياسيا وفكريا - يلجأ إلى (سلاح الفتاوى) التي يضفي عليها الشرعية لتبرر له ما يريد أن يفعله. حين أرادت الدولة تغيير الأوضاع المستقرة في ريف مصر واستعادة الأرض الزراعية من الفلاحين, وسنت قانون الاراضي الزراعية لمصلحة المالكين وعلى حساب مليون مستأجر معظمهم من فقراء مصر, نسيت حكمتها الخالدة (لاسياسة في الدين ولا دين في السياسة) واستصدرت الفتاوى الشرعية(!!) التي تؤكد ان الإصلاح الزراعي حرام, وأن تمديد عقود إيجار الأراضي الزراعية كفر صريح, وأن المسلم الصحيح هو الذي يقوم على الفور بتسليم الأرض الزراعية التي يعيش عليها مع أسرته عيشة الكفاف للمالك, ثم يأخذ أسرته ويهيم في البراري. فإذا قلت إن تشريد الناس لايمكن أن يكون من الإسلام في شيء, وأن التكافل هو الأساس الأول للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام, وان المال مال الله والناس مستخلفون عليه لما فيه مصلحة المجتمع, وان الناس أولى بأمور دنياهم فيما لايخالف النصوص الشرعية, وان هناك عشرات الفتاوى (الشرعية أيضاً) والتي تؤكد ان الإصلاح الزراعي أنقذ البلاد من أوضاع لاتتفق مع دين أو شرع كان الفلاح فيها يعاني أبشع أنواع العبودية في ظل إقطاع امتهن انسانيته وأكل حقوقه واستغله أبشع استغلال حتى كانت البهائم والكلاب تلقى معاملة أفضل مما يعامل به. إذا قلت ذلك هزت الدولة رأسها ولبست سياسة الدروشة وقالت بالفم المليان: هذا هو الشرع .. واسألوا المفتي! ويصدر القانون, ويفتح أبواباً لم تغلق حتى الآن, فطرد مليون فلاح ليس عملية سهلة, وتنشغل الدولة والمجتمع شهورا بالقضية, وتتركز على الجهود في تطويق الأزمة بعد أن سقط الضحايا وثارت القلاقل. وتكون الحلول المؤقتة للمشكلة التي قلبت الأوضاع في الريف .. وفي كل ذلك لانسمع صوت من أصدر الفتوى, فقد أدى المهمة وانتهى الأمر!! والقائمة طويلة ومثيرة للحزن على أحوال المسلمين وعلى حال الوطن. ولعل الضجة التي تثور حول لقاء شيخ الأزهر بحاخام اسرائيلي الآن تذكرنا بتاريخ طويل من الفتاوى والتصرفات التي ارتدت عباءة الإسلام زوراً, والتي شوهت موقف الإسلام وأضرت بالمسلمين حاضراً ومستقبلاً. فبعد زيارة السادات للقدس كان (سلاح الفتاوى) جاهزا بـ (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) . يومها سألنا وسأل غيرنا: وهل جنحوا؟ ولم يجب أحد, الأرض تحت الاحتلال, والقدس أسيرة .. وسيناء كانت كذلك. ويومها سألنا وسأل غيرنا: وأين الفتوى الرسمية التي صدرت بعد حرب 67 والتي تحرم التصالح مع العدو الاسرائيلي؟ ولم يجب أحد فالذي نشر الفتوى في مجلة الأزهر كان هو نفسه وزير الأوقاف الذي صفق لمبادرة السادات! نتذكر ذلك, لأن فضيلة شيخ الأزهر ذكرّنا به, وهو يقارن ما فعله بلقاء الحاخام بما فعله السادات بالذهاب إلى القدس, فالأمران يصدران عن شجاعة فائقة كما يرى الإمام الأكبر, ومن هنا فالذين ينتقدونه والذين انتقدوا السادات هم - في رأي فضيلته - جبناء وأذلاء. وهذه كارثة من يدخل دروب السياسة دون دراية, ومن يستخدم الدين في تدبير مواقف سياسية. إن فضيلة الإمام الأكبر له موقف من اليهود سجله في الستينات في رسالته للدكتوراه التي نشرت في كتاب أعيد طبعه هذه الأيام بعد (التنقيح) المناسب. لكن فضيلته انقلب على هذا الموقف من سنوات حين زار الولايات المتحدة وهو ما زال في منصب المفتي, ثم عاد يبشرنا بأنه سيزور القدس ولا مانع لديه من الذهاب لإسرائيل, وأن المهم هو ما سيقوله وليس المكان الذي سيقوله فيه. وبعد الضجة التي ثارت, ومع تطورات أخرى في الموقف السياسي العام, عاد فضيلته ليؤكد انه لن يذهب إلى القدس إلا إذا دعاه عرفات, ومع تدهور العلاقات المصرية الاسرائيلية, أكمل الشيخ تراجعه ليصرح بأنه لن يذهب إلى القدس إلا بتأشيرة فلسطينية, وهو تراجع على كل حال, رحبنا به دون أن ندري أن فضيلته لن يذهب لأن الحاخامات سوف يأتون إليه, وهو ماحدث, وما فشل الإمام الأكبر في تبريره إلا بأنه استأذن السلطة فأذنت له!! اننا نرفض الإساءة لمقام الأزهر الشريف, لا من الذين تجاوزوا الحدود في ردهم على فضيلة الشيخ, ولا من الشيخ نفسه الذي أساء لنفسه وللأزهر وللمسلمين مرتين .. مرة باستقباله للحاخام, ومرة أخرى حين فقد أعصابه ووصف منتقديه بما لاينبغي أن يصدر عن الإمام الأكبر للمسلمين. إننا نرفض الإساءة لمقام الأزهر الشريف, ولكننا أيضاً نرفض إضفاء القداسة على شخص مهما كان حتى ولو كان الإمام الأكبر نفسه, ونرفض اعتبار أي نقد له إساءة للأزهر وأي خلاف معه هو خروج على الدين, فنحن نختلف مع الرجل حبا في الأزهر والتزاما بالإسلام وبمصلحة الوطن. ولايجدي فضيلة الشيخ هنا أن يبرر ما فعل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فاوض اليهود, فهو أول من يعرف أن القياس خاطئ وأن الظروف تختلف, وأنه ليس النبي الذي يدعو وليس الحاكم الذي يقود المسلمين, وانما هو بشر يخطئ ويصيب .. وما أكثر ما أخطأ وما افدح الخطأ حين يكون بحجم فتح أبواب الأزهر أمام حاخام اسرائيل, وفتح أبواب التطبيع أمام الصغار والمهرولين. ولعلها الصدفة وحدها التي كشفت قبل أيام عن أن حاخام اسرائيل الأكبر قد طلب من القائد العسكري الذي احتل القدس عام 1967 أن يهدم المسجد الأقصى .. ورفض الجنرال خوفاً من العواقب. خليفة هذا الحاخام هو الذي استقبلته يا مولانا, والمسجد الأقصى ما زال في الأسر, والأرض المحتلة تطلب الحرية, وإذلال المسلمين هناك يتم تحت إشراف تحالف الجنرالات مع الحاخامات. أخطأت يا مولانا .. ولا مفر من الاعتذار!

Email